سلمية الإخوان .. في الميزان
نتفق ونختلف مع الإخوان المسلمين في قضايا كثيرة، هذا طبيعي، ولكن غير الطبيعي أن تستهدف سهام السلفية - بشقيها الرسمي والجهادي - فكر الإخوان بافتراءات سمجة متهافتة ينقض بعضها بعضاً!
فالإخوان - في نظر السلفية الرسمية - مُميِّعون للدين في سبيل وحدة الصف والكلمة "نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضُنا بعضاً في ما اختلفنا فيه"، وفي نفس الوقت هم منشأ ومصدر التشدد والتطرّف والإرهاب وشقّ الصف وتفرّق الكلمة!
وهم - في نظر السلفية الجهادية - مبتدعون وأصحاب ضلالة (ومرتدّون لدى غلاتهم) بقبولهم القوانين الدستورية "الوضعية"، وخوضهم المعارك السياسية البرلمانية، وعملهم في إطار الدولة القُطرية، وفي ذات الوقت مضيّعون لمبادئ المؤسس البنا الذي أرسى هذه المعاني بلا مواربة!
منذ نشأة النظام الخاص للإخوان المسلمين في مصر، قيّد حسن البنا نشاطه في تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية ضد الاحتلال الإنجليزي، إلا أن طبيعة التنظيمات العسكرية السرية كهذا التنظيم، أن تنفصل رويداً رويداً عن الجسم السياسي أو الشرعي لها، وتنفرد بقراراتها، أو تحاول "تجيير" السياسي لأهدافها المستقلة، فسرعان ما بدأ النظام الخاص بتنفيذ عمليات اغتيال داخلية ضد شخصيات مصرية مناوئة للدعوة، ودون موافقةِ أو علم البنا، وخرج التنظيم بهذا عن نطاق السيطرة، وبدأ يُثقل كاهلَ الدعوة بتصرّفاته وحماقاته غير المحسوبة، وترسّخ بهذا منهجُ الإخوان في حصر الجهاد العسكري ضد العدو الخارجي المحتلّ الظاهر، فكانت لكتائب الإخوان في حرب فلسطين سنة ١٩٤٨م صولات وجولات مشهودة ومؤرخة ضد المحتل الصهيوني.
فيما اقتصر منهجهم الداخلي على المحاولات طويلة النفس لإصلاح الحكومات القُطرية القائمة، بكافة الوسائل القانونية والسياسية والدستورية المتاحة - وغير المفعّلة غالباً -، وتجنّب المواجهة المسلحة مع الحكومات المستبدّة مهما بلغ إجرامُها وجبروتها، ليس خوفاً منها أو ممالأةً لها، ولكن حرصاً على الدماء والأعراض والأوطان والمكتسبات التي لن تمثل شيئاً للطغاة يستحقّ المحافظة عليه، خاصة مع تكرار الفكرة الطاغوتية الصريحة بأنه لا بأس في التضحية بنصف الشعب في سبيل إخضاع النصف الآخر!
"سِلميّتنا أقوى من الرصاص" عبارة أطلقها المرشد الآنيّ للإخوان، تستحق التقدير والاحترام لسببين، لأنها امتداد للفكر الذي نشأت عليه الجماعة بلا تغيير أو تمييع، ولأن كون حياة الرجل على المحكّ في سجون الطغاة، لم يَجنح به ذلك إلى التطرّف وتغيير أو تبديل الفكر، كما يحصل في أحوالٍ مماثلة لمن لا مبدأ له، أو من يعيش حالة تقلقل وترنّح فكري، لأن القضية - بالنسبة للمرشد بديع ورفاقه - قضية مبدأ ثابت لا ردّة فعل متغيرة.
قد ننتقد الإخوان في أمور كثيرة:
- في نشاطهم الدعوي - مثلاً - الذي خبا بعد رحيل حسن البنا والرعيل الأول، بما يتميّز به مؤسّسو الدعوات عادةً من إخلاص وحماسة.
- في تكرار أخطاء سياسية بالثقة غير الحذرة بالحكومات العسكرية في كل مكان - مصر والسودان والجزائر مثلاً - متناسين أن العسكر في العالم الثالث منظومة استبدادية واحدة، يدعم بعضُهم بعضاً.
- في استعجال قطف الثمار في بعض التجارب أحياناً، قبل اكتمال أسباب التمكين.. وما جرّ ويجرّ ذلك إلى نتائج عكسية سلبية، تقهقر الدعوة عقوداً إلى الوراء، بخلق مبرّرات للانقلابات الطاغوتية العسكرية، وتشديد القبضة "الأمنية"، أمام شعوب مُستلَبة الإرادة مغتالة الوعي.
ننتقدهم في أمور كثيرة.. ولكن لا نملك أن نزايد عليهم في تمسّكهم بفريضة الجهاد وفق فهمهم، وضدّ مَن يُحمَل السلاح، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا النهج، فهو نهجهم منذ نشأتهم، ولا قيمة لمحاولة "القاعديين" خلق قطيعة بين نهج البنا والإخوان اليوم، وهو - أي البنا - الخليق بأوصاف الابتداع والتضليل وفق منهج "القاعدة السلفية" لأسباب لا حصر لها، ليس أقلها إيمانه بالتغيير السياسي الديمقراطي - بعيداً عن الجدل حول الجدوى -، ولا فهمه للعلاقة مع أتباع الأديان والطوائف، ولا مشروعه النهضوي التدرّجي، ولا هيئة لباسه "الإفرنجية" التي تكفي وحدها لتصنيفه لدى هؤلاء!
تتلخص وجهة نظر الإخوان حول المقاومة السلمية (في الصراع الداخلي) والتي قد تطول، في أنها أجدى في كسب الدعم الشعبي، وتقليل الخسائر البشرية والمادية، والحفاظ على وحدة الصفّ الأهلي الداخلي، وقطع الطريق أمام الطواغيت لاستئصال الدعوة وإحكام طوق الاستبداد.
وهناك تجارب كثيرة برهنت على جدوى السِّلمية في الصراع الداخلي، باختلاف ظروف كل دولة وكل تجربة بطبيعة الحال، أقربها إلينا تجربة أردوغان ورفاقه في تركيا، وقبلها تجربة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وتجربة مارتن لوثر كينج في أميركا، وغاندي في الهند.
هذا لا يجعل كلَّ مَن حَمَل السلاحَ ضد حكومات مستبدةٍ مخطئاً بالضرورة أو مجانباً للحق، فللظروف والضرورات أحكام، وللاجتهادات في فهم الشريعة احترام، ولقياس وترجيح المصلحة والمفسدة اعتبار.
فحينما يبلغ الأمرُ - في الصراع مع الاستبداد - حدّ وجود "إسلام" لا وجود "جماعة" فحسب، يصبح من الواجب دفع الصائل الداخليّ بكلّ الوسائل المتاحة بما فيها العسكرية، وحث وتحريض مكوّنات الشعب، وإشراكه في المعركة المقدّسة للدفاع عن العقائد والثوابت.
فصراع الإخوان المسلمين في سورية مع نظام الأسد البعثي، دفع الأخيرَ إلى خلق تيار "إسلامي" شكليّ، خاضع لسلطته، وإظهار نوع من المرونة مع غلاة التصوّف ومدّعيه، بعد أن كان البعث يجاهر ويصرِّح بعدائه وحربه على الإسلام، بل وصل الأمر في أتون المعركة بحافظ الأسد إلى أن يعلن في أحد خطاباته الشهيرة، بأنه يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله!
فكان من إنجازات هذه المعركة - إن صحّ أن تسمى إنجازات - أن أجبر الإخوان نظامَ البعث على أن يركز معركته ضد الجماعة، لا ضدّ الإسلام كلِّه! وألجأوه لسياسة لا تؤدّي إلى استئصال كليٍّ للإسلام.. وكان الإخوان بهذا قربان هذه المحنة التي كادت تعصف بدين الأغلبية في سورية.
ذلك هو نهج الإخوان - اتفقنا أو اختلفنا معهم - منذ انطلقت دعوتهم، لم يتغيّر ولم يتبدّل حتى الساعة على الأقلّ، رغم كل ما مرّت به دعوتهم من حرب شعواء، وما مرّ به رجالهم من محن هوجاء.. فهل سيستمرّ النهج وينتصر السِّلم؟!
وسوم: العدد 624