مركزية القضية الفلسطينية
أخذت تبرز مع المتغيّرات الأخيرة التي اجتاحت الوضع العربي خلال الخمس سنوات الماضية تساؤلات حول مركزية القضية الفلسطينية عربياً، أو بالنسبة إلى العرب؟ وذلك بمعنى هل ما زالت كذلك أم دحرت إلى الخلف، أم غابت مؤقتاً وستعود؟ وقد ذهبت بعض التساؤلات إلى حد التشكيك إن كانت أصلاً، وحقيقة، مركزية على الأجندة العربية، أم كان ذلك على السطح وفي خدمة اعتبارات قطرية وآنية.
هذه التساؤلات نابعة من ردّة فعل سريعة وسلبية لما يجري في الواقع العربي من انشغالات قطرية داخلية، أو صراعات، أو انقسامات، أخذت تطغى على كل ما عداها. فالقضية الفلسطينية كانت تُعتبَر ثابتاً من الثوابت أو مسّلمة من المسّلمات، عربياً.
ولهذا فإن السؤال الأول الذي تفرضه تلك التساؤلات هو هل كان اعتبار القضية الفلسطينية القضية المركزية للأمّة العربية أنظمة وشعوباً، نابعاً من واقع موضوعي وذاتي وثوابت ومصالح عليا أم كان شعاراً نجم عن اعتبارات سياسية. ومن ثم يزول بزوالها؟
إذا كانت مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى العرب أمّة، أو شعوباً ودولاً مسألة موضوعية وذاتية ومصلحة عليا وثابت من الثوابت فهذا يعني أنها ثابت يظل قائماً حتى لو توارى عن ساحة الوعي أو الشعارات أو السياسة والبرامج. ومن ثم يصبح بروزه إلى السطح أو نزوله تحت السطح خاضعاً لموازين القوى والظروف السياسية. وعليه تكون الإجابة عن تلك التساؤلات التي استُهلت بها هذه المقالة، قد حلّت.
لماذا القضية الفلسطينية قضية مركزية موضوعياً وذاتياً ومصالح عليا بالنسبة إلى الأمّة العربية شعوباً ودولاً؟
لقد أصبح هنالك قضية فلسطينية نتيجة للاستراتيجية الاستعمارية الإمبريالية التي استهدفت إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. وكان وراء هذه الاستراتيجية زرع كيان غريب ومعادٍ في نقطة جغرافية وسطية في قلب البلاد العربية. وذلك ليحول دون وحدة مغربه بمشرقه، وفي الأساس ليكون خنجراً في خاصرة مصر يمنع نهوضها ويعزلها عن سورية والعراق وشبه الجزيرة العربية. وتحوّلت هذه الاستراتيجية بعد قيام دولة الكيان الصهيوني إلى تسليحه ليمتلك أقوى جيش يمكنه إنزال الهزيمة بأي جيش لأي دولة عربية بل بها مجتمعة. وقد تطلب ذلك أن يُصار إلى التحكم بالتسلح العربي، كما بكل نهوض اقتصادي أو علمي أو تقني أو اتحادي، ليُحال دون تهديده لوجود الكيان الصهيوني أو ما اصطلح عليه بعبارة "أمن إسرائيل".
فالمشروع الصهيوني لم يُزرع في فلسطين مستهدفاً فلسطين بحدّ ذاتها، وإنما ليَستَهدِفَ كل البلاد العربية كما يستهدف المستقبل العربي والمصالح العليا العربية كنهوض الأمّة العربية ووحدتها واستقلالها وامتلاكها لحريّة الإرادة. ومن هنا أصبحت القضية الفلسطينية موضوعياً وذاتياً ومصالح عليا، وراهناً ومستقبلاً، قضية مركزية للأمّة العربية شعوباً ودولاً.
ومن هنا يصبح الوعي والتعبير السياسي والمواقف تابعاً لما هو واقع موضوعي وذاتي ومصالح عليا، فلا يحلّ مكانه، ولا يستطيع أن يلغيه إن انحرف عنه بأي شكل من الأشكال. وقد دلّت التجربة أن الوعي والمواقف والتعبير السياسي عن هذا الواقع الموضوعي يخضع لعامِلَيْ موازين القوى وللوضع السياسي السائد في كل مرحلة. ولهذا إذا نشأت موازين قوى وأوضاع سياسية أدّت إلى تغييب اهتمام الحكومات أو النخب عن القضية الفلسطينية، أو إذا تشكلت انحرافات أو حتى خيانات من قِبَل بعض الحكومات والقيادات في علاقاتها مع الكيان الصهيوني فسيكون ذلك حالة عابرة وغير قابلة للحياة، والاستمرارية إلاّ لمدى لا بدّ من أن ينتهي. لأن ما هو موضوعي أي العداء الذي يشكله الكيان الصهيوني للأمّة العربية ومصالحها العليا كما أهداف نهضتها ووحدتها لا يخضع للوعي والسياسة ولا يغيّره وعي وسياسة. فهو مشكلة وجود وثوابت ومصالح عليا ومستقبل.
أما البعد الذاتي فهو ذلك المخزون التاريخي في العقيدة والوعي والمتوارث من جيل إلى جيل بالنسبة إلى فلسطين والقدس والمسجد الأقصى والمقدسّات المسيحية والإسلامية. وهو ما يتناقض تناقضاً وجودياً لا حلّ له حين يتعلق الأمر بالمشروع الصهيوني الذي يستهدف تهويد القدس وتغيير هويتها العربية- الإسلامية- والمسيحية العربية. فها هنا أيضاً لا تستطيع أيّة انحرافات أو حتى خيانات أن تمسّ هذا المخزون العقدي في الوعي الديني ولن تكون قابلة للحياة. فالإسلام متكامل مع ما هو موضوعي ومصالح عليا بالنسبة إلى العرب والمسلمين كافة.
هذا البعد الذي تحمله القضية الفلسطينية بسبب إقامة الكيان الصهيوني واستيلائه على القدس والمسجد الأقصى يجعلها قضية إسلامية بالنسبة إلى الأمّة الإسلامية أمماً قومية وشعوباً ودولاً. بل وتصل بالنسبة إلى الوعي الإسلامي لتكون قضية عقدية بسبب موقع القدس والمسجد الأقصى وما حوله في القرآن والتاريخ الإسلامي. وهو ما يضيف بُعداً شديد الأهمية إلى بعدها المركزي بالنسبة إلى أمّة العرب شعوباً ودولاً باعتبارها قضية إسلامية من الدرجة الأولى كذلك. وهي قضية دينية أيضاً بالنسبة إلى المسيحيين العرب كذلك حين يذهب المشروع الصهيوني للسيطرة على القدس وتهويدها وعلى المقدسّات في بيت لحم ونهر الأردن والناصرة وأماكن في فلسطين أخرى.
ولهذا يخطئ من يظن أن قضية فلسطين يمكن أن تفقد سمتها كقضية مركزية على المستوى العربي: أمّة وشعوباً ودولاً مهما مرّت فترات وظروف وموازين قوى غيّبتها عن صدارة الأحداث أو قدّمت عليها أولويات نضالية أخرى.
المهم أن تبقى هذه الحقيقة حاضرة في الوعي وفي تقدير الموقف فلا يُسمح أن يفكر فلسطيني بأن من الممكن للأمّة العربية أن تتخلى عن قضية فلسطين لأنها قضيتها وتمسّ وجودها ومصالحها العليا. فإقامة كيان صهيوني في هذه النقطة الجغرافية من الوطن العربي يشكل تهديداً حقيقياً ودائماً، ولا يمكن أن تغيّر طبيعته التي قام وَوُجِدَ على أساسها مهما حاول البعض البحث عن تعايش أو تهادن أو تصالح. والأنكى مهما حاول ابتداع عدّو أشدّ خطراً غير العدو الصهيوني.
وأن من يسقط في هذا الوهم الانحراف أكان فلسطينياً أم عربياً أم مسلماً (في أقاصي بلاد المعمورة) سيندم ولات ساعة مندم.
وبهذه المناسبة يجب الحذر من خطورة الصراعات الداخلية على اختلافها، والتي توّلد الأمراض والانحرافات وقصر النظر، حين يُرى العدّو الداخلي أو الشقيق أشدّ خطراً من العدّو الصهيوني ويذهب ليتحالف مع العدّو الصهيوني ضدّ من كان إلى أمس أخاً وشقيقاً وجاراً. فهذا الانحراف في الوعي والممارسة يجب أن يُعامَل باعتباره أشدّ المُحرَّم مهما بلغت قسوة الصراعات الداخلية أو البينية ووصلت في ظلمها وجرمها.
وسوم: العدد 652