وقف العمليات العدائية في سوريا... هل هو خطوة على حل الأزمة؟
ربما يقع خلط لدى البعض بين مصطلح "الهدنة" التي بدأ سريان مفعولها في الساعة صفر من ليل الجمعة 62 شباط 2016 ومصطلح "وقف إطلاق النار"، على الرغم من أن الذين كتبوا نص الاتفاق أو البيان هم الذين يدققون في ما وراء النصوص وما يمكن أن تحمله من تأويلات وتفسيرات لا تنسجم مع إرادتهم، وقد يتساءل سائل إذن لماذا تختلف التفسيرات بين أطراف النزاع أو الجهات الدولية التي تدعم كل طرف منهم؟ والجواب هنا هو ليس غموض النص فقط وجعله حمّال أوجه وتفسيرات فقط وإنما لأن من "صاغ النص" كان يتعمّد وضع نصٍ قابلٍ للتأويل كي يتحول إلى ثغرة تدخل منها قوى دولية عملت على إثارة النزاع ومن ثم دخلت على طريق الحل لتضمن ما تعتبره "حقا" خالصا لها ومحرما على غيرها.
إن مصطلح "وقف الأعمال العدائية" لا يرتقي حتى إلى مستوى مصطلح "الهدنة" لأن هذا المصطلح إن تحقق فإنه يحصل بين أطراف النزاع نفسها، في حين أن من اتفق على الحالة الجديدة في سوريا هما القطبان الدوليان الرئيسان في العالم، وهما الولايات المتحدة وروسيا، وفرضا وجهة نظريهما على أطراف النزاع، فروسيا تستطيع فرض ما تريد من مواقف على الحكومة السورية التي باتت فاقدة للسيادة بحكم التدخل الروسي بشكل استثنائي على مجمل الأوضاع العسكرية والأمنية والاقتصادية في سوريا، أما الولايات المتحدة فهي قادرة على ممارسة أقصى درجات الضغط على المعارضة السورية والجهات التي تدعمها، وإلا فإنها ستفقد أي إسناد سياسي دولي، ونتيجة الموقف الأمريكي الغامض حينا والمتردد معظم الأحيان، فقد وجدت المعارضة السورية نفسها أسيرة لتوازنات إقليمية ودولية كادت أن تحول الساحة السورية إلى مسرح عمليات عسكرية لقوى خارجية، بعبارة أخرى تحولت سوريا إلى ساحة حروب بالنيابة بين أطراف عدة.
لا تترتب على الهدنة أية التزامات سياسية بين أطراف النزاع، على خلاف وقف إطلاق النار، ولهذا جاء الإصرار الروسي على تجنب مصطلح هدنة أو وقف إطلاق النار، واقترن هذا الموقف بتمسك روسي بقائمتها الخاصة بأسماء "الحركات الإرهابية" مع ما يعنيه ذلك من نية مبيتة لخرق الاتفاق الأخير بحجة أن المناطق التي يقصفها طيرانها الحربي أو التابع للنظام السوري تقع تحت سيطرة منظمات إرهابية.
إن وقوف روسيا بهذا الثقل الاستثنائي إلى جانب نظام بشار سواء بتقديم أحدث ما تنتجه مصانع السلاح الروسية أو بالوقوف حائلا دون مرور أي مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي ضد النظام أو بتقديم التفسيرات الملتبسة للقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة أو المؤتمرات التي عقدت من أجل حل الأزمة تؤكد أن لروسيا أهداف تتعدى مجرد الإبقاء على نظام بشار على قيد الحياة، مقابل ذلك انعدام قوة الدعم الدولي للمعارضة السورية بما يكافئ الدعم الروسي المضاد وممارسة أعلى درجات الضغط على تركيا والمملكة العربية السعودية لمنعهما من تقديم أسلحة نوعية لمواجهة الطيران الروسي وطيران لنظام، وكذلك حالة الانقسام بين فصائل المعارضة السورية على الصورة القائمة حاليا، يجعل من المعارضة في أضعف حالاتها سياسيا وعسكريا ويسلبها جانبا كبيرا من القدرة على المناورة المطلوبة في هذا الظرف الصعب الذي تمر به سوريا، فالولايات المتحدة التي تميّز موقفها في رئاستي باراك أوباما بالتردد وعدم وضوح الاستراتيجية الأمريكية على مستوى المنطقة، حتى أصبحت حليفا غير موثوق به مع أكثر حلفائها وأصدقائها ويبدو أنها باتت تفكر باستبدالهم والبحث عن حلفاء أكثر استجابة وطاعة لها من الحلفاء القدامى الذين بدأوا ينظرون إلى مصالحهم الوطنية ويضعونها في مرتبة متقدمة على حساب العلاقة مع واشنطن، ولعل النموذجين التركي والسعودي يمثلان أبرز التجارب على هذا التوجه، غير أن أمرا في غاية الأهمية يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار، وهو أن توجهات السياسة الأمريكية بالنسبة لتركيا أخذت تتصادم في أحيان كثيرة مع مصلحة الأمن القومي التركي وخاصة فيما يتعلق بالتعاطي مع القضية الكردية وما تقدمه الولايات المتحدة من دعم مفتوح للحركة الكردية في سوريا بما في ذلك القتال إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية الكردية التي تسعى لإقامة كيان كردي مستقل في الشمال الشرقي لسوريا، وكان سحب منظومة صواريخ باتريوت "في أعلى مراحل التأزم التركي مع روسيا" من تركيا مؤشرا على أن واشنطن خذلت أبرز حلفائها داخل الناتو وجناحه الجنوبي وذلك عندما كانت روسيا تعمق من تدخلها العسكري في سوريا وتوسع من دور قواتها الجوية في شن الغارات على مقربة من الحدود التركية.
أما فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية فقد اكتشفت طيلة مراحل الاتصالات الثنائية السرية بين مسؤولين أمريكيين وإيرانيين في بغداد ومسقط أو أثناء الاتصالات التي كانت تجري في نطاق مجموعة (5+1) بشأن البرنامج النووي الإيراني، أن إدارة الرئيس أوباما كانت على استعداد للتفريط بعلاقات ثنائية تعود لعدة عقود بين البلدين، وتوجها جديدا لإقامة علاقات مع إيران ترتكز على حساب المصالح العربية في منطقة الخليج العربي وليس على حساب الروابط مع السعودية وحدها، فالولايات المتحدة غضت الطرف بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عن محاولات إيران للتمدد خارج حدودها تطبيقا لشعار تصدير الثورة، وكان هذا أثناء رئاسة جورج بوش الابن، مما أعطى انطباعا لاحقا بأن الولايات المتحدة على استعداد لطي صفحة الإرهاب الإيراني، طالما أنه لا يهدد مصالحها حتى في حال زحفه على دول صديقة لأمريكا، وأن هذا التوجه توجه استراتيجي لا يرتبط بشخص الرئيس وإنما هو تعبير عن مصلحة أمريكية، ومما عزز المخاوف السعودية من توجهات السياسة الأمريكية الجديدة، أنها أي واشنطن أشاحت بوجهها عن الأخطار الجدية التي كان الحوثيون يشكلونها على الأمن القومي لمنطقة الخليج العربي عموما والسعودي خصوصا، فتحت لافتة الحرب على تنظيم القاعدة التي تشترك السعودية في النظرة إليها على قدم المساواة مع النظرة الأمريكية وربما تفوقها كثيرا بحكم أن نشاط القاعدة في الجزيرة العربية كان موجها ضد المصالح السعودية بصورة مباشرة ويمثل تهديدا محتملا وعلى نطاق ضيق للمصالح الأمريكية، هذا التحول الذي لا يخفى على المراقب دفع بالمملكة العربية السعودية إلى اتخاذ قرار استراتيجي ببدء عملية عاصفة الحزم من دون أن تكترث لردود الفعل الأمريكية التي تفاجأت بها وتعاملت معها كأمر واقع لا تستطيع دعمه فعلا ولا تستطيع وقفه.
إن التباين في تعريف مفهوم الإرهاب بين العرب والغربيين أدى إلى حصول تجاذبات حادة بين الطرفين كان العرب هم الحلقة الأضعف لأن العالم كله انحاز إلى التفسير الغربي بشأن التعامل مع مفهوم الإرهاب الذي بلغ ذروته في عملية 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتم تحميل السنّة مسؤوليته كمكون وليس كأفراد، ففي الوقت الذي تريد الولايات المتحدة من العرب الذهاب معها في اعتبار "الإرهاب السني" المتمثل في القاعدة وتفرعاتها بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية، والتعامل معه بحزم وحسم، نراها وهي تأبى بإصرار الاستجابة لوجهة نظرهم باعتبار المليشيات الشيعية المدعومة من إيران وتتحرك بمعرفة الحكومة التي نصبّها المحتلون الأمريكيون في العراق تتصرف بمنطق الولاية على الدول الصديقة والحليفة، بل إن الولايات المتحدة كانت مطّلعة على دور حزب الله اللبناني الذي كانت تصنفه في الماضي لأسباب إسرائيلية كحركة إرهابية في العراق وفي لبنان وفي اليمن وفي سوريا، تراجعت عن ذلك وقبلت به كحزب سياسي كامل الأهلية في لبنان بل أذعنت لدوره المعطّل لحركة الدولة اللبنانية بكاملها، كما قامت قبل انسحابها من العراق عام 2011 بإطلاق سراح علي موسى دقدوق القيادي في حزب الله والذي اعتقل في البصرة جنوبي العراق وتسليمه لحكومة نوري المالكي التي سلمته إلى حزب الله اللبناني، وعندما تدخل حزب الله في سوريا لدعم بشار الأسد، لم تر واشنطن في ذلك تهديدا للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم ولم تبذل جهدا في وضعه على قدم المساواة مع جبهة النصرة وداعش، وكذلك الحال بالنسبة لمليشيا أبي الفضل العباس وعصائب أهل الحق ولواء اليوم الموعود وحزب الله العراقي على الرغم من ارتكابهم جرائم حرب بدأت في مدينة القصير وامتدت إلى معظم المدن السورية وعشرات العناوين والأسماء لمليشيات مدعومة من إيران التي لم تتعرض لمجرد سؤال عن أدوارها في التدخل في شؤون الدول الأخرى وإثارة الفتنة الطائفية في المنطقة.
تحاول روسيا العودة بقوة إلى المسرح الدولي عبر البوابة السورية متخطية الصعوبات التي تعترض مساعيها بارتكاب جرائم حرب واستغلت التردد الذي طبع السياسة الأمريكية ربما بتواطؤ أمريكي أو صمت نابع من رد الفعل الشعبي الأمريكي على النتائج الكارثية على المجتمع الأمريكي بشريا وماديا للسياسات العدوانية الأمريكية في الخارج منذ الحرب العالمية الثانية حتى وقوع الاحتلال الأمريكي للعراق بناء على أكاذيب سوّقتها الإدارة الأمريكية عبر تقارير أعدتها المخابرات المركزية لتتوافق مع توجهات الحرب التي سار إليها جورج بوش الابن، ظنا منها أنها ستكون نزهة عابرة وسريعة، ولكنها أعادت إلى الذاكرة الجمعية الأمريكية ذكريات مآسي الحرب الفيتنامية، نتائج احتلال العراق أرغمت الولايات المتحدة على إعادة النظر باستراتيجيتها الكونية وأقرت بعدم قدرتها على خوض حربين في وقت واحد أو خوض حرب واحدة مضمونة النتائج، فوجدت روسيا في هذا التحول الدراماتيكي أو الانكفاء الأمريكي فرصتها لإعادة رسم المشهد الدولي إلى ما كان عليه الحال قبل انكفاء الاتحاد السوفيتي وبدء مرحلة القطبية الواحدة، فبدأ التململ الروسي من انفراد الولايات المتحدة مع وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين لثماني سنوات ثم أصبح رئيسا للوزراء ثماني سنوات أخرى ليعود بعدها رئيسا مرة ثانية لفترتين رئاسيتين في عملية تبادل للمواقع مع ديمتري مدفيدف الذي يحمل عنوانا كبيرا من دون دور معروف.
عبّرت روسيا عن حالة تململها أولا في جورجيا بشأن فضيتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا فأعلنت الوقوف إلى جانب سكان الإقليمين في نية إجراء استفتاء للانفصال عن جورجيا في حين تراهما الأخيرة جزء من أراضيها، ويبدو أن الرئيس الروسي كان يقوم بعملية جس نبض لمعرفة رد الفعل الغربي تجاه شنها الحرب على جورجيا، ولما أيقن أن الغرب وخاصة الولايات المتحدة المتورطة في أكثر من ساحة لا تستطيع التصدي للسياسة الروسية عمليا وإن كانت بياناتها توحي بخلاف ذلك خطط للمضي قدما في مشروعه الطموح، وكانت المحطة الثانية هي أوكرانيا فقد استولت القوات الروسية على شبه جزيرة القرم ثم بدأت تطرق أبواب وحدة الأراضي الأوكرانية وذلك بدعم المعارضة المسلحة ضد حكومة كييف، وكان رد الغرب ضعيفا جدا واكتفى بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا على أهميتها إلا أنها لم تثني روسيا عن التمسك بالمكاسب التي حققتها هناك.
هذا التقدم من جانب روسيا في تحقيق أهدافها، وإخفاق الولايات المتحدة في التصدي لطموحات روسية بالعودة إلى المسرح الدولي كوريث للاتحاد السوفيتي، هو الذي أغرى روسيا بمزيد من المواجهة المحسوبة مع الغرب خاصة مع وجود رئيس أمريكي يصفه المراقبون بأنه هو الأضعف في تاريخ الولايات المتحدة، فوجد الروس في الأزمة السورية البارجة التي تنقلهم إلى المياه الدافئة وهو الحلم القيصري القديم، ومع التطورات اللاحقة في المشهد السوري سياسيا وأمنيا تأكد لكثير من متابعي التوجهات السياسية الروسية في عهد بوتين، أن هناك إحساسا مشتركا بين موسكو وواشنطن بحاجة إحداهما للأخرى في ترتيب الملفات الدولية على أساس نظام دولي جديد لا يعرف صراعا بين معسكرين، بل قوى دولية كبرى تتفاهم على كل التفاصيل لتجنب المواجهة، وربما أكدت الساحة السورية أكثر من أية ساحة أخرى، أن التنسيق بين العاصمتين وصل إلى أعلى مراتبه، وخاصة في التعاطي مع القضية الكردية، فمن المعروف أن القوات الخاصة الأمريكية قاتلت مع قوات سوريا الديمقراطية في "الشدادي"، كما كانت قد وقفت إلى جانب الأكراد في مدينة عين العرب، ويلتقي الأمريكيون مع الروس في تبادل أدوار الدعم والإسناد، فالروس تبنوا وبإصرار لافت مشاركة الأكراد في مؤتمر فينا ولكن محاولتهم اصطدمت برفض تركي ومن وفد المعارضة السورية اللذين اعتبرا المليشيا الكردية جزء من قوات النظام السوري في شن الحرب على ثورة الشعب السوري، وتناغم الموقفان الأمريكي والروسي في الحديث المشترك عما أسموه بـ"حقوق الأقليات" حتى بات كثير من المراقبين يتساءلون عن حقوق الأكثرية التي تم طمسها عن طريق أقليات تمارس قمع الأكثرية.
ربما يبدو دور إسرائيل غائبا أو مغيبا من كل هذه الطبخة التي تعد للمنطقة على نار هادئة، ولكن عندما يصرح مسؤول روسي كبير بأن "النظام الفدرالي" هو الأصلح لسوريا في حال تأكد نجاحه، أي أن روسيا تلتقي مع أمريكا في تقسيم الشرق الأوسط على أسس عرقية ودينية ومذهبية بدء من العراق، وهذا ما ورد في مشروع بنغوريون أول رئيس للوزراء في إسرائيل، والذي كان قد أعده عام 1952، وبالتالي نستطيع أن نتفهم حقيقة ما يعد للمنطقة من أمرين، الأول هو تصريح رامي مخلوف وهو أحد أقارب بشار الأسد بعد اندلاع الثورة السلمية في سوريا، من أن خروج نظام الرئيس بشار الأسد من الواجهة السياسية في البلاد سيهدد أمن إسرائيل بأخطار جدية، والثاني هو تراجع الرئيس أوباما عن توجيه ضربة جوية بعد اختراق كل الخطوط الحمر التي وضعها للنظام في حال ثبوت استخدامه الأسلحة الكيمياوية ضد شعبه، فعادت الطائرات الأمريكية أدراجها من حيث أتت، بعد أن شعرت إسرائيل بأن ضربة كهذه ستعني صعود تيار إسلامي إلى الحكم في البلاد، والذي ترى فيه خطرا حقيقيا لا يهدد أمنها فقط وإنما مصيرها، وهكذا نرى أن العراق وسوريا تحولا إلى منطقة تتقاطع أو تتصادم فيها أجندات أطراف دولية أو إقليمية لها برامجها الخاصة ومصالحها في تمزيق أوصال الوطن العربي، وما ينفذ اليوم في العراق وسوريا إذا ما نجح فإنه سيكون الخطوة الأولى على طريق طويل لضرب وحدة الأراضي الوطنية في معظم الأقطار العربية والإسلامية ولكن بصورة تدريجية، أكثر ما يثير الدهشة أن العرب يعرفون كل هذه الحقائق ولكن رد فعلهم لا يتناسب وحجم ما يخطط ضدهم ولا مع وعيهم بحقيقته وأبعاده الخطيرة، فهل هناك جرس إنذار أقوى صوتا مما يحصل اليوم؟ أسوأ ما الإنسان هو أنه يعرف الخطر الذي يهدده ويشخص مصدره ولكنه مسلوب الإرادة ولا يملك القدرة على الحركة لدفع الأذى عن نفسه.
د.نزار السامرائي
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
وسوم: العدد 657