البلدان النفطية والتكيف مع الصدمة
د. حيدر حسين آل طعمة
مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
إن التراجع الأخير في أسعار النفط العالمية يعود إلى مزيج كبير من العوامل والقوى المحركة للأسواق، إلا أن العنصر الرئيس الذي يميز أسواق النفط العالمية مؤخرا، والذي يشكل عامل ضغط على الأسعار، هو أن هذه الأسواق تعيش الآن حالة من فائض المعروض، بشكل لم تعهده من قبل. هذا الفائض إلى جانب عوامل أخرى يولد ضغوطا متزايدة على الأسعار، التي تدور حاليا حول 50 دولارا للبرميل، كأدنى مستوى لها منذ ما يزيد على أربعة أعوام.
وتواجه البلدان المصدرة للنفط تحدياً خطيرا يتمثل في الحد من اعتمادها على النفط، فزيادة عرض النفط من المصادر غير التقليدية والكفاءة المتزايدة في استخدام الطاقة يفرضان ضغوطاً خافضة لأسعار النفط التي تتقلب بدورها تحت تأثير تذبذب التوقعات المتعلقة بنمو الطلب العالمي. ومع الهبوط المفاجئ الذي شهدته أسعار النفط في الشهور القليلة الماضية، أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً لتنويع الاقتصاد في هذه الدول بدلاً من الاعتماد المفرط على النفط.
فقد أدى الهبوط الحاد في أسعار النفط العالمية، بنسبة تفوق 50% مقارنة بسبتمبر من العام 2014، إلى تغيير ديناميكية الاقتصاد في البلدان المصدرة للنفط في الشرق الأوسط. ويوضح تقرير الصندوق العالمي للنقد الصادر مؤخراً حول مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمي أن هذه البلدان تواجه الآن خسائر كبيرة سواء في حصيلة الصادرات أم الإيرادات الحكومية، حيث يُتوقع أن تصل إلى نحو 300 مليار دولار أمريكي (21% من إجمالي الناتج المحلي) في مجلس التعاون الخليجي ونحو 90 مليار دولار (10% من إجمالي الناتج المحلي) في البلدان النفطية غير الأعضاء في المجلس(1).
ومهما تكن جاذبية رؤية الانتعاش الذي تقوده الموارد الطبيعية، فإنه يثبت للأسف أن هذه الرؤية عصية على التحقيق. ويكمن المفتاح في فهم الاتجاهات العامة الأطول أجلا في النظر إلى الاقتصاد خارج قطاع الموارد الطبيعية، فعلى الرغم من إيجابية معدلات النمو بوجه عام، فإن معدلات النمو الأساسية غير المتصلة بالموارد الطبيعية أقل بكثير. ويتعين على السلطات الاقتصادات الغنية بالموارد أن تعالج عدة قضايا، أهمها (2):
• قابلية نفاد الموارد غير المتجددة -بما في ذلك النفط والغاز والمعادن- ومن ثم قابلية نفاد الصادرات التي تعتمد عليها البلدان النفطية أيضا.
• عدم إمكانية التنبؤ بأسعار السلع الأولية التي تصدرها هذه البلدان، مما يؤدي إلى تقلب جزء كبير من إيراداتها في الغالب، وهو ما يمكن أن يتسبب في تقلب الإنفاق الحكومي.
• افتقار البلدان في الغالب إلى أطر سياسات قوية بما يكفي لدعم تنفيذ سياسات سليمة للضرائب والإنفاق، وربما تكون لدى البلدان قدرات محدودة على إعداد تنبؤات طويلة الأجل بالإيرادات وتنفيذ مشاريع استثمارية عامة عالية الجودة.
إن سوء إدارة واستخدام الموارد الطبيعية (3) -مفارقة إن البلدان والمناطق التي توجد فيها وفرة من الموارد الطبيعية غالبا ما تحقق معدلات نمو اقتصادي أقل وتكون نتائجها الإنمائية أسوأ من البلدان والمناطق التي توجد فيها مقادير أقل من الموارد الطبيعية- تلقي بظلالها على المشهد الاقتصادي في البلدان الريعية. والتفسيران الرئيسيان لبطء نمو الاقتصادات شديدة الاعتماد على الموارد الطبيعية هما:(4) ضعف المؤسسات والمرض الهولندي. وإحدى مشكلات التفسير الأول، هي فرط اتساع مفهوم المؤسسات. فعبارة (ضعف المؤسسات) يمكن أن تعني أي شيء، بدءا بعدم كفاية وضوح القوانين أو إنفاذها وانتهاء بتراخي الإدارة وضعف الضمانات الوقائية لمنع الفساد أو ضعف السياسات الاقتصادية. ورغم أن كثيرين ممن يذكرون ضعف المؤسسات يقصدون عدم كفاية الضمانات الوقائية لمنع الفساد، فإن الاستيلاء مباشرة على ثروة الموارد الطبيعية لا يمكن أن يفسر وحده النمو السالب في النشاط الاقتصادي المشاهد في بعض الاقتصادات شديدة الاعتماد على الموارد.
أما المرض الهولندي -وهو تفسير ثان تدعمه شواهد كثيرة لبطء نمو الاقتصادات شديدة الاعتماد على الموارد- فيحدث عندما تؤدي طفرات الموارد إلى زيادة الطلب على نحو يرفع الأسعار ويضر بنمو الشركات التي تستخدم تلك المنتجات كمدخلات للتصدير. ولا يزيد عدد الاقتصادات شديدة الاعتماد على الموارد التي تمكنت من تنمية صادراتها غير المتصلة بالموارد على بضعة اقتصادات. ولا يزيد عدد البلدان النامية التي نمت بسرعة دون تحقيق نمو كبير في الصادرات خارج قطاع الموارد الطبيعية على بضعة بلدان. ورغم أن البلدان تستطيع تخفيف حدة الزيادة في الطلب التي هي أصل المرض الهولندي -مثلا بإنفاق إيرادات الموارد على سلع أجنبية- فإنه من غير المرجح أن تفلت منه تماما. ويرجح أن يستمر المرض الهولندي بإصابة البلدان الغنية بالموارد الطبيعية.
على المدى القصير، تستطيع معظم الدول المصدرة للنفط السحب من احتياطاتها المالية المتراكمة ومن ثم تخفيف أثر انخفاض أسعار النفط على النشاط الاقتصادي والنمو. غير أن زيادة قيود المالية العامة المتوقعة في السنوات القليلة القادمة ستتطلب من البلدان المصدرة للنفط أن توفق أوضاعها بالتدريج لتتلاءم مع الواقع الجديد. وعلى سبيل التحديد، ينبغي لهذه البلدان أن تُعَدِّل إنفاقها بالتدريج وأن تدفع جهود الإصلاح في مجال دعم الطاقة. ويعني هذا أن نماذج النمو المطبقة في العقد الماضي، والتي كانت ترتكز على الإنفاق الحكومي المتزايد، قد لا تكون مناسبة بعد الآن. وبدلاً من ذلك، سيتعين إكساب القطاع الخاص درجة أعلى من الاكتفاء الذاتي ليصبح قاطرة للنمو وفرص العمل. إذ يعد الأنموذج الاقتصادي الذي يعتمد كثيراً على النفط أنموذجاً غير قابل للاستمرار.
ففي البحرين وعُمان، من المتوقع أن تنضب الاحتياطيات النفطية في غضون عشرين عاماً. أما دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى فأمامها آفاق زمنية أطول بكثير، لكن حاجتها إلى التغيير تظل قائمة. وتشير الأبحاث إلى أن الصادرات المتنوعة والمتطورة هي العوامل الأهم وراء النمو القابل للاستمرار. وبعبارة أخرى، يدفع تنوع الصادرات إلى السعي الدائم لإنتاج سلع جديدة واعتماد تكنولوجيات جديدة، وهي عناصر أساسية في النمو القابل للاستمرار. ويعد تحسين البنى التحتية والبيئة الأمنية ومناخ الأعمال متطلبات حيوية لتنويع الاقتصاد، والحد من القيود التنظيمية ومعالجة إخفاقات السوق وتنمية وتشجيع الاستثمار في القطاع الزراعي وتنويع الاستثمارات في القطاع الصناعي لتلبية المتطلبات الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي والاقتصادي.
كما أن تقوية أوضاع المالية العامة والحسابات الخارجية في البلدان النفطية يعد أمراً محورياً للحد من تعرضها لمخاطر التأثر بالانخفاض المحتمل في أسعار النفط. وسيكون من المهم القيام بهذه الجهود على نحو متوازن من الناحية الاجتماعية، وذلك باتخاذ التدابير الملائمة لحماية الفقراء والمعرضين لتأثيراتها السلبية.