الرد على صاحب فكرة القيم ليست وسيلة نقل عمومي
دأب موقع هسبريس على نشر الفكر العلماني مقابل التضييق على الفكر الديني ، ومرة أخرى أذكر بأن صاحب هذا الموقع اتصل بي ذات يوم يخطب ودي ويرحب بقلمي ، وأخذ ينشر لي مقالين أسبوعيا، فلما تبين له توجهي الإسلامي أرسل لي ذات يوم رسالة يخبرني فيها أنه سيحجم عن نشر مقالاتي بسبب سجال كان بيني وبين أحد العلمانيين ، وتأكدت يومئذ أن هذا الموقع واضح الانحياز للتوجه العلماني ، وإذا ما نشر بعض المقالات ذات التوجه الإسلامي إنما يفعل ذلك من باب ذر الرماد في العيون ، وحتى المقالات النادرة المحسوبة على التوجه الإسلامي إنما ينشر منها ما يمكنه استثماره لترجيح كفة التوجه العلماني إلا في حالات نادرة يكون فيها مضطرا ولا مندوحة له عن ذلك . ومن الأقلام التي يفسح لها المجال موقع هسبريس قلم العلماني الطائفي المدعو عصيد الذي لا تفوته فرصة دون التعريض بالتوجه الإسلامي فكرا وسياسية واجتماعا واقتصادا ... وغير ذلك .وتوجد أقلام علمانية أخرى يتبناها هذا الموقع منها الصريحة المكشوفة ، ومنها المنافقة المدسوسة . وقلم عصيد صريح مكشوف الهوى . ومما نشر له مقال يدعي فيه أن القيم ليست وسائل نقل عمومية . ومن أجل أن ينتصر لتوجهه العلماني الذي يرفع من شأن الفرد ويطلق حريته دون ضوابط زعم أن القيم ليست ملزمة للأفراد تماما كما تقلهم وسائل النقل العمومي أو تضطرهم للاجتماع مع اختلاف مشاربهم وهمومهم وتوجهاتهم. وصاحب هذا التوجه يهدف إلى نفي روح الاجتماع التي تعد ركنا أساسيا في التوجه الإسلامي الذي لا يرفع قدر الفرد فوق قدر الجماعة . ولا شك أن عصيد يعرف جيدا حديث السفينة الذي يكفي مثالا لدحض فكرته . ومعلوم أن كل من له إلمام بالإسلام يعرف جيدا الطابع الاجتماعي لهذا الدين الذي تعتبر فيه المسؤولية جماعية لا فردية . ومع استثناء بعض الواجبات التعبدية التي تؤدى بطريقة فردية فإن غالبية العبادات والمعاملات لا تنجز إلا بطريقة جماعية حال أصحابها كحال ركاب سفينة تمخر عباب البحر ، ولا سبيل لنجاة من على ظهرها إلا بالتمسك بروح الجماعة وبالتصرف الجماعي . وكتاب الله عز وجل ينص على وجود جماعة يسميها الأمة كما جاء في قوله تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) فهذا النص يجعل القيم بمثابة وسائل نقل عمومية خلاف ما ذهب إليه العلماني الطائفي الذي ينادي بمجتمع يفعل فيه كل من شاء ما يريد تحت شعار حرية الفعل الفردي. إن التوجه الإسلامي ينص على التزام جماعي يلزم الأفراد لأن مصالحهم مشتركة ومتداخلة . ولا يمكن الحديث عن أمر بمعروف أو نهي عن منكر خارج إطار الجماعة ، ولو أراد فرد القيام بهذا الواجب الديني وحده لكان لحنا ناشزا ،ولظن به الخبل والجنون . ولنا العبرة في رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم حين كانوا يقومون بواجب الدعوة فرادى فترفضهم جماعاتهم أو أقوامهم ، ولا يستقيم أمر دعوتهم إلا في إطار جماعة تدعمهم .ولقد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والشعر في بداية دعوته ، فلما صدقته جماعة واعتقدت بدعوته لم يعد ينعت بذلك . ولقد ثبت عبر التاريخ أن الأمة الإسلامية كانت تمارس صلاحية شعبية جماعية كما يقول المفكر الإسلامي التونسي الدكتور عبد المجيد عمر النجار في كتابه القيم : " فقه التدين فهما وتنزيلا ". ولا يمكن تنزيل المشروع الإسلامي إلا بوجود سند جماعي . ولنعد إلى زعم عصيد بأن القيم ليست وسائل نقل عمومية لنقول إن الأفراد الذين يمتطون هذه الوسائل ينخرطون في جماعة رغما عنهم ،ولا يمكن لفرد منهم أن يتصرف داخل هذه الوسائل بحرية مطلقة لا كوابح لها ، ذلك أن الانخراط في الركوب الجماعي لها يعتبر كابحا لحرية الأفراد الراكبين . وكما أن ركوب وسائل النقل العمومي تفرض قيما معينة على من يمتطيها ،فإن الاشتراك في وطن يفرض أيضا قيما معينة حيث ينتقل الأفراد من ركوب وسائل نقل عمومية إلى ممارسة الحياة العمومية ليس وفق أهوائهم الفردية الخاصة ،وإنما وفق ما يفرضه وجودهم الجماعي وهو عبارة عن بوتقة تنصهر فيها الأهواء الفردية لينتج عنها هوى جماعي يكتسب مصداقيته من مصداقية الجماعة ،وهي مصداقية لا تتأتى للفرد وحده وبهذا التصور يجد التوجه العلماني الذي يدعو إليه عصيد وأمثاله نفسه أمام حرج كبير حين يعتقد بأن الفرد لا تلزمه القيم وهي جماعية بل هي تلزمه تماما كما يضطر لركوب وسائل النقل العمومي . و أخيرا ما أظن متعصبا طائفيا وإيديولوجيا سيذعن للحق ، وأنه سيظل على عناده يعيش وسط أمة لها قيمها حقيقة ومع ذلك يكابر بأنه خارج سلطة وتأثير هذه القيم . وقد يختلف ركاب النقل العمومي في جنسهم وأعمارهم وأزيائهم وأحوالهم... ولكنهم جميعا تحت سلطة الركوب التي توحدهم كما توحدهم القيم .