«سوريا ...الله حاميها»

أصبحتْ هذه العبارة جزءًا لا يتجزَّأ من الحالة «السِّياسيَّة»، و«الاجتماعيَّة» السُّوريَّة، مع اختلاف وجهة نظر كلٍّ منهما إليها، وإن كان «المنشأ» في تأصيلها واحدًا؛ فـ«النِّظام» السِّياسيّ يردِّدُها، ويتغنَّى بها؛ لأنَّه يرى نفسه «الحامي» و«الحارس» لهذه البقعة «المباركة»؛ ويرى أنَّه يقف في وجه «مؤامرة كونيَّة» تهدِّدُها، وتسعى إلى «احتلالها» وتدميرها، في حين أثبتَ الواقع – إن صحَّ وجودُ هذه المؤامرة – أنَّه الأداة التَّنفيذيَّة الوحيدة، والوكيل «الحصريّ» لها في تحقيق أهدافها ومرادها.

بل إنَّ «النَّظام» يرى ضرورة التَّعاون والتّنسيق مع أي قوَّة «أجنبيَّة»، وإن أدَّى إلى إدخالها «الأرض السُّوريَّة» في سبيل تحقيق مقولة: «سوريا الله حاميها»؛ وإن كان الأمر في حقيقته من وجهة نظره التي أثبتها الواقع منذ سنوات أنَّ «سوريا» تعني بالضَّرورة عنده «السُّلطة» وأن يكون على «هرمها»، وأنَّ العناية الإلهيَّة لها تعني بالضَّرورة العناية الإلهيَّة لـ«الأسد» فيما يزعمُ.

لكنَّ ما يثيرُ التَّفكير أنَّ النَّظرة «الاجتماعيَّة» لهذه المقولة لا تختلف كثيرًا عن وجهة النَّظر «السِّياسيَّة»، إذ يتغنَّى بها «الخاصَّة» قبل «العامَّة» على الرَّغم ممَّا حلَّ بها من دمار، وخراب، وتهجير، وتشريد في دلالة واضحة على البعد الاجتماعيّ لها، ورسوخها في أذهان «الشَّعب».

وسواء أكانتْ صادرة من «النِّظام» أم من «الشَّعب» فإنَّها تشير إشارة لا لبسَ فيها إلى واقع مأساويّ خطير، يستندُ فيها كلٌّ منهما إلى أصل «دينيّ» بحْت، حوَّله أحدُ الطِّرفين إلى أصلٍ ذي بعد سياسيّ يستمدُ من خلاله استمراره في «السُّلطة»، وأقنع «الشَّعب» ردْحًا من الزَّمن أنَّه المعنيُّ بها.

بينما حاول الطَّرف الآخر أن يحافظ على أصلها في محاولة إلى شحذ الهمَّة، والاستعانة بها على الصَّبر على هول المصاب، وتجديد الأمل في النُّفوس لعلَّه يجدُ طريقًا إلى الخروج من مأساة استحقَّت بجدارة أن تكون «مأساة العصر».

وإذا كان هذا الأمر مقبولاً من النَّاس عامَّة، فإنَّه يكون مرفوضًا ومصيبة من «أهل العلم» الذين يرسِّخونها في أذهانهم، ويجدِّدون صيحاتهم بثبات أصلها، وطيب منبتها وجرثومتها، وما أراها إلا دعوةً إلى التَّخاذل، وستْر عورات «الأنظمة العربيَّة» التي ظهر تقاعسها، وعجزها عن حماية «شعوبها»، و«أرضها» التي تُستباح وتُغتصب.

و لا تختلف محاولة إذعان هذه المقولة من قبل هؤلاء «العلماء» عن إذعانها من قبل «النِّظام» نفسه، إذ يحاول كلٌّ منهما أن يظهر نفسه أنَّه الوصيٌّ عليها، ولعلَّ خطورة ذلك من قبل «العلماء» خاصَّة نابع من إقرارهم بصحَّتها، وصحَّة منشأها «الدِّينيّ» الذي تغلغلت فيه يدُ «السِّياسة» عبر وسائلها الإعلاميَّة والتي كانت تقتصرُ على «المحدِّثين» و«الرُّواة» حيث مكَّنتْ لهم حريَّة القول و«الكذب» على لسان «النَّبيّ»e من أجل إثبات ما نراه اليوم من مقولة «سوريا ...الله حاميها».

فقد درج «المحدَّثون» و«الرُّواة» بدافع «سياسيّ» خالص على وضع «أحاديث» في فضل «أرضٍ» دون سواها من أجل تثبيت «السُّلطة» الحاكمة من جهة، واستثمار أمل «الشُّعوب المحكومة» من جهة أُخرى في عدم الخروج على هذه «السُّلطة» على اعتبارها تحكمُ أرضًا «مباركةً»، و«مقدَّسة».

ومن هذا ما وضعوه من «أحاديث» في «فضل الشَّام»، وتناقلها «الرُّواة» جيلاً بعد جيل، واستقرَّت في الأذهان، بعد أن استقَّرت في «الكتب»، وأصبحت محاولة مناقشتها وتفنيدها «طعنًا» في «الدِّين»، و«تحريفًا» له، وتجعل من صاحبها هدفًا سهلاً لوسْمِه بأنواع الأحكام «الفقهيَّة» من «تكفير»، و«زندقة»، و«إلحاد»؛ لأنَّه - بزعمهم - يرفض «ما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة»؟!

وما يزيد الأمر غرابةً أنَّ بعض «العلماء» قد اتَّخذها دليلاً ومرتكزًا في حربٍ مسعورةٍ ضدَّ «اللاجئين» الذين فرَّوا حفاظًا على حياتهم، وحياة أسرهم، بحجَّة أنَّه ترك «الأرض المقدَّسة»، وأبعد بعضهم حين ذهب إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخرجهم منها؛ لأنَّهم لا يستحقُّون العيش فيها؛ إذ لا «خير فيهم» مستندًا في ذلك إلى بعض «الأحاديث» المنسوبة إلى النَّبيّ e، من ذلك ما رواه «أبو داود» في «سننه» برقم «2483» عن «ابن حوالة»، وهو في «مسند أحمد» برقم «17005»، وصححَّه «الألبانيّ»: «قال رسول الله e: سيصير الأمرُ إلى أن تكونوا جنُوداً مُجنَّدةً، جندٌ بالشَّام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق. قال ابن حَوالة: خِرْ لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك. فقال: عليك بالشَّامِ فإنها خِيَرةُ اللهِ من أرضِه، يجْتبي إليها خِيَرتَه من عبادِه، فأما إن أبيتُم فعليكم بيَمَنِكم، واسقُوا من غُدُرِكم، فإن الله تَوكّل لي بالشّامِ وأهلِه».

ومن أمثلتها ما ذكره «أحمد» في «مسنده» برقم «1716» عن «أبي قلابة» قال: «وحدَّث أَبُو قِلَابَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ e قَالَ: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ فَعَمَدَتْ بِهِ إِلَى الشَّامِ» فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا وَقَعَتِ الْفِتَنُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالشَّامِ». وقد ردَّه الدَّكتور «خالد الحايك» بجميع طرقه التي رُوي فيها، وأجاد في ذلك أيَّما إجادة.

ومن أمثلتها أيضًا ما رواه «ابن حبَّان» برقم «7304»، و«أحمد» برقم «21606»، و«الطّبرانيّ» برقم «4934» واللَّفظ لـ«أحمد» في «مسنده» عن «زيد بن ثابت» قال: «قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا حِينَ قَالَ: "طُوبَى لِلشَّامِ، طُوبَى لِلشَّامِ " قُلْتُ: مَا بَالُ الشَّامِ؟ قَالَ: "الْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَجْنِحَتِهَا عَلَى الشَّامِ».

ومن أمثلتها ما رواه «الحاكم» في «مستدركه» برقم «8658»، و«أحمد» في «مسنده» برقم «896»، واللَّفظ لـ«الحاكم» عن «عبد الله بن زرير الغافقيّ» قال: «سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ يُحَصَّلُ النَّاسُ مِنْهَا كَمَا يُحَصَّلُ الذَّهَبُ فِي الْمَعْدِنِ، فَلَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ، وَسَبُّوا ظَلَمَتَهُمْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالُ، وَسَيُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَيْبًا مِنَ السَّمَاءِ فَيُغْرِقُهُمْ حَتَّى لَوْ قَاتَلَتْهُمُ الثَّعَالِبُ غَلَبَتْهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِنْ قَلُّوا، وَخَمْسَةَ عَشْرَ أَلْفًا إِنْ كَثُرُوا، أَمَارَتُهُمْ أَوْ عَلَامَتُهُمْ أَمِتْ أَمِتْ عَلَى ثَلَاثِ رَايَاتٍ يُقَاتِلُهُمْ أَهْلُ سَبْعِ رَايَاتٍ لَيْسَ مِنْ صَاحِبِ رَايَةٍ إِلَّا وَهُوَ يَطْمَعُ بِالْمُلْكِ، فَيَقْتَتِلُونَ وَيُهْزَمُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْهَاشِمِيُّ فَيَرُدُّ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ إِلْفَتَهُمْ وَنِعْمَتَهُمْ، فَيَكُونُونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ». وقد ضعَّف «الألبانيّ» رواية «أحمد»، وقال: «ضعيفٌ جدًّا».

وقد ردَّها الأستاذ «محمود أبو ريَّة» في كتابه «أضواء على السُّنَّة المحمَّدية» ردًّا جميلاً، بعد أن ضمَّن كتابه كثيرًا من التصَّحيحات لبعض «الخرافات»، و«الرُّوايات» التي يظنُّها «الخاصَّة» قبل «العامَّة» أنَّها من صلب «الدَّين» وأنَّها من «سنَّة» رسول الله e ، وهي في حقيقتها من وضع «الوضَّاعين» الذين أرادوا تشويه «الدِّين» و«تحريفه» بعد أن عجزوا عن «العبث» بـ«القرآن الكريم»، وبيَّن سببَ وضعها فقال: «ولا بدَّ لنا قبل أن ختم هذا الفصل أن نكشف عن ناحية خطيرة من نواحي الوضع في الحديث كان لها أثرٌ بعيدٌ في الحياة الإسلاميَّة، ولا يزال هذا الأثر يعمل عمله في الأفكار العفنة، والعقول المتخلِّفة، والنُّفوس المتعصِّبة، ذلك أنَّ السِّياسة قد دخلت في هذا الأمر، وأثَّرت فيه تأثيرًا بالغًا فسخَّرته ليؤيِّدها في حكمها، وجعلته من أقوى الدَّعائم لإقامة بنائها».

وأوردَ ما قاله الشَّيخ «رشيد رضا» في جواب على سؤال سائل: «إنَّ هذه الأحاديث باطلة رواية ودراية، سندًا ومتنًا، وإنَّما راجت في الأمَّة بعناية المتصوِّفة، وقد ذكرها الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات، وطعن فيها واحدًا بعد واحد... وأحاديث الأبدال اشترك فيها المتصوّفة والشِّيعة والباطنيَّة ورواة الإسرائيليَّات، كـ«كعب الأحبار» وغيره من أصحاب التُّرَّهات الصّحاصح، دون أهل الأحاديث الصّحائح».

ثم ذكر تأثير هذه «الأحاديث» وأمثالها على «الأمَّة» فقال: «إنَّ هذه الرِّوايات قد أفسدت بأس الأمَّة الإسلاميَّة، وصار المتصوِّفة وأهل الطَّريق المتمسِّكون بها فتنة لنابتة المسلمين، ينفِّرون أولى الاستقلال العقليّ والعلوم العصريَّة من الإسلام، فيعدُّونه كغيره دين خرافات وأوهام...وآن لنا أن نعقل ونفهم ديننا من القرآن لا من هذه الرِّوايات المنكرة التي صرفتنا عن كتاب الله وسنَّة رسوله e التي لا تحتمل التَّأويل  ولا ينال منها التَّضليل».

وبالمحصِّلة: نذهب مذهب الأستاذ «محمود أبو ريَّة» في أنَّنا «لا نستقصي ما جاء في فضل الشَّام؛ لأنَّه يملأ المصنَّفات كما قال ابن تيمية في كتابه: «اقتضاء الصّراط المستقيم»، وقد صنَّف طائفة من النَّاس مصنَّفات في فضائل «بيت المقدس» وغيره من البقاع التي بالشَّام، وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب، وعمَّن أخذ عنهم ما لا يحلُّ للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم». واختصر الأمر «الألوسي» في «تفسيره» فقال: «والأحاديث في فضل الشَّام كثيرة، وقد جمعها غير واحد، إلا أنَّ في الكثير منها مقالا، وسبب الوضْع كان قويًّا».

وسوم: 635