حداثي يطالب الوزارة الوصية على الشأن الديني بإيقاف خطيب جمعة تعصبا للحداثة
نشر أحد مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية شكاية من حداثي غاضب لكرامة الحداثة للوزارة الوصية على الشأن الديني ضد خطيب جمعة متهما إياه باستغلال المنبر لنشر ما سماه هذا الحداثي " الفكر الطالباني " نسبة لحركة طالبان الأفغانية . وتشير الشكاية إلى أن الخطيب أزبد وأرغى على حد وصف الحداثي فيما يتعلق بقضية المساواة بين الجنسين ، واعتبر ذلك طعنا في الدستور الذي ينص على المساواة وعلى اعتماد الحداثة .
بداية أستغرب لجوء هذا الحداثي إلى أسلوب تحريض وزارة الشؤون الإسلامية على خطيب الجمعة ،وهو أسلوب يعكس طبيعة التوجه الحداثي الاستئصالي . وكان الجدير بهذا الحداثي أن يستعمل منبر مواقع التواصل الاجتماعي للرد على منبر الجمعة عوض المطالبة بإسكاته واستئصاله ، وهو أسلوب بائد يزعم الحداثيون أن حداثتهم قد قاطعته ضمن ما قاطعت من قديم وتقليدي وسلطوي ...
وبعد ذلك لا مناص لهذا الحداثي الشاكي من معرفة طبيعة منبر الجمعة ، فهو منبر ديني يختلف عن المنبر الحداثي غاية وهدفا ورؤية وتصورا وقناعة وأسلوبا ومنهجا .... وبينهما من البعد ما بين السماء والأرض ، ذلك أن منبر الجمعة يتداول خطابا إلهيا بينما منابر الحداثة تتداول خطابا بشريا . والخطاب الإلهي يخاطب إنسانا أخرويا يتعامل مع الدنيا كوسيلة من أجل الآخرة كغاية في حين يخاطب الخطاب الحداثي إنسانا دنيويا غايته الدنيا ولا علاقة له بالآخرة أو ما بعد الرحيل عن الدنيا.
والحداثة كمذهب فلسفي وفكري حين اختار القطيعة مع المقدسات ،وعلى رأسها الدين ،وقرر تجاوز سلطته ، واختار التناقض مع ما كان سائدا ، واختار تغيير أنماط التفكير ،وقدم نفسه على أنه صورة جديدة للإنسان والعقل والهوية ، وجعل الإنسان سيد الطبيعة ومالكها، ومركز الكون ، ومصدر القيم ، فإنه قد اختار القطيعة مع الدين ، لهذا أستغرب حضور حداثي خطب الجمعة التي من المفروض أن تقاطعها الحداثة من ضمن ما تقاطعه من قديم وتقليدي . وكان على هذا الحداثي أن يريح نفسه من وجع الرأس، فلا يحضر خطابا يقاطعه مذهبه الفلسفي الحداثي أصلا . وكان عليه أيضا أن يدخل في منافسة مع خطاب منبر الجمعة الديني من خلال منابر الحداثة اللادينية ، وما أكثرها ، ويؤثر في الجمهور الذي يؤم المساجد ليتحول من منابر الجمعة إلى منابر الحداثة وفق قاعدة البقاء للأصلح، أما الرهان على تدخل الوزارة الوصية عن الشأن الديني لإخراس منبر الجمعة ، فدليل على فشل وعجز المنبر الحداثي .
ولا أريد الخوض في موضوع الحداثة ، وفي نشأتها ،فهي مما حبلت به أوروبا وولدته وأرضعته ونشأته ، وهي بنتها الشرعية إلا أن القوم عندنا في عالمنا العربي والإسلامي أرادوا تبنيها دون أن يحبل بها مجتمعهم أو يلدها أو يرضعها أو يربيها . وإذا كان توجه الإنسان الغربي صوب الحداثة كرد فعل على فكر ديني خالطته الخرافة بفعل تحريف ما أنزل من السماء من رسالات قبل نزول آخر رسالة وبشهادتها ، فالإنسان المسلم لا مبرر له ليولي وجهه شطر الحداثة مع يقينه بأن آخر رسالة لم تخالطها الخرافة بفعل التحريف كغيرها من الرسالات السابقة . والحداثيون يعتبرون الفكر الديني عبارة عن قراءة منغلقة للتراث الديني في حين يعتبرون أنفسهم يصدرون عن تصور حقوقي كوني ، وفي هذا نزع لصفة الكونية عن دين الإسلام ، وإضفائها على الحداثة . فمرجعية الحداثة هي ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية ، وهي مواثيق معولمة فرضها الإنسان الغربي باستغلال تفوقه الصناعي والتكنولوجي مع التعامل بنفس الذهنية الاستعلائية فكريا وثقافيا . وحداثة الإنسان الغربي مخترع المواثيق ومدولها تربط بين ما هو مادي وما هو معنوي ، أو بالمفهوم الماركسي بين البنى التحتية والبني الفوقية بحيث تتبع الأخيرة الأولى بالضرورة أو تتولد عنها. وتحاول الحداثة الغربية الاستئثار بمسايرتها للتطور التكنولوجي رافضة مسايرة الدين عموما والإسلام وخصوصا له . ولقد وقر في أذهان الحداثيين عندنا أن نشأة الحداثة الغربية من خلال القطيعة مع كل تقليدي وقديم خصوصا الدين هي سبب طفرة التطور التكنولوجي . وإذا كان الدين عند الغربيين يقف في وجه هذه الطفرة فمن الخطأ في الحساب والتقدير والاستنتاج الحكم على الإسلام حكم المسيحية . وإذا كانت المسيحية قد خلت من حياة الغربيين المنبهرين بالتطور التكنولوجي الذي أثر فيهم بقوة ، فجعلهم يتنكرون لدينهم الذي كان يقف حاجزا دون حدوث تغيير في حياتهم المادية ، وفي نمط عيشهم ، فالأمر مختلف بالنسبة للإسلام الذي لا يمكن أن يخلو من حياة أتباعه لأنه لا يقف حاجزا دون مسايرتهم للتطور التكنولوجي المستمر ما دامت الحياة فوق سطح كوكب الأرض . وما يبطل تصور الحداثيين المتمثل في القطيعة مع القديم والتقليدي والمقدس هو أن الإسلام يدعو لمسايرة تطور الحياة المادية، وهو التحديث الذي لا علاقة له بالحداثة بالمفهوم الفلسفي، وهو تطور لا يمكن بتاتا أن يتجاوزه لأنه لا ينظر نظرة جامدة للأشياء كما يعتقد الحداثيون عندنا نقلا عن الحداثيين الغربيين أو ضبيا نسبة إلى جحر الضب ، والذي يقصد به في الثقافة الإسلامية التقليد الأعمى حيث يحدو المقلدون عندنا الغربيين شبرا بشبر حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم غير آبهين بنتانته . وما أتفه الإنسان الذي قدمه الإسلام كمخلوق مكرم ، ومستخلف في الأرض المسخرة له إذا ما انبهر بالتطور المادي والتكنولوجي الذي هو من صنعه ،فحمله الانبهاربذلك على تغيير طبيعته الإنسانية والخضوع لهذا التطور ليصير منفعلا به بعدما كان فاعلا فيه . ومن سخف الحداثة أنها تروم تحرير الإنسان من سلطة الله عز وجل لتجعل منه مخلوقا مؤلها . والإسلام يقر باستخلاف الإنسان في الأرض وتسخيرها له ، وتكريمه وتفضيله على كثيرا من المخلوقات، ولكنه لا يقر بملكيته لها لأن ملكيتها لخالقه جل في علاه ،و هو الذي استخلفه فيها . ولا يمكن أن يؤثر التطور المادي والتكنولوجي في المبادىء والقيم الإنسانية حيث ستبقى العدالة عدالة والحق حقا والمساواة مساواة كما أرادها الخالق سبحانه الذي خلق الجنسين ذكرا وأنثى لتكون الحصيلة عبارة عن إنسان يختلف طرفاه جنسيا اختلاف تكامل لا اختلاف تنافر وتناقض، ويتساويان في الآدمية أو الإنسانية وما يرتبط بها مع تأهيل كل جنس بطبيعة خلقه لما يناسبه . ومن التصورات المتهافتة للفكر الحداثي ،وهي مثيرة للسخرية أن يقر مكرها ورغم أنفه بالفوارق المادية جنسيا بين الذكر والأنثى بحيث لا يتبارى الذكور مع الإناث في المجال الرياضي على سبيل المثال باعتبار اختلاف الطبيعة الجنسية بينهم مقابل إنكار الفوارق في الإرث كما نص على ذلك الإسلام . وحتى يكون مفهوم المساواة ، وهو مفهوم من بنات أفكار الحداثة منسجما عند الحداثيين وجب أن يشمل جميع نواحي الحياة، فلا تتبارى الإناث رياضيا فيما بينهن باعتبار طبيعتهن الجنسية المفارقة لطبيعة الذكور حيث يكلف هؤلاء ما لا تكلفه الإناث، ويكون للذكر من الجهد مثل حظ الأنثيين أو أكثر في المجال الرياضي، ولا يكون كذلك في مجال الإرث . وبسبب المفهوم المبتذل للمساواة في التصور الحداثي نشأ ما يسمى زواج المثليين ، وهو قطيعة مع الزواج التقليدي . وعلى غرار هذا التصور يحاول الحداثيون القطيعة مع كل قديم أو تقليدي ، وهم حين يقاطعون قسمة الإرث الإسلامية ، وهي تشريع من تشريعات الإسلام بذريعة المساواة بين الجنسين إنما يقاطعون الإسلام جملة وتفصيلا. ومن أجل تجنب تصريح الحداثيين عندنا علانية بنبذ الإسلام ،وهذا جبن منهم أو نفاق يصفون الملتزمين بتعاليمه بأصحاب الفكر الطالباني أو أصحاب القراءة المنغلقة للتراث الديني، لأن القراءة المنفتحة له حسب تصورهم هي تعطيل تشريعاته بذريعة عدم مسايرتها لمستجدات العصر ، وهذا يعني ضمنيا القطيعة مع الإسلام الذي يعتبر عند الحداثيين دينا أفرزته ظروف لم تعد موجودة .
وأخيرا نقول للحداثي المشتكي من خطيب الجمعة ألا يكفيك قول الله عز وجل (( لكم دينكم ولي ديني )) هل يوجد في حداثتك المتبجحة بالديمقراطية والتقدمية ... ما يقابل هذه الحرية في الاعتقاد أم أن منطق الحداثة هو " أنا وحدي ولا فكر آخر معي " ؟ ولا شك أن الذي أطمع الحداثي في إعطاء الأوامر للوزارة الوصية على الشأن الديني لمنع الخطيب من منبر الجمعة هو سكوتها على ما يصدر عن الحداثيين من تصريح صريح بالقطيعة مع المقدس ،وهو تعطيل لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي صار الخطباء يضطلعون بها وحدهم ، ويخضعون بين الحين والآخر للمساءلة عنها ، وقد يتم توقيفهم لإرضاء الحداثيين ومن على شاكلتهم مخافة أن تتهم الوزارة بمعاداة الحداثة ، وهي المكلفة بالموروث الديني الذي ترفضه هذه الحداثة .
وسوم: العدد 653