أبناء المؤسسة.. يحكمون ولا يحاربون!
هيا نحاول أن نلمس السبب الرئيس فيما يمكن أن يكون منبع المتاعب والعقدة المزمنة بين حكومات الانقلاب والشعوب العربية، وأسباب التخلف والهزيمة الحضارية في أرجاء الأمة، وترددت في الفترة الأخيرة، ومن قبل أن البلاد العربية لا تستقيم مسيرتها، ولا يتحقق أمنها إلا بالحكم العسكري، وقد أشار إلى ذلك أخيراً الرئيس المخلوع حسني مبارك في مداخلة تلفزيونية، حيث ألمح إلى أن الحكم العسكري يمتلك فرصة بسط الأمن وتحقيق الأمان لجموع المصريين، وأن الجيش هو الضمان لما يسميه الاستقرار، وقبل شهور أعلنت السيدة زوجه صراحة بأن مصر لا يحكمها إلا أبناء المؤسسة (تقصد القوات المسلحة).
وفي عهد مبارك، صدر تصريح من رئيس وزرائه أحمد نظيف بأن المصريين لا يصلحون للحياة الديمقراطية؛ أي إن النظام الاستبدادي أو الدكتاتوري الذي يمثله الفريق مبارك هو النظام الأمثل للحكم.
وهناك مقولات تتردد علناً أو سراً في الأماكن ذات الصلة بالحياة العسكرية والشرطية والأحزاب الحكومية الكرتونية وما أشبه، بأن المصريين خصوصاً والعرب عموماً لا تصلح معهم الديمقراطية ولا يصلحون لها!
النظرة الاستعلائية إلى الشعوب العربية من المؤسسة وتوابعها لم تنبع من رؤية علمية أو ثقافية عميقة، ولكنها تأسست بفعل الانقلاب العسكري عام 1952م الذي جاء بعد سلسلة انقلابات جرت في سورية مع هزيمة العرب المذلة في عام 1948م على أرض فلسطين، وتلته انقلابات أخرى في عواصم عربية مؤثرة، وكأن الانقلابات العسكرية أرادت تعويض هزائمها في ميدان المعركة، بالانتصار على الشعوب الضعيفة، وفي الوقت نفسه تثبيت الوجود الصهيوني الغاصب.
الانقلابات العسكرية تفرز زعيما أوحد يصفي رفاقه العسكر، أو يوزعهم على مؤسسات الحياة المدنية والإدارية والإنتاجية والإعلامية والرياضية ليضمن الولاء العام، أما المؤسسة العسكرية نفسها فيجري تفريغها من الكفاءات المحترفة الممتازة بإزاحتها إلى أعمال مدنية أو إرغامها على طلب التقاعد، كما حدث مثلاً عندما تمت ترقية الصاغ (الرائد) عبدالحكيم عامر إلى رتبة اللواء ليكون قائداً عاماً للقوات المسلحة، فاضطر كثير من الضباط الأعلى رتبة والأكثر كفاءة أن يستقيلوا.
وهكذا تنشغل المؤسسة بتثبيت أركان نظام الحكم العسكري ولو ارتدى زعماؤه الملابس المدنية، وتتوزع أجهزتها المعاونة لمتابعة من يعارضون النظام وملاحقتهم، وتجنيد الإعلام والأبواق والصحافة والأقلام لشغل الشعوب عن القضايا الأساسية ونسيان مسألة البناء الحضاري، في المقابل يحرز العدو والدول الكبرى ذات المصالح إنجازات كبيرة في ترويض النظام وتحويله إلى تابع أمين، فضلاً عن اختراق كثير من المواقع والموانع، في الوقت الذي تتزايد فيه هجرة الكفاءات العلمية والفكرية والحرفية إلى خارج البلاد، مع صمت غيرهم نتيجة القمع الوحشي.
تاريخ البرلمان المصري
لقد سبقت مصر كثيراً من دول العالم إلى نظام المجالس النيابية، وعرفت الشورى المنظمة أو الديمقراطية التي تشارك الحاكم وتوجهه، وكانت أول إرهاصة لقيام حياة نيابية في مصر عام 1829م في عهد محمد علي باشا، الذي أنشأ مجلساً للمشورة يتكون من كبار التجار والأعيان والعمد والمشايخ والعلماء، وكانت وظيفته الأساسية إبداء الرأي في المسائل الإدارية العامة بصورة غير ملزمة، ثم أخذ يتطور في وظائفه وصلاحياته.
تعطل هذا المجلس بعد وفاة محمد علي، وعاد في زمن الخديو إسماعيل (ديسمبر 1866م)، باسم «مجلس شوري النواب» ليحقق طفرة كبيرة، ويتكون من 75 نائباً ينتخبهم الشعب من طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية كل ثلاث سنوات، وقد أدى دوراً مناهضاً للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد، وأصر على مناقشة ميزانية الحكومة التي كان يتولاها في ذلك الوقت وزير مالية إنجليزي.
استمر مجلس النواب في عهد توفيق والاحتلال يحاول أن ينتزع لنفسه حقوقاً تشريعية تجعله طرفاً في الموافقة على أي قوانين أو تشريعات جديدة، وحصل عليها بالفعل مناصفة مع الخديو، بالإضافة إلى حق إقرار الضرائب والمسائل المالية بعد مناقشتها والتصويت عليها، فكان ذلك يبشر بقيام حياة نيابية نشطة في مصر، ومن ثم قيام نظام ديمقراطي يكون الأول من نوعه في المنطقة.
للأسف تمت الإطاحة بهذا المجلس تحت سلطة الاحتلال البريطانية، ووضع اللورد دفرين عام 1883م قانوناً لتنظيم الشؤون الداخلية لمصر ونص القانون على إقامة مجلسين استشاريين غير تشريعيين؛ هما مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية للتداول في الشؤون الداخلية لمصر، وكانت انتكاسة كبيرة لتطور الحياة النيابية في مصر.
وبعد إقرار دستور 1923م، عادت الحياة النيابية بصورة أفضل، واستمرت بين مد وجزر، وسجلت مع ذلك إنجازات مهمة في الرقابة والتشريع ومقاومة الاستعمار، حتى الانقلاب الأول عام 1952م، حيث رفض العسكر إقامة حياة نيابية حقيقية وسوّفوا في إقرار دستور حقيقي، وأسسوا ما سُمي التنظيم الواحد الذي تولدت عنه مجالس ديكورية تأتمر بأمرهم وتنفذ مشيئتهم وتصوغ دساتير وقوانين وفق هواهم.
«الربيع العربي».. والعسكر
كانت نتيجة الاستبداد وما صحبه من قمع وطغيان وبؤس طوال ما يقرب من ستين عاماً، انتفاضة ما عرف بـ «الربيع العربي» التي عمت بعض العواصم العربية المهمة التي عرفت الانقلابات العسكرية والحكم العسكري المباشر أو غير المباشر، وسقطت رؤوس الحكم، ولكن المؤسسة العسكرية لم تستسلم، راوغت في استحقاقات الحرية والديمقراطية، والقيام بالوظيفة الأساسية في مواجهة العدو الخارجي بدلاً من مواجهة الشعوب، في مصر على سبيل المثال ظلت المراوغة عاماً ونصف عام حتى أجريت الانتخابات الرئاسية، تم فيها التمهيد لسحق الانتفاضة الشعبية (ثورة 25 يناير)، والإعداد للانقلاب على الديمقراطية، والإطاحة بالرئيس المنتَخَب، واستعادة الحكم العسكري مرة أخرى في إطار جديد.
وقد كشفت بعض التسريبات التي سرّبتها الأجهزة الأمنية مؤخراً عن بعض ملامح التحضير للانقضاض على الإرادة الشعبية وسحق طلائعها، ففي التسريب المنسوب إلى رئيس حزب «الوفد»، ويتحدث فيه مع شخصية أمنية عن عمليات ذبح سيتعرض لها «الإخوان المسلمون» أكبر التنظيمات الشعبية، يكشف التسريب عن خطط مسبقة للقتل والتدمير ونشر الإرهاب وتغييب وعي المصريين وإرادتهم كما فعلت أجهزة «مبارك» من قبل، ويقول الشخص الأمني الذي يهاتف رئيس «الوفد» ويخاطبه باسمه مجرداً: «يا سيد، الفترة القادمة ستكون سوداء على الإخوان، وستقوم مليشيات مسلحة بذبحهم في بيوتهم، وستمتلئ مصر بالإرهاب المصطنع؛ انتقاماً من الإخوان، ورداً على الثورة التي أطاحت بجهاز أمن الدولة».
وهو ما أنبأت عنه مجازر ضد الألتراس، والمسيحيين، وبعض فصائل الإسلاميين، وأي شاب متحمس لقيم الثورة والتغيير، وضد مقرات حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين، وكل من أيَّد الرئيس المنتخب وأيد ثورة يناير؛ وهو ما أسقط معظم الرواية الرسمية عن أحداث 30 يونيو 2013م والاتهامات الموجهة لفترة الرئيس «محمد مرسي».
كان بعض النواب في مجلس الشعب المنحل قد وجه الاتهام للمجلس العسكري بأنه السبب في حالة الانهيار الاقتصادي التي وصلت إليها البلاد، فنشر اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وعضو المجلس العسكري، رداً طويلاً في جريدة «الشروق» بتاريخ 27/ 3/ 2012م تحت عنوان «العسكري يرفض تحميله أو الحكومة مسؤولية صعوبة الأوضاع الاقتصادية ويلوم الشعب»، وختم رده قائلاً: «سنقاتل على مشروعاتنا وهذه معركة لن نتركها، العرق الذي ظلينا (كذا!) ٣٠ سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير أياً كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة»، كما هدد نصر ضمنياً من يدعون لإخضاع النشاط الاقتصادي العسكري للرقابة البرلمانية بوصفه جزءاً من المال العام، وعدّ مناقشة ذلك تدخلاً في شؤون الأمن القومي المصري!
العسكرة الاقتصادية
العسكرة لا تكتفي بالحياة السياسية، ولكنها تمتد إلى المجال الاقتصادي وهو مجال خطير؛ لأنه لا يتوقف عند بعض الصناعات المدنية التي يقوم بها الجيش – وما أكثرها – ولكنه يمتد إلى امتلاك الأرض ومن عليها، وهنا مكن الخطورة العظمى؛ حيث تتأجل الأهداف وتتغير العقائد وتستباح القيم من أجل حماية الإمبراطورية الاقتصادية لحساب القادة وليس الشعب!
لقد صنف موقع «جلوبال فاير باور» العسكري الجيش المصري من حيث القوة في المرتبة الرابعة عشرة عالمياً عام 2013م، والمرتبة الثالثة عشرة عام 2014م، وفي المرتبة الثامنة عشرة عام 2015م؛ مما جعل منه على مدار السنوات الثلاث أقوى الجيوش العربية والأفريقية، وهذا ترتيب لا بأس به، ولكن هل يتمكن من أداء واجبه العسكري الخارجي وهو منشغل بالحكم السياسي والاستثمار الاقتصادي والقتال الداخلي ضد أغلبية الشعب الرافضة لحكمه؟
القادة العسكريون المحترفون الذين حققوا إنجازات تاريخية في الإعداد لحرب رمضان وخوضها مثل الفريق سعد الدين الشاذلي، والمشير محمد عبدالغني الجمسي، تكلموا بصراحة ووضوح أن القادة العسكريين لا يصح أن ينشغلوا بالسياسة أو يعملوا بها لأن ذلك يعوقهم عن أداء مهامهم القتالية.
العدو الصهيوني يجعل المستوى السياسي يتحكم في القيادة العسكرية، ويصدر إليها الأوامر، فضلاً عن عدم انشغال جيشه بالاستثمار الاقتصادي خارج المعسكرات!
فشل العسكر في الحكم
لقد فشل أبناء المؤسسة العسكرية في العالم العربي فشلاً ذريعاً في الحكم منذ انقلاب عام 1952م، وترتب عليه هزائم عسكرية غير مسبوقة وخيبات لا حصر لها، وهو ما يستوجب أن يعودوا إلى ثكناتهم ليحاربوا العدو الخارجي، ويحذفوا من عقيدتهم محاربة شعوبهم والتنكيل بها، وينصاعوا للإرادة الوطنية مثل بقية العالم المتحضر، وهذا هو الهدف المركزي الذي يجب أن يسعى إليه الباحثون عن الحرية!
وسوم: 642