بداية النهاية

أ.د/ طه جابر العلواني

أمريكا والشذوذ الجنسي:

قضت المحكمة العليا الأمريكيَّة يوم الجمعة بالسماح بزواج المثليين في كل الولايات البالغ عددها 50 ولاية.

وكتب القاضي أنتوني كينيدي في نص الحكم أنَّ المثليين الذين يعتزمون الزواج "يجب ألا يحكم عليهم بالوحدة وأن يستبعدوا من واحدة من أقدم مؤسسات الحضارة، إنَّهم يطالبون بأن يحظوا بنفس الاحترام في عيون القانون، والدستور يمنحهم هذا الحق".

وقال أوباما أول رئيس يؤيد حقوق زواج المثليين وهو في الحكم في تغريدة على تويتر: اليوم خطوة كبيرة في مسيرتنا نحو المساواة. الأزواج المثليون رجالًا ونساءً بات لهم الحق الآن في الزواج مثل غيرهم".  

كما قالت هيلاري كلينتون، وهي الأوفر حظًا للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة عام 2016: إنَّها فخورة بالاحتفال بنصر تاريخي للمساواة في حقوق الزواج.

وقد عشت في أمريكا وما أزال ما يزيد عن ثلاثين عامًا، ورأيت كيف بدأت الأصوات الشيطانيَّة تروج للجرائم الأخلاقيَّة بشتى أنواع الترويج مرة تقول: Homosexuality أو الشذوذ الجنسي عبارة عن مرض، لا يلام عليه صاحبه ولا يؤاخذ، ومرة تقول: إنَّ أي مساس بالسلوكيَّات الفرديَّة والتصرفات الإنسانيَّة يعد اعتداء على الحريَّة الشخصيَّة، وحقوق الإنسان. وكنت أفسر ذلك دائمًا بقوله تعالى: ﴿.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (النمل:24)، وأدركت تلبيس إبليس، وكيف يلبس على الناس دينهم، ويغير مفاهيمهم، ويلعب بمصطلحاتهم، فالزنا يصبح حبًا، والشذوذ الجنسي يصبح حريَّة شخصيَّة، وما إلى ذلك.

وأذكر أنَّ محطة تلفزيونيَّة طلبت أن تجري مقابلة معي تناقشني في الشذوذ الجنسي، وأذنت لهم، فزاروني في مقر جامعة العلوم الإسلاميَّة والاجتماعيَّة في ليزبيرج/ ﭬـرجنينا، حيث كنت رئيسًا لها، واستمرت المقابلة ساعة، أكدت لهم فيها أنَّ الشذوذ الجنسي بقطع النظر عن الموقف الشرعي فإنَّه يعد جريمة ضد الحضارة وضد الإنسانيَّة وضد المجتمعات، فالحضارات لا تبنيها إلا شعوب قويَّة متينة، تربت على العلم والمعرفة، وعرفت مصادر القوة، ومصادر الضعف، واتصف إنسانها بالقوة والأمانة، أمَّا الضعفاء والجهلاء والأغبياء، والمنصرفون إلى شهواتهم وذوات أنفسهم فإنَّهم لا يؤسسون لحضارة ولا يبنون عمران، بل يدمرون المجتمع.

وقلت لهم في حينه: تخيلوا لو أنَّ الرجال في أمريكا كلهم انصرفوا للزواج بأمثالهم بأي شكل من الأشكال، ولم يعودوا يقربون النساء، واكتفى النسوة الأمريكانيَّات بنسوة مثلهن، يركبن ذكورًا بلاستيكيَّة ليمارسن الجنس بعيدًا عن الرجال ومخاطر العلاقات معهم، فإنَّ ذلك يعني أنَّ أمريكا قد تعيش جيلًا أو جيلين ثم تنهار حتمًا وتنتهي مهما كانت مواريثها الحضاريَّة. وقلت لهم: إنَّ الذين أسَّسوا أمريكا ووضعوها على الطريق الذي جعل منها القوة الأعظم في العالم كانوا من أولئك المتدينين Puritans الأوربيون الذين اضطهدوا لتحولهم المذهبي وتمسكهم بمذهبهم، والتزامهم بأصول تدينهم، فلما هاجروا إلى أمريكا كان الدين والقيم رائدهم، حتى إنَّهم سموا ملك بريطانيا جيمس الأول الذي اضطهدهم على تغير مذهبهم وتمسكهم به بفرعون، ثم سموا المحيط الذي عبروه إلى أمريكا بأنَّه البحر الأحمر، ونشروا بين المهاجرين أنَّهم في أمان من ركوب المحيط المخيف الذي كان العرب يسمونه بحر الظلمات، في أنَّ الله سينجيهم كما نجى موسى وبني إسرائيل من فرعون لو حاول جيمس الأول وغيره متابعتهم لإعادتهم بالقوة إلى بلدانهم، ولما وصلوا أمريكا أطلقوا عليها أرض الميعاد، وبدأوا أول وصولهم إليها بسجود الشكر، على نجاتهم من فرعونهم وملئه، وما يزال عيد الشكر (Thanksgiving) في الخامس والعشرين من نوفمبر يعتبر أهم الأعياد الأمريكية، إن لم يكن هو العيد الأهم الذي لابد للأسرة الأمريكية أن تجتمع فيه لتناول وجبة عشاء التركي، مع الذرة؛ لأنها حسب تاريخهم كانت الأكلة الأولى التي قدمها سكان أمريكا الأصليين لهم لينقذوهم من الموت بعد وصولهم الشاطئ، ثم بدأوا في العمل في هذه القارة المترامية الأطراف وأخطأوا في بعض الأحيان وأجرم بعضهم ضد السكان الأصليين في أحيان أخرى، لكنَّهم استمروا حراسًا للقيم المسيحيَّة التي حملوها، ومستمسكين بدينهم ومذاهبهم إلى أن انتهت ببناء هذه القارة المترامية الأطراف، ووحدوا إحدى وخمسين ولاية فيها، وبقيت القيم التي يحرصون عليها إلى خمسينيَّات القرن الماضي بالتراجع والاختراق، لكن المقاومة أيضًا كانت شديدة، فلم تؤتِ ثمارها آنذاك. ثم إنَّهم لما كرسوا مفهوم الحريَّة وجعلوه أعلى من جميع القيم أرادوا بذلك حماية حريَّة التدين؛ لئلا يعاني أحد مثلما عانوا في أوروبا وفي بريطانيا خاصَّة من الذين لم يكونوا يحترمون هذا النوع من الحريَّة.

 فإذا بقيت عمليَّات الاختراق والتغيير التي قادها الشياطين شياطين الإنس والجن لتصبح هي القانون السائد، فاعلم أنَّ ذلك دليل على أنَّ هذا البلد قد أعلن بداية التراجع، والتنازل عن القيم الحضاريَّة والوطنيَّة لصالح مجموعة من الشهوات ﴿.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (النمل:24)، وبالتالي فإنَّ هذه الرذيلة الشذوذ الجنسي ما ظهر في قوم في التاريخ إلا وانتهوا إلى الدمار، والهلاك، ويفترض أنَّ الأمريكان والأوربيين على وعي بما حدث لقرى قوم لوط، وما زالوا يعرفون سدوم وعمورة. ولوط كما نعلم جميعًا ويعلم حملة كل دين قال لقومه: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (الأعراف:80-84)، ولما لم يغيروا حقت عليهم الكلمة، وجعل الله عالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل، ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود:77-83)، ولا تزال آثارهم ظاهرة بينة في بلاد الشام. وأمريكا في طريقها إلى ذلك، ما دامت قد رضيت بهذا الانحراف المدمر، وبهذه الجريمة الأخلاقيَّة البشعة تحت شعار الحرية والمساواة، وكان لها رؤساء يهنئون أنفسهم على السقوط في هذه الجريمة، فالمسرفون لا يمكن أن يبنوا حضارة، وإذا تولوا قيادة حضارة فإنَّهم لن يتمكنوا من القيام عليها طويلًا، أو المحافظة عليها.

انتشار هذه الجريمة في بلاد المسلمين:

إنَّ أزمة المسلمين أنَّهم منذ أن هجروا كتابهم وفقدوا حضارتهم، وتقدمهم، وموقعهم في العالم، يسيرون خلف كل ناعق، ويتبعون كل شيطان مريد، ويخضعون لقواعد يؤسس لها إعلام منحرف يمثل في غالبه أبواق الشياطين، ونعيق الغربان؛ ولذلك وجدنا نتيجة ظروف مختلفة أنَّ كثيرًا من شبابنا بدأوا بعد أن شاعت تلك الفاحشة وانتشرت -فصارت لها نقابات ومؤسَّسات تنتشر بينهم، ويقودهم الإحباط وفقدان الآمال وعمليَّات الإخصاء السياسي والاقتصادي وانعدام الفرص والبطالة- يقادون إلى هذه الفاحشة، ويسقطون فيها. ولقد أسست لها تجمعات ففي الباكستان لهم تجمع وجمعيَّة وما يشبه النقابة، تدافع عمَّا يسمونه حقوقًا لهؤلاء، ولهم صلات وثيقة بتجمعات الشاذين في أوروبا وأمريكا، ومنذ سنوات خرجت مظاهرة في الكويت شارك فيها حوالي ثمانمائة من الشاذين يطالبون بمنحهم حريَّة ممارسة هذه الفاحشة، وفي بلدان أخرى تنتشر أيضًا بشكل كبير، خاصَّة في الأماكن التي يَقِل فيها الوعي الديني ويشعل الإعلام فيها الشهوات، وتتعقد فيها إجراءات الزواج الشرعي، فيقبل بعض الشباب الذي لديه استعداد لهذا الانحراف على السقوط فيه.

ولقد رأيت في أمريكا وفي واشنطن العاصمة مجموعة من هؤلاء أسسوا لهم مسجدًا، سموه -للأسف الشديد- مسجد الفاتحة، ويؤمهم إمام منهم، ويغلب عليهم حين تراهم ارتداء الملابس النظيفة اللطيفة والبدلات الغاليَّة، وما إلى ذلك، ولقد انتهت مناقشتي مع تلك المحطة بسؤال من مندوبيها -ولم أعلم أنَّ هؤلاء جميعًا كانوا من الشاذين جنسيًّا إلا بعد أن سجلوا لي كل شيء- ما عقوبتهم في الإسلام؟ قلت: لا أقل من عقوبة الزنا، التي وردت في كتاب الله، ويمكن أن يبلغ العقاب في اليهوديَّة حد الرجم، ولا مانع لدي باعتبار الرجم عقوبة مشددة قد تحمل هؤلاء على التردد في ممارسة هذه الرذيلة، وانتهى اللقاء ولم يمض غير أسبوع فجاءني استدعاء من المحكمة في نيويورك يطلب حضوري أمام القاضي لمواجهة اتهامي بالتفرقة العنصريَّة والدينيَّة ضد الشواذ، وقد تغرمت مالًا واستأجرت أكثر من محام للدفاع عني، واعتبار أنَّ ما قلته هو ليس تحريضًا عليهم، بل وصف تاريخي لهذا الأمر، وحمدت الله على النجاة من السجن بهذه التهمة الخطيرة، وحمدت الله أنَّني لم أحضر بنفسي هذه المحاكمة؛ لأنَّني لو حضرتها لبينت الحكم الشرعي، كما أفهمه وأعرفه، وربما دخلت السجن بهذه التهمة لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

يا قومنا أجيبوا داعي الله، وتوبوا إليه واستغفروه، واعلموا أنَّ هؤلاء الذين يبيحون جرائم مثل هذه لا يمكن لهم أن يحموا أحدًا، ويستحيل عليهم أن يصونوا ملكًا، أو ينتصروا لحليف، ولعل مواقفهم من جميع القضايا العربيَّة والإسلاميَّة تنم على أنَّ من شذ جنسيًّا وابتلي بهذه الانحرافات لا أمان له، ولا ثقة به، ولا اعتماد عليه، ﴿.. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور:31).

وسوم: العدد 624