الذاتي والموضوعي في الخلاف بين علي ومعاوية

د. محمد أحمد الزعبي

الذاتي والموضوعي

في الخلاف بين علي ومعاوية

د. محمد أحمد الزعبي

بداية لابد من وضع القارئ الكريم في صورة فهمنا الخاص لمفهومي الذاتي والموضوعي ، من حيث أن الذاتي يشير إلى الخيارالحرالمتعلق بإرادة الإنسان ، قبولاً أو رفضاً ، في حين أن الموضوعي يشيرإلى العوامل غير الخاضعة لإرادة الإنسان .فعندما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن السابع الميلادي ، كان الصحابة  مثلاً، جزءاً من المجتمع الجاهلي السابق على الإسلام . وهو أمر موضوعي خارج عن إرادة هؤلاء الصحابة . ومن المعروف أن عم النبي ( أبو طالب ) والذي تربى الرسول في كنفه ، بل والذي حماه من محاولات قريش ثنيه عن إسلامه ، لم يسلم( بضم الياء ) خلال حياة الرسول ، ومعروف أن الرسول ( ص ) ظل يرجو عمه أبا طالب وهو على فراش الموت أن يعلن إسلامه ( قلها ياعمّاه ) ، ولكن أبا طالب اعتذر عن تلبية  طلب ابن أخيه ، لأنه سيصبح حينها غير قادر على حمايته من أعيان قريش . إن تعاليم الدين الجديد ، قد أزاحت عملياً الواقع الموضوعي القديم ( العصر الجاهلي ) ، وأحلّت محلّه واقعاً موضوعياً جديداً ( العصر الإسلامي ) ، ولكن هذه الإزاحة لم تكن  ـ بطبيعة الحال ـ لاكاملة ولا مطلقة ، وهو ماظهر لاحقاً في الصراع بين جناحي قبيلة قريش : الهاشمي والأموي ، أولاد وأحفاد الجد الواحد (عبد مناف  ) .

لقد كان الصراع بين الإمام علي بن أبي طالب ( رضي ) ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ـ  في تقديرنا ـ صراعاً قبلياً  تعود جذوره الاجتماعية إلى عصر ماقبل الإسلام ( العصر الجاهلي ) ، حيث كان الإنقسام وبالتالي الصراع القبلي هو سيد الموقف . ( ألا لايجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ) . ولقد جاءت مبادئ وتعاليم الإسلام ، سواء من خلال القرآن الكريم ، أو من خلال الحديث الشريف ، أو من  خلال سلوك الرسول نفسه ، نقيضاً موضوعياً جديداً لهذه القبلية .( ياأيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، الحجرات 13) . هذا وقد شهدت فترة الخلفاء الراشدين الأربعة بعد وفاة الرسول ، غلبة تعاليم  الدين الجديد ( العامل الذاتي / العامل الموضوعي الجديد ) في سلوك المسلمين  على العادات والأعراف  القبلية الجاهلية ( العامل الموضوعي القديم )، بيد أن هذه القبلية ، سرعان ماأطلت برأسها بعد مقتل عثمان ، وأخذت تزاحم الدين  الجديد ولكن كانت هذه المرّة ،  تحمل بإحدى يديها سيف التعصب القبلي، وبالأخرى القرآن والسنة . إن سماح الأمويين  بشتم الإمام  علي  (رضي)(الخليفة الرابع) من على منابر المساجد  إبان حكمهم ،  إنما كان موقفا قبليا و جاهلياً  صرفا ، وكان مرفوضا دينيا من معظم المسلمين الحقيقيين ، بمن فيهم الهاشميين والأمويين ( أبناء العمومة ) على حد سواء ، لأن شتم الإمام علي  من قبل بعض الأمويين ، كان ينطوي  عملياً على بعد ارتدادي عن ثوابت  ومبادئ الدين الجديد ، وبالتالي عودة إلى جاهلية ماقبل الإسلام . ومعروف كيف أن الرسول نفسه  قال لأبي ذرالغفاري ذات مره  وهو الصحابي الجليل المعروف ، عندما نال من أم أحد الأشخاص ، وكانت أعجمية ،   بقوله له  "  ياأبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية  " . 

إذا كانت الإساءة للإمام علي ( رضي ) مرفوضة دينيا ( إسلاميا ) ، فإن التنكر لخلافة إبي

بكر وعمر والطعن بأخلاق السيدة عائشة أم المؤمنين ،  إنما هو  أيضاً مرفوض ليس فقط دينيا ، وإنما أيضاً قوميا ، ذلك أن هذا الموقف السلبي  من أول خليفتين للرسول  قد  جاء بداية ونهاية ووسطاً على لسان  شيعة الفرس ، وليس على لسان الشيعة العرب ، بمن  فيهم الإمام علي نفسه  ، لابل جاء ( التنكر لخلافة أبي بكر وعمر )وهو يحمل في طياته جرثومة الشعوبية ( كره العرب ) ، والتي تحولت هذه الأيام  إلى مانراه من الطائفية البغيضة ، بداية على يد بني بويه،في القرن العاشر والحادي عشر ، ووسطاً  على يد  الدولة  الصفوية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ونهاية على يد آية الله الخميني في القرن العشرين  ، والذي يقاتل شيعته هذه الأيام  ( ماي ٢٠١٥ ) في بغداد ودمشق وصنعاء ،  دفاعاً عن  مراقد أئمة آل البيت  (!!) ذلك أنهم عرفوا فقط في القرن الواحد والعشرين أن الإمام  علي نفسه  ( رضي )،  وزينب والحسن الحسين والحسن العسكري والإمام الغائب إنما هم  مسلمون عرب هاشميون ومدفونون في المدينة و دمشق والكوفة والنجف وسامراء ،  أي في أرض  العرب ، أرض آبائهم وأجدادهم  ، وليس في أي مكان آخر . أي أن مراقدهم هي في رعاية  وحماية أهلهم وذويهم منذ أن توافاهم الله ( أو غيبهم ) وإلى يومنا هذا
 لقد مثل المذهب الزيدي ، الجسر الإسلامي المتين  الذي ربط بين خلافة  أبو بكر ، وعمر  وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم جميعا ، وما محاولة الحوثيين  المشبوهة التي نراها هذه الأيام في اليمن ، سوى نوع من الإرتداد الإسلامي  ( عن الزيدية ) والقومي   (عن القومية العربية)،وهي بالتالي استجابة  طائفية مدانة لشعار" تصدير الثورة "  (عمليا  تصدير ولاية الفقيه) ،الذي نادى به الإمام الخميني إلى الأقطار العربية،سواء القريبة  من  إيران  كالعراق ، أو البعيدة  عنها كاليمن وسوريا ولبنان . لقد أدرك الشعب اليمني ، بشوافعه وزيدييه ، أبعاد هذه اللعبة الطائفية ، ولذلك فقد وقف بكل مكوناته الإجتماعية والدينية والسياسية ضدها  ، وبات فشلها المحتم قاب قوسين أو أدنى . تماماَ كما هي حال نظام بشار الأسد  ( حوثيي سوريا ) ، الذي بدأت تلوح في الأفق بواكير انهياره .

إن  ما تعاني منه المنطقة العربية هذه الأيام ، ولا سيما في العراق وسورية واليمن  ، إن هو  - واقع الحال - إلا من مفرزات ذلك الماضي  ، بما له وما عليه ، و الذي أطلت فيه  كل من الشعوبية والطائفية  برأسيهما  ، بعد أن تم دفنهما وتجاوزهما وأصبحا في عداد الماضي  . إن جهات متعددة  ، داخلية وخارجية ، إسلامية وغير إسلامية ، عربية وغير عربية ، حاولت وتحاول  منذ القرن التاسع عشر وحتى هذه الساعة  إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، ونبش ذلك الماضي  ، وإعادة  تفعيله من جديد ، و هنا لا نملك إلا أن نقول  لمن أيقظ أو  مايزال يحاول إيقاظ  هذه الفتنة ( الشعوبية والطائفية ) :   "  الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها " . ويحضرني في إطار إيقاظ هذه الفتنة النائمة ، أن وزارة الدفاع الفرنسية ، وفي تحضيراتها الاستعمارية لاحتلال الجزائر عام ١٨٣٠ ، طلبت من المستشرق الفرنسي سيلفستر دي ساسي أن يترجم لها مقدمة ابن خلدون ، كيما تقف من خلالها على المكونات القبلية والإثنية والدينية للشعب الجزائري ، وبالتالي توظفها في تطبيق سياستها الاستعمارية في الجزائر، وبالذات في إطار سياسة " فرق تسد " الاستعمارية المعروفة ، والتي وظفتها وطبقتها فرنسا في سورية ، إبان المرحلة الإنتدابية مابين ١٩٢٠ و ١٩٤٦ ، والتي مازلنا نحصد  نتائجها المسمومة حتى اليوم .