وماذا لو فعلها الإخوان المسلمون؟

لو فجأ الإخوان العالم بأسره بإصدار بيانٍ بتخليهم عن الثورة، وأنهم على استعداد للعودة إلى العمل التربوى دون الخوض فى مجال السياسة، وأن مطلبهم الوحيد هو الإفراج عن جميع معتقليهم والسماح لهم بالعمل الدعوى فقط، وصرف تعويضات لأهالى الشهداء والجرحى، وأعلنوا أنهم يُرجعون أمر الثورة لجموع الشعب المصرى، فالشعب هو مصدر السلطات –كما يقولون-، ومن ثم فعليه تحمل تبعات ثورته، إذا أراد استكمالها، وله أن يتوقف عن مساندتها أو الاستمرار فيها كيفما شاء. 

لو صدر بيانٌ عن جماعة الإخوان المسلمين بهذا المضمون، فلسوف ترى ثورة عارمة من الإخوان -كل الإخوان- المعارض لقرارات الجماعة قبل المؤيد لها، لأن هذا البيان لوصدر لكان بيان السقوط للجماعة فى عالم المجهول، ولباتت الجماعة فى طى النسيان عند الكثير وعالم الذكريات عند القليل وهم قيادتها وكوادرها، سوف ترى رفقاء الإخوان فى الثورة من كافة الاتجاهات المشاركة لهم، بل ومن ثوار يناير والمختلفين مع الإخوان، سوف ترى كل هؤلاء وأولئك غاضبين من هذا البيان، ويطالبون الإخوان بالتراجع، لأنهم يعلمون أن ثورتهم لن تؤتى ثمارهاإلا بوجود الإخوان معهم، وأن انسحاب الإخوان من الثورة هو بمثابة إعلان نهائى باستقرار نظام حكم االعسكرى حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.

لو صدر هذا البيان لرأيت كل حاقد على الإخوان، من السياسيين أو من المفكرين الليبراليين أو الشيوعيين، أو من الفنانين والفناناتومن الغوغائيين  ومن المغيبين و من الجهلة، لرأيت كل هؤلاء ينزلون إلى الشوارع والميإدين ابتهاجاً بهذا البيان وترحيباً به، بل سترى كثيراً من زعماءالدول -الغربية منها بالذات– يصدرون البيان تلو البيان، ترحيباً وتأييداً لبيان الإخوان بالتراجع عن الثورة ضد النظام، ولا يمكن تصور ذلك دون صدور بيان من الأمين العام للأمم المتحدة.

الابتلاءات التى تعرض لها الإخوان منذ نشأتهم عام 1928 كانت شديدة ومؤثرة على مسيرتهم، لكن الابتلاء الأكبرفى 3|7|2013 هو الأشد تأثيراً والأكثر إيلاماً لنسيج الجماعة منذ نشأتها، قتل وجرح واعتقال قيادتها والكثيرين منكوادرها، وإغلاق قنواتها الفضائية بعد حرق مقرات حزبهم "الحرية والعدالة" فى كل مدن الجمهورية، فضلاً عن المطاردات التى لم تتوقف لمن يشك الأمن فى أمره، متعاطفاً مع الإخوان، أم يفكر مجرد تفكير فى أن يتعاطف معهم مستقبلاً.

هذا الابتلاء الشديد تسبب بلا شك فى تخلى البعض عن مبادئه والانسحاب بعيداً عن الجماعة، وآثر الإنزواء اتقاء آثار الفتنة وتوابعها المؤلة، وهناك من انتقد الكثير من قرارتها وخاصة قرار الدخول فى انتخابات الرئاسة، وتمنى تخلى الإخوان عن الثورة منذ أن حدث الانقلاب على الرئيس مرسى وعزله، حتى ولو أعلنت الجماعة حل نفسها بنفسها، فليس هناك فائدة ستعود على الإخوان لو استمرت الأحوال على ما هى عليه، بل ستخسر الجماعة العَظم قبل اللحم، ولن يتبقى لها إلا الآلام والمعاناة.

يزعم الكثير بأن انسحاب جماعة الإخوان هو الحل الأمثل، فليس فى الإمكان أبدع مما كان، وينسى هؤلاءأن هناك تقيماً موضوعياً لأى أمر من الأمور أو حدثٍ من الأحدث، بلا تهويل وبلا تهوينٍ، فالتقييم يحتاج لعمق تفكير وسعة أفق، فالناظر إلى جماعة الإخوان المسلمين يعلم أنها أُنشئت عقب إسقاط الخلافة الإسلامية بعدة سنوات لتجديد الإسلام على يد مرشدها الأول حسن البنا، ولم تتوقف الحرب عليها منذ ذلك الحين، من الحكومات ومن القصر ومن الإنجليز، واستؤنفت تلك الحرب عليها من جمال عبد الناصر وأتباعه بالقتل والاعتقال والمطاردة وتشويه صورتها 

إعلامياً ومحو تاريخها الناصع فى خدمة العباد والبلاد وجهادهم فى أرض فلسطين وكذلك ضد الإنجليز فى مصر، ثم أراد الله لهم هدنة على يد الرئيس أنور السادات منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى، وحتى قبيل نهاية حكمه، ثم حَكم حسنى مبارك، فكانت مدة حكمه هى فترة اللاسلم واللاحرب مع جماعة الإخوان، واستطاعت الجماعة الانتشار فى أكثر من سبعين دولة من دول العالم.

قابلت جماعة الإخوان المسلمين معوقات ومشاكل كثيرة، ومع ذلك حققت نجاحات هائلة فى مجالاتٍ شتى، ففى مجال التربية فاستطاعت الجماعة تربية أجيالٍ عديدة على الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الإسلامية يشهد لها الخبراء والعلماء، وفى العلاقات الاجتماعية فقد استطاعت الجماعة الوصول بأفكارها إلى معظم المدن والقرى والبيوت والعائلات، وتمكنت من تغيير الكثير من العادات والتقاليد المخالفة للقرآن والسنة، بل وأحيت سُنناً كانت قد ماتت منذ زمنٍ طويل فى الغناء وفى الأفراح والمآتم، وفى النقابات المهنية تمكنت الجماعة من تحقيق نجاحات هائلة، تنظيم رحلات للمصايف، رحلات جماعية و تنظيم معارض بيع الأجهزة المعمرة لأعضاء النقابات باأسعار معقولة ومساعدات مالية لمن يستحق، وصنعت لها رموزاً انتخابية فى معظم المحافظات طالما نالت ثقة الناخبين، وشاركت الجماعة فى الاقتصاد بإنشاء شركات ومصانع، فضلاً عن المجال السياسى، فى المجالس المحلية والمجالس النيابية، ورغم القوانين الاستثنائية والعراقيل التى كان نظام مبارك يضعها ضد كوادر الجماعة، وكذا الاعتقالات التى لم تتوقف لهم، فإن الجماعة استطاعت أن تؤثر إيجاباً فى الحياة المصرية السياسية، وتبعتها فروعها فى العديد من دول العالم فى معظم تلك المجالات.

ولا يستطيع أى مُنظّر أن يشكك فى تحقُق تلك النجاحات لجماعة الإخوان، حتى وإن كان من كارهيها، ولا أن  يقلل من شأن تلك الجماعة ولا على قدرتها على العودة أقوى مما  كانت عليه، فما أكثر المواقف التى تعرضت لها الجماعة وظن الناس أنها انتهت إلى الأبد ولن تعود مرةً ثانية، وتأكيداً لذلك ما قاله الدكتور "مصطفى الفقى" عن رحلته إلى أمريكا مصطحباً معه الممثل "حسين فهمى" وما رآه من تعاطف من المسلمين الكثيرين  مع تلك الجماعة، وكذلك فلا يخفى على المتابعين أن مويدى جماعة الإخوان لم يختفوا عن الشوارع والميادين رغم ظروف القهر والاعتقال والتصفية الجسدية، فضلاً عن المؤيدين الخائفين، الذين سيختفى خوفهم بمجرد عودة الشرعية قربت أم بعدت.

وعند تقييم جماعة الإخوان المسلمين ينسى البعض أن "توماس ألفا أديسون" صاحب الألف اختراع، حاول 999 مرة قبل أن ينجح في اختراع المصباح الكهربي، فمواجهة الفشل ليست نهاية المطاف، بل إنهاخطوة مهمة على طريق النجاح، فإذا ما استطاعت جماعة الإخوان المسلمين الوصول إلى كرسى الرئاسة، ولو بصورة شكلية، فإن المراقب الكيس الفطن لا يستطيع أن يشكك فى قدرتها على الوصول مرة أخرى آخذةً فى الاعتبار أخطاءها السابقة، التى ينبغى عليها ان تستفيد منها أيما استفادة.

ويقول تعالى: (وبقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا) "الإسراء51".

وسوم: 635