ضرورة تجفيف منابع الفكر التكفيري

إن أهم سبب لفناء حضارة بأكملها هو انحلال عقليّ ينشأ بمجتمع ما ليهدم القواعد التقليدية التي كان النظام الاجتماعي يقوم عليها، وأن يعجز عن إحلال غيرها من القواعد .

ولعلَ أهم سبب للانحلال العقلي هي أن تسود فكرة ما تنافي الطبيعة التي فطر عليها العقل البشري، وفي أيامنا هذه ساد فكر جديد علينا فكر يرفض كل من يخالفه ويكفرَه ويأمر بتقطيع جسده، وأورد هنا ما قاله الشيخ محمد العريفي بإحدى خطبه لحثِ أشباه آدميين يؤمنون بدعوته للجهاد ضد الكفرة من غير ملتهم يقول:

"سفك الدماء وسحق الجماجم وتقطيع الأجزاء في سبيل الله شرف للمسلم الحق"

عن أيَ إسلام يتحدث وعن أي إله، وأي طبيعة بشريَة فُطرت على هذا الفكر، ليس من العقل البشريَ ما يسمح له بتكفير كل من يفكّر خارج حدود قناعاته ومعتقداته، حتى وإن تعلّق الأمر بمسائل بسيطة تخص المعاملات.

إن الحوار الفكري الديني كما أسسه الوحي يتنافى مع الإرهاب الفكري وإقصاء الآخر ويتعارض مع التكفير، بل يعتمد، كما نص الوحي، على الجدل بالتي هي أحسن. وأكد النص الديني أن طبيعة الكون مبنية على التنوع والتعدد والاختلاف، والفكر الإنساني لا يشذ عن هذه الطبيعة لأن البشر مختلفون، وبصرف النظر عن الأسباب والنظريات التي سادت عن سبب نشوء هذا الفكر التكفيري الجهادي من مؤامرات خارجية تستهدف الأسلام والمسلمين، وعن شرق أوسط جديد، إلا أنيَ أرى سبب نشوء مثل هذا الفكر هو ظهور دعاة منتفعين يعملون بتجارة الدين كالشيخ محمد العريفي والشيخ محمد شعبان وغيرهم كثر، تروج لهم قنوات فضائية تسمي نفسها قنوات دينية وما هي سوى قنوات ربحية لا ترى مانعاً من التجارة بالدين مستغلين العاطفة الدينية عند العوام والبسطاء، وهؤلاء يمثلون الشريحة الأكبر بمجتمعاتنا، استغلوا الإسلام لترويج سلعهم السامة، فانتشرت كالنار في الهشيم، ولبَى النداء الكثير من الشباب لإعلان الجهاد وتقطيع أوصال كل من ليس منهم. وكانت المغريات كثيرة؛ الجنة وحورياتها التي لا تحصى، وجهاد النكاح، وفتاوى لم ينزل الله بها من سلطان، تكلموا باسم الإسلام والشريعة والفقه، فالأمر يتعلق بالنهاية بقانون بشري وضعي، ولا يكفي إسناده الى النص القرآني، ناهيك عن الحديث والإجماع، هناك غموض في بعض الأحكام في القرآن وضعف في بعض الأحاديث، وبسبب طبيعة البشر المتأثرة بالتقلبات السياسيَة. وهو أمر ينطبق على جامعي الحديث وعلى الصحابة والفقهاء. فهؤلاء يتشددون تارة تشدداً مبالغاً فيه بحرفية النص ويتحللون تارة تحللاً تاماً من بعض النصوص الواضحة وذلك حسب موازين القوى ومتطلبات السياسة أو حتى بسبب قصورٍ ذهنيَ.

أصاب هذا القصور كبار الفقهاء مثل الشافعي الذي أجاز للرجل من زواج ابنته من الزنا ودليله أنها أجنبية عنه، وليست بنتاً له في الشرع، إذ لا حرمة لماء الزنا؛ بدليل انتفاء سائر أحكام النسب من: إرث ونفقة وولاية، وغيره عنها .

وأورد هنا أيضاً مثالاً على القصور الذهني والتقيد المطلق بظاهرية بالنص عند ابن حزم، ففي تفسيره لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فيه"، فقد قال إن التحريم وقع على البائل فقط كما ورد في الحديث إذ يجوز لغير البائل أي الآخرين الاغتسال فيه، كما في تفسيره للحديث "البكر تستأذن وإذنها صمتها"، فمن الواضح أن صمتها يعتبر الرضى، غير أن ابن حزم يرى أنها إن تكلمت بالرضا لا ينعقد النكاح لأنه خلاف للحديث النبوي.

ومن هنا نفهم، قياساً، كيف أنه حتى النص القرآني القطعي الدلالة لا ينجو من التقلبات والتأويلات المتناقضة ومن التحويرات عن طريق الاجتهاد على الرغم من وجود القاعدة القائلة: لا اجتهاد في ما ورد فيه نص.

هذه الأفكار السامة هي نتاج  ينابيع يجب أن تجفف، وتلك الينابيع هي هؤلاء الدعاة وتلك المحطات الفضائية؛ منها التجارية ومنها من باتت تمول من قبل أنظمة وحكومات لتمرير مصالحها، تلك الأفكار باتت كالخلايا السرطانية تنتشر بسرعة لتغزو جميع العالم بأديانه وطوائفه ومعتقداته، فالجهاد الإسلامي وصل لجميع دول العالم، وهناك دعوات للإسلاميين المقيمين في دول أوربا أو أمريكة لنشر الإسلام بحد السيف، وإقامة خلافات اسلامية فيها، وعلى غير المسلمين إما دفع الجزية أو تقطيع أوصالهم وسحق جماجمهم .

من هنا تأتي ضرورة تجفيف تلك الينابيع التي باتت تشكل خطراً فادحاً، وخاصة على تلك المجتمعات التي تغذيها وتدعمها، لأنها وكما أسلفت ستفني حضارة تلك الشعوب التي تتبناها، وهناك اعتراف علني بخطورة هذه الجماعات، ولعل ما يؤكد ذلك تصريحات وزير الداخلية السعودي في العام 2002، حيث اعتبر أن جميع مشكلات السعودية هي من إفرازات الإخوان المسلمين.

إن معرفة أسباب تكوّن هذه الظاهرة، وفهم بنيتها العقائدية، وسلوكها الفكري وخطها السياسي وعملها العسكري وممارساتها العدوانية والإلغائية واللإنسانية ضد كل من لا يوافق رأيها ومشروعها، على مسرح بعض دول الإقليم من ليبيا إلى مصر والعراق إلى سوريا ولبنان وما يحيط بها وحتى مختلف دول العالم، قد يؤدي إلى تصور استراتيجي يسهم في تكوين فضاء معرفي لمشروع مواجهة متعدد الأبعاد يقف بوجه المشروع الجهادي التكفيري. فكيف يكون ذلك؟

في البداية لا بد من توحيد النظرة الفكرية والدولية للظاهرة والاتفاق على التوصيف والمصطلحات.

وذلك باعتبار أن هذه الظاهرة واقعية وقائمة بحد ذاتها كما هي، ومن دون إعطائها توصيفات العمالة والارتباط هنا وهناك، أو الاعتبار أنها وجدت رداً على مشروع مذهبي آخر. وهنا من المفترض أن تتوافق جميع الدول في رؤيتها وتوصيفها وتحديدها للمشكلة وكيفية مواجهتها وفق استراتيجية واحدة ومن دون إقصاء أحد.

إن مواجهة هذا المشروع التكفيري تفرض وضع خطوات وتنفيذها فوراً، وأنا أجد أن أهمها:

-         تشكيل جبهة عالمية تضم كل المنظمات والهيئات الدولية التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان لتجريم أي فكر تكفيري وتقديم من يقفون خلفه إلى المحاكم الدولية.

-         على الحكومات والأنظمة العربية والبرلمان الأوربي ومنظمة الأمم المتحدة والدول الكبرى، على منع تداول أو نشر أو طبع الكتب والدراسات التي تروج للفكر الوهابي السلفي بعد أن امتلأت معارض الكتاب التي تقام في الدول العربية بتلك الكتب التي تحرض على القتل وتكفر المجتمعات العربية والأوروبية، وتبرر قتل الإنسان على أنه "جهاد"، في سبيل الله.

-         الرقابة الدولية على جميع مناهج التعليم في الدول الحاضنة لهذا الفكر ومنع تدريس المناهج التي تحرض على التكفير ووضع مناهج تعلم تقبل الغير والإخاء بين الأديان وزرع روح المحبة التي فطر الله أنفسنا عليها ، والأهم حصر الفتاوي بجهة واحدة ولتكن الأزهر الشريف بشرط اعتماد أهل العلم.

-         وضع قوانين في الدول الأوربية وأمريكا بمنع ظواهر اضطهاد الجاليات المسلمة والتفرقة العرقية او الدينية.

-         توفيرالوسائل العسكرية والأمنية المباشرة في التصدي لكل عمل عسكري تقوم به المجموعات الإرهابية التكفيرية وردعها عبر استعمال أنواع الأسلحة المختلفة.

-         التحري الدائم وجمع المعلومات ومراقبة كل فرد يمت بصلة مباشرة أو غير مباشرة إلى هذه المجموعات، على أن توضع جميع الأجهزة الأمنية تحت قيادة واحدة وتعمل بتنسيق مستمر. إن دعم الجيش والأجهزة الأمنية بالعناصر البشرية والأجهزة والمعدات القتالية الحديثة، وتدريبها على القتال ضد العصابات والإرهاب، سيعزز من نجاعة المواجهة مع المشروع التكفيري، ويشكل حلًا غير مباشر، ويعالج بعض الأسباب التي تدفع بالشباب إلى الارتماء في أحضان التيار التكفيري.

-         القيام بعمليات أمنية وعسكرية استباقية لمنع أي عمل إرهابي وضرب الخلايا النائمة والتجمعات المحتملة التي تخطط للقيام بعمل عسكري أو إرهابي.

-         فتح الحوار الفكري والحضاري بين التيارات الدينية والمذهبية والسياسية المتناحرة وإرساء فضاء توافقي لتخفيف حدة الصراعات الداخلية، وإيجاد أرضية صلبة للتلاقي تحرم المشروع التكفيري من البيئات الحاضنة التي تدعم الجماعات الإرهابية وتحميها.

-         تجفيف مصادر التمويل والدعم (الأشخاص والدول وغيرهم)، فلم يكن لهذا المشروع التكفيري أن يتبلور ويتجسد بقواه المادية والعسكرية على أرض الواقع لو لم يتأمن له ما يكفي من الدعم المالي واللوجستي والمعدات العسكرية الكبيرة والمتطورة على مستوى الدول.

-         كذلك من الضروري أن تلتزم بعض الدول الشفافية السياسية وتمتنع عن تقديم التسهيلات السياسية والأمنية والإعلامية لبعض هذه الجماعات.

-         ضبط (أو وقف) بعض المحطات التلفزيونية والإذاعية والفضائيات، وبخاصة تلك التي تحرّض على الفتنة والقتل والتفرقة تحت عناوين مختلفة. وتوجيه الوسائل الإعلامية نحو بث ما يجمع ويقدم الصورة السمحة والحقيقية للدين، وإحياء التراث الإسلامي الصحيح ونشر المصادر والمراجع الإسلامية المتفق عليها عند كبار العلماء.

-         إقامة مؤتمرات وندوات للتقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة على مستوى القمة في العالم الإسلامي، من الأزهر إلى مكة، ومن قم إلى النجف، ومن دمشق إلى اسطنبول. وفتح باب الحوار بين التيارات الدينية المختلفة على مستويات عليا من المرجعيات الفقهية والعلمائية، لشرح الأصول والفروع وغيرها وإثبات بطلان، ولا عقلانية أو شرعية الفكر التكفيري، وعدم استناده إلى واقع موضوعي أو معطى ديني، وافتقاره إلى أي بعد ثقافي، انساني، أو إيماني، فهو فكر مشبوه (مشوَّه ومشوِّه)، ودخيل على الإسلام.

-         خلق فرص عمل للشباب العاطل عن العمل، فالبطالة المتفشية في أوساط الشباب وتفاوت نسبة الفرص بين دولة وأخرى في المنطقة، أو بين منطقة وأخرى في الوطن الواحد، تدفع بعضهم إلى الارتماء في أحضان إغراء بعض هذه الجماعات رغبة في الارتزاق والكسب السريع.

-         تفعيل التربية على المواطنية والواجبات، فالانسان كائن اجتماعي يتأثر بالبيئة وبالمجتمع الذي يعيش فيه، لذلك على الدول أن تضع في استراتيجياتها خططاً لتأهيل أبنائها اجتماعياً ووطنياً وأخلاقياً، بما يخدم المثل العليا في الحياة ويرفع من قيمة الإنسان. ومن هنا ضرورة التدريب على بناء مواطنين يعرفون حقوقهم وواجباتهم في مجتمع يكون الدين فيه خياراً إيمانياً وسلوكياً حراً لهم، وليس سلوكاً مفروضاً في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، فتلك الأمور تعود إلى الدولة كناظم ومسؤول عن إدارة شؤونهم الحياتية.

-         فصل الدين عن السياسة، فاستعمال الأديان والمذاهب في الصراعات الداخلية لأهداف سياسية أو مصلحية، أو إدارية وزجِّها في آليات عمل الدولة، أدى ويؤدي إلى اصطفافات اجتماعية وسياسية ومذهبية ودينية تؤثر على حسن أداء الدولة كمؤسسة جامعة وعادلة، وتأخذها إلى الانهيار. وبالتالي فإن المجتمع ينحو إلى التفكك، مما يفتح الباب واسعاً لدخول التيارات المتطرفة التي تستغل هذه الثغرات لتعشش وتنمو وتشكل خطراً كامناً أو مباشراً على الدولة والمجتمع. لذلك من المفترض بالسياسيين أن يبتعدوا في خطابهم وممارساتهم عن الخطاب الديني والمذهبي الذي يفرق، وأن يركزوا فقط على البعد الوطني والاجتماعي والحزبي السياسي الذي يجمع.

-         تنمية المناطق الفقيرة، إذ تشير معظم الدراسات إلى أن الفقر هو عامل أساس وفاعل في تكوين هذه الجماعات، وهو العمود الفقري في بنيتها العسكرية البشرية. فالحاجة تدفع الكثيرين إلى التفتيش عن وسيلة للعيش.

-         إن المناطق الفقيرة تشكل خزاناً يرفد الارهاب بالعناصر البشرية ويشكل بالتالي بيئة حاضنة له، أو منطلقاً لأعمال تخل بأمن الناس والدولة، لذلك فإن وضع خطط من قبل الدولة لتنمية هذه البؤر، يحصنها ضد تدخلات الآخرين وإغراءاتهم المادية.

-         التعليم والتوعية، الجهل آفة اجتماعية قاتلة، واذا أضيفت إلى الفقر والبطالة والظلم، تنتج الإجرام بأشكاله المتنوعة وتحت عناوين مختلفة. وإذا عرفنا أن نحو ربع سكان العالم العربي، وكذلك أكثر من ربع سكان العالم، هم من الأميين والفقراء، أدركنا حجم المشكلة.

-         إن تأمين التعليم الإلزامي والمستمر للجميع، والإناث قبل الذكور، في المجتمعات العربية والاسلامية وغيرها، سيشكل حلاً متقدماً يجنب مستقبل الأجيال القادمة من آفات كثيرة. كذلك فإن انتهاج سياسات تربوية علمية وتعليمية لخلق جيل قادر على التحليل والمناقشة استناداً إلى العقل والمنطق والواقع، وليس ارتكازاً على العصبية والعواطف والأفكار المسبقة، سيتيح لهذه المجتمعات القدرة على التفكير والمحاكمة العقلية بدلاً من الارتماء الأعمى في أحضان العصبيات المذهبية والإملاءات الدينية المعلبة والمغلقة التي تولد الأفكار المظلمة والإرهاب.

لم توجد الأديان منذ أول الخليقة سوى لتنظيم العلاقات البشرية لاستمرار بقائها وليس لتكون سبباً لدمارها وزوالها .

لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تزنِ، لا تشتهِ مال أو زوج أخيك، لا تشهد زوراً، أوفوا بعهودكم، من قتل نفساً بغير حق فكأنه قتل الناس أجمعين. 

وسوم: العدد 645