قصّتي مع الأمن الوقائي
يوم الاثنين استجبت لدعوة من الغرفة التجارية في الخليل ومن اتحاد صناعي للمحاضرة في جمع من أرباب الصناعة ووزارة الاقتصاد والأكاديميين حول ربط البحث العلمي بالصناعة، رغم ازدحام برنامجي الأكاديمي مع نهاية الفصل... وفي اليوم التالي انهمكت في مكتبي لاستكمال امتحانات طلبتي وفي متابعة دراساتهم ومشاريع تخرجهم، حتى بعد انتهاء الدوام الرسمي إلى ما بعد الرابعة، وكان جلّ من في الجامعة قد غادرها قبل الثالثة، ولم يخطر ببالي أنني كنت أصعّب الموقف وأطيل انتظار الكمين الذي نصبه الأمن الوقائي، ترقبا لمغادرتي منذ بعد الظهيرة.
عندها تلقيت رسالة التقدير من المشروع الوطني الاستثماري على تلك الأدوار الأكاديمية التي أقوم بها، وجاءت تجسيدا لفلسفة دعم الإبداع من زعيم المشروع، (الذي احتضن قبل أشهر مؤتمر الإبداع الفلسطيني)... كانت الرسالة واضحة الخطوط فصيحة الكلمات خطتها بنادق الأمن الوقائي وهي توجّه لي وأنا على مقعد سيارتي، ليعيد إنتاج مشهد إطلاق المخابرات الفلسطينية النار على سيارتي بعد مغادرتي الجامعي قبل أعوام، وقد تزامن إطلاق النار في حينه مع نشر الجزيرة نت ووكالة وفا الفلسطينية تقريرا حول مشروع إبداعي في معالجة النفايات بالنفايات، ثم جاء الاختطاف هذا كتجسيد فعلي لمعنى دعم الإبداع من قبل زعيم المشروع الوطني الاستثماري وأعوانه.
نعم اختطفني أفراد الأمن الوقائي الفلسطيني من سيارتي بعدما أحاطوا بها وهددوني ببنادقهم "الوطنية!", ولم يعرّفوا عن أنفسهم, ولم يوجّهوا تهمه ولم يبرزوا وثيقة اعتقال, فما الفرق إذن بين سلوك العصابات وسلوك الضبّاط؟ بل أين هي قيم المناضلين ممن يتحدثون عن الوطنية وحب فلسطين؟ داسوا على قانون سلطتهم كما داسوا على كل الأعراف الأكاديمية وعلى إدعاء السلطة ورئيسها حول دعم الإبداع والبحث العلمي.
اعترف... نعم اعترف أنهم ضبطوا في سيارتي "متفجرات أكاديمية" خطرة على المشروع الوطني الاستثماري، منها دراسات طلبتي (وقد تمحورت واحدة منها حول إدارة النفايات الصناعية الخطرة)، إضافة إلى كشوف علامات وأوراق امتحانات في علم المواد..., فقرروا أن يعتقلوا "عقول" طلبتي معي، في غباء "وطني!" لا حدود له.
وهنا يتساءل القارئ، كما تساءلت منذ وصولي للمقر الأمني، ما هي التهمة؟ وأين قرار النائب العام بإلقاء القبض على المتهم؟ لم يكترث الضباط للغة القانون، ولكنّهم قلّبوا أمامي ما يزيد عن عشرين ورقة مطبوعة من منشورات الصفحة السياسية التي تحمل اسمي (ماهر الجعبري-الصفحة السياسية)، تضمنت تعليقات سياسية لاذعة تتعلق برفض نهج الاستخذاء والذل وبطلان مشاريع تصفية قضية فلسطين لصالح الاحتلال اليهودي التي تنتهجها السلطة، مما هي ثوابت سياسية عند حزب التحرير، وعند غيره من المخلصين، بل كان من المضحك أن إحدى مستندات الاتهام كانت نقل مقال للمرحوم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بعنوان "هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟"
***
إذا كان رئيس السلطة الفلسطينية قد وصف ما يسمى المشروع الوطني بأن سقفه منخفض جدا ويصل لحد الخيانة العظمى، وسطّر إقرارا بذلك الوصف في كتابه طريق اوسلو، فما معنى أية تهمة بإطالة اللسان أو القدح في مقامات عليا مما وجهها الأمن الوقائي لي؟
وإذا كانت الحقيقة التاريخية قد أثبت بشكل قاطع أن من رسم وصمم العلم الفلسطيني –وأعلام ما يسمّى الاستقلال للدول العربية- هو المستعمر الانجليزي مارك سايكس، كما وثّقت الجزيرة في برنامجها الحرب العالمية الأولى في عيون العرب، فما قيمة التهمة التي وجهها لي الأمن الوقائي حول عدم احترام العلم؟ عند ذكر تلك الحقيقة التاريخية أو اقتباس ما جاء في فيلم الجزيرة الوثائقي؟
وإذا كانت عقيدة المسلم توجب عليه أن يتقبّل أخاه المسلم، ولو ظلم، وان لا يكفّره ولو فسق، وتنهاه عن التحريض على إراقة دماء المسلمين، حتى لأفراد الأجهزة الأمنية الذين ينتهكون حقوق الناس بتغوّلهم الأمني، فأي قيمة لتهمة إثارة النعرات التي وجهها لي الأمن الوقائي؟
وإذا كانت الصفحات الالكترونية ليست مستندات قانونية يحاكَم عليها الأفراد فلماذا هذا التغوّل القانوني من قبل أجهزة السلطة وهي تخطف عباد الله تحت ذريعة كلمات "فيسبوكية" لا يمكن أن تُعتبر في الأدلة القانونية أبدا!
وهنا لا بد من تسجيل نقطة وعي لكل من يتغول عليه الأمن الوقائي أو المخابرات الفلسطينية بتهم "فيسبوكية": لا ترضخ للعربدة، ولا تعط أية جهة فرصة انتزاع إقرار منك لئلا يتحول إلى مستند ضدك، بل واجههم بالبطلان القانوني لأي استناد للعالم الافتراضي الالكتروني.
تلك كانت التهم الثلاثة التي وجهها لي الأمن الوقائي بعدما اختطفني تحت تهديد السلاح... وأولى الكلمات التي سمعتها في مقره كانت "دين... رب..." جاءت على لسان ضابط معربد (في لغة تمرد ولا أقول ضمن تعبيرات كفر )، وذلك عندما رفضت التوقيع على أية ورقة من أوراقهم، حتى ورقة الأمانات، بل واجهتهم بأن ما قاموا به هو اختطاف غير قانوني.
وها أنا ذا أنفّذ الوعد الذي قطعته لذلك الضابط ومسؤول التحقيق ومستشاريهم القانونيين بأنني سأتحدث بالفم العريض للإعلام حول ما دار عندهم من مواجهة.
لمّا اقتادوني ليلا إلى مكتب مسؤول التحقيق لم ألقِ التحية –كما توقع- فأزبد وعربد هو وذلك الضابط المعربد الآخر: هل نحن كفار فلا تقول السلام عليكم، فواجهتهم بأنني لست ضيفا هنا حتى ألقِ التحية بل مختطف.
ثم واجهت ذلك المسؤول بوصف "الخيانة العظمى" الذي استخدمه رئيس السلطة الفلسطينية في كتابه طريق اوسلو، وشجعته أن يقرأ كتاب عباس، تماما كما وجّهت مَن بعده ممن تحدث معي منهم، إضافة إلى وكيل النيابة.
ثم لما سألت مسؤول التحقيق عن عضويته بحركة فتح وأجاب مثبتا, قلت له كيف يمكن لمسؤولي الأكاديمي الفتحاوي الذي ترطبني به علاقة ودية أن ينظر في عينيّ بينما توفر فتح لكم الغطاء؟ وللموضوعية والإنصاف أقرر أنني لمست بعض التأثر على ذلك المسؤول, ثم غابت تماما لهجة العربدة، وكأن ساعة الحقيقة قد دقّت، فكان النقاش السياسي والفكري. وبينت له أننا في حزب التحرير لا نكفر الحكام (إلا من أعلن كفره بنفسه قولا أو فعلا)، ولا نكفر أفراد الأجهزة الأمنية، ويلومنا البعض على موقفنا ذاك، ولكنه التزام عقدي، ولا أتحدّث به بسبب وجودي في مقر أمني.
وبعد ليلة ليلاء, تم اقتيادي من الفراش القذر إلى مستشارهم القانوني, حيث احتشد فيها ما يقارب من أربعة إلى خمسة أشخاص: رفض المستشار الجالس خلف المكتب التعريف بنفسه –عند استفساري- كما رفض الإجابة على سؤالي حول عدم قانونية أسلوب الاعتقال (الاختطاف)، وبينت له أنني سأذكر رفضه بعد خروجي. أما المستشار الأخر "قديمات" فكان يقترب مني واقفا فوق رأسي -ورفض طلبي الابتعاد لمسافة حتى يمكن الحديث- واجتهد في تبرير عربدة وأسلوب الاختطاف قانونيا.
ثم لمّا لم يجد كاتبهم ما يكتبه في محضره، أعادني للزنزانة القذرة, وأعلموني بوجهة المحاكمة, وللموضوعية أكدوا التزامهم بما يقرره القاضي.
ثم اقتادوني لمحكمة الخليل في سرية تامة لئلا يفاجئهم حزب التحرير بحشد يفضح ممارساتهم، وضلّلوا كل من سأل عني، ولم يخبروا أحدا عن محاكمتي... ولئلا يطول المقال اقتصر الحوار في المحكمة وقد طال مع وكيل النيابة, وقد دحضت فيه "التهم" بشكل قانوني بنفسي دون توكيل محام. بيّنت لوكيل النيابة بطلان أسلوب الاختطاف وأن ما بني على باطل فهو باطل, وأكدت بطلان الاستناد إلى منشورات فيس بوك في المحاكمات وفي المحاجة القانونية، وبيّنت الموقف الشرعي والسياسي مما وجه لي من تهم.
ثم ترافعت أمام القاضي بنفسي، ردّا على طلب النيابة العامة تمديد اعتقالي لمدة 15 يوما لاستكمال التحقيق (الذي أكتمل بالفعل مع وكيل النيابة)، وبيّنت للقاضي موضعي الأكاديمي وحمّلت الجهات مسؤولية مستقبل طلبتي وطالبت بالإفراج الفوري.
وقال القضاء كلمة الحق, ورفض طلب تمديد الاعتقال وقرر الإفراج مع ظهيرة يوم الأربعاء، ولكن الأمن الوقائي احتجزني ذلك اليوم حتى جاوز الليل شوطا، في محاولة لكسر عزيمتي.
وبعد هذه التجربة التغولية المتكررة أود أن أبرق رسالة سياسية لكل من في قلبه بقية من وعي: أيعقل أن يكون لمن يدّعي النضال والوطنية زنزانات قذرة وضبّاط يعربدون تحت غطاء فتح؟ أيعقل أن يتواجد في مقرات الأجهزة الأمنية معتقلون سياسيون خصوصا في هذا الوقت من تفجّر انتفاضة السكاكين؟ من كان يتصور أن يصبح ابن فلسطين خصما أمنيا لابنها الآخر تحت ذرائع الأنظمة المستبدة؟
وإذا كنت قد واجهت المحققّين والقانونيّين سياسيا، فإني وقد صرت الآن حرا، قررت –بحرية تامة- أن اختم هذا المقال باقتباس من مقال سابق، مما لم يقتبسه كتّاب التقارير الأمنية، وهو يبطل دعاوى التحريض وإثارة النعرات: "إن قادة الجيش "الإسرائيلي" لن يثقوا بأبناء فلسطين، خشية أن يُعيدوا توجيه بنادقهم وجهتها الصحيحة، كما يستشهد التقرير بما حصل في الانتفاضة السابقة، مما نستدل به على معدن الأمة العقدي، وإلى أنه لا يمكن لمفعول هذه العقيدة -التي يحملها أفراد الأجهزة الأمنية كما حال الأمة- أن يزول، حتى ولو خدّره التدريب الأمريكي المشترك مع القوات العراقية، وستبقى الصحوة من سكرة أموال المانحين، ومن وقع العوز والحاجة، ممكنة تحت همجية الاحتلال ووحشية عدوانه. وستبقى إمكانية هذا التوجيه الصحيح ممكنة رغم كل محاولات الترويض، لأن تحول المناضل إلى حارس لمن ناضل ضده هو أصعب من تحويل الدائرة إلى مربع".
وسوم: العدد649