ثورة الحرية هي ثورة تغيير وبناء عقل ووعي...
ورقة عمل مقدّمة لورشة الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة"مسارات الثورة وخلاصاتها" 28 ايار 2016
قبل أن نسأل : ماذا بعد؟. لابد من نظرة تقييميّة لتقويم المسار. وسوف نحدد الوصف والتحليل بأهم النقاط الآتية:
1- ثورة وثورات مضادة...
ثورة سوريا مثل أيّ ثورة، كان عليها أن تواجه قوى مضادة لمنع انتصارها؛ لذلك رافقتها منذ البداية حروب شرسة مختلفة، شنّها النظام، ضد الثورة وحواضنها، بالتعاون مع حلفائه ومواليه، فسبّبت خسائر فادحة إنسانيا ومدنيّا، وكان لها تداعياتها وآثارها الاجتماعية والثقافيّة، التي من شأنها أن تفرض على السوري عاجلاً وآجلاً تغييراً كبيراً في الوعي والعمل. ففي النكبات والكوارث والحروب تتغيّر طبيعة الأشياء والأفكار والعقائد والمسالك، ويصبح لازما على الشعب الذي يقاوم الاستبداد والقمع والحرب، أن يتخطّى، بفعل تحديات الوجود وصناعة الحياة، الخراب والدمار، لتطوير نسق فلسفي أخلاقي وإنساني صالح للاتّكاء عليه كمرجعية وطنيّة حضاريّة وأخلاقيّة تنهض به وبعزيمته في مشروع تحرّره. الثورة كشفت عيوباً فكريّة واجتماعيّة وأخلاقيّة وأظهرت حالة الفساد التي نشأ عليها المجتمع ومنظومته الفكريّة المتكوّرة في كهنوت سلطوي متحجّر يقاتل الثورة في صف النظام أو في صفوف جماعات محسوبة على حراك الثورة بغية الحفاظ على موروثه وأصنامه في دائرو النفوذ والهيمنة والقرار . وهكذا تحولت الثورة إلى حرب بين ثورة وثورات مضادة.
2- لماذا تأخرت الثورة في حسم النصر؟
ثورة التغيير التي قامت ضد نظام الاستبداد ومنظومات الفساد والجهل، لم تحقق حتى الآن سياقا سياسيا بديلا، ولم تستطع قوى المعارضة والثورة أن تحقق داخليا وخارجيا شرعيّة سياسيّة متفق عليها؛ فهي مازالت تدور في صراعات ومنظومة أفكار راسخة وثابتة، يفتقر عقلها السياسي إلى الحيوية ، ولم تؤسس مرجعيّة أخلاقيّة فكريّة يستطيع الشعب أن يستظل بها ويقتدي بأفكارها ويحتمي بها. لأنّ قوى المعارضة والثورة لا تملك هذا الاتفاق المبدأي الراسخ في يقيننها وفي رؤيتها. صحيح أنّ وحشيّة الحرب التي يشنّها نظام الاستبداد الحاكم بدعم دولي، على الثورة وحاضنها، هي السبب الرئيسي في تأخير انتصار الثورة وعرقلة نجاح مشروع التحرر، لكنْ، هناك أسباب لاحقة أخرى متعلقة بالواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع السوري وللمعارضة التي تحاول أن تكون بديلا؛ فالانقسام في العقول حاضر، والصراع على النفوذ والمكاسب بين أطياف المعارضة السوريّة يأخذ حيّزا من الأولويات، يتفق مع ذلك استمرار وجود أمراض الفساد والانتهازية والاستغلال والشللية والولاءات الفرعيّة في مسار العمل السوري، وفقدان استراتيجية عمل مستدامة منهجية متفق عليها من قوى المعارضة والثورة، تلقى قبول أطياف الشعب، وغياب مرجعيّة القيادة الجامعة، وضعف عام في مهنيّة عمل المؤسسات التابعة للمعارضة. فهذه الحرب الشرسة المضادة للثورة والنامية على هوامشها، لم تأت بالقسوة من جيبها الخاص...بل استمدت شراستها القبيحة من قبح الواقع الذي اندلعت فيه، ومن تشوّه وعي الإنسان السوري بالقهر والقمع والذل، ومن لؤم المنظومة الدوليّة الجشعة التي تبسط نفوذها على العالم... وتهمين على قراراته. في مسار الثورة هناك وقفات لمراهقة منفلتة من سيطرة ورقابة بعد غياب سلطة القاهر المستبد.
ثورة سوريا اندلعت في أجواء عالم يتغيّر، ليس فقط محليّا وإقليميّا، بل دوليّا؛ فما تم إنجازه، عالميا، في القرن الماضي والعقود الأخيرة، مهدّد بالزوال بحكم منطق التغيير التاريخي الحاصل، وبسبب المشاكل الاقتصادية الخطيرة ونزاعات الهيمنة والسيادة القطبيّة، وصعود قوى شعبيّة جديدة. لذلك؛ فالحرب في سوريا ليست مجرد حدث عابر من دون تأثير وتأثّر، ولم تعد محصورة بسوريا وما حولها، بل أصبحت صراعا إقليميا ودوليا. هي جزء من معركة روسيا مع الغرب، ومعركة الغرب وروسيا مع المشرق العربي والإسلامي، وأخيرا معركة الشعوبية متمثلة بإيران وحلفائها مع العرب والعروبة.
العدوان الروسي والمؤامرات الدولية والتحالف الدولي ونظام الطاغية، وعدم وجود حاضن عربي وسلامي قوي، كلّ له دوره الكبير في تعميق المأساة، لكن يتحمّل السوريون أيضا جزءاً من المسؤولية، من المتفرجين المتقاعسين عن النضال والعمل، أو من العاملين في إطار الثورة والمعارضة والمنظومة الجيددة البديلة في المجالات العسكرية والسياسية والمدنية والمنظمات والجمعيات. فرض الحلول السياسية والثقافية والعسكرية من الأطراف الدولية على السوريين، أخذ طريقه في الثورة نتيجة ضعف العقلية السياسية والثقافية السائدة في المعارضة والثورة، وفي عموم النشاط السياسي السوري المشحون بصراعات الانتماءات الفرعيّة ومصالح انعزاليّة وأفعال انفعالية.
الموضوع أوسع من مجرد مؤامرة دولية تسهم فيها بيوت السياسة الدولية بخارجيتها وأذرعة مخابراتها وقواها العسكريّة ومشاريع الهيمنة والامبريالية والصهيونيّة...هو الوهن التاريخي الذي يقدّم للعدو نصره على الضحيّة؛ فلم تتمكن المعارضة، حتى الآن، من النهوض سليمة معافاة في مواجهة مخاطر المشروع العدواني العالمي على سوري، وفي التخلّص من مشاكلها وإشكاليات خطابها وعملها.
3- كيف تنجح قوى الثورة والمعارضة في خوض حربها لإنجاح ثورة الحرية والكرامة؟
عناصر الحرب الناجحة إلى جانب العسكرة هي مال وعقل وسياسية، وإنسان مؤمن شجاع صاحب وعي وحكمة. الواقع يفرض على قوى المعارضة والثورة تطوير تفكيرها وعملها وتغيير الذّهنيّة التي تعالج فيها الأمور لمواجهة الحرب الشرسة ضد الشعب السوري وضد الثورة والمعارضة، وذلك بأن تضع استراتيجية عمل واسعة وطويلة حاضرة ومستقبليّة مدروسة بعناية من قبل مؤهلين في ختلف المجالات معروضة على قوى الشعب باختلاف مشاربها، وتبني على أساسها نمط العلاقات والتفاهمات والشراكات والصداقات والتحالفات، اعتمادا على ذهنية وطنية مستقلة تعي تطبيق حلول مناسبة لإشكاليات الواقع ، وتستخدم الإجراءات االقصيرة المدى المرنة المناسبة للتغييرات الحاضرة في خطة بعيدة المدى، ليست فقط سياسية، بل تشمل جميع المجالات المدنيّة لمعالجة ما ظهر من هذه الحرب التي التبست بالمذهبية والعنصريّة القوميّة، من أحقاد وضغائن تعصّب ومفاهيم خاطئة ورغبات انتقام ولا تسامح، مع انهيار إنساني واجتماعي واقتصادي ومجتمعي ومواطني، وذلك لاستيعاب ما ينجم عن تداعيات الحرب، إقليمياً ودوليا، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، خصوصا موضوعة الحرب على الإرهاب في سوريا، وما تخلّفه من نزاعات عالمية وانقسامات سياسية وجغرافية، وما يلحق بها من مؤامرات وصفقات، ومشاريع التقسيم. ثم وقضيّة المفاوضات والحل السياسي وما يطالها من تضليل ومراوغة وممطالة ومطاوعة لنظام الاسد.
4- الفوضى وتأثيراتها
من يبحث في المشهد السوري كلّه؛ سيصطدم بغول الفوضى. فهناك فوضى وغوغائية في الأحكام والقرارات والمواقف، وهناك اضطراب كبير في مسارات العمل، يتجلى في ضعف العمل المؤسساتي وهو ظاهرة عامة في أداء المعارضة والعاملين في الشأن السوري في مختلف المجالات، ليس فقط في المعارضة الرسمية، بل في مؤسسات مختلفة جديدة تتبع لعمل المعارضة ، سواء كانت بتمويل غربي علماني أو ليبرالي، أو بتمويل إسلامي إقليمي أو خليجي، فعملها ارتجالي مجزوء عن سياق منهجي عام، تأتي مخرجاته هزيلة، وخاضعة لشروط التمويل والدعم السياسي والفئوي، ينتج مزيدا من النزاعات الداخليّة التي تؤدي إلى انتهاكات للحقوق الإنسانية وإلى جرائم اقتتال أهلي. كذلك المسار السياسي يغوص في مستنقع الصراعات الضحلة الجانبيّة مسيّر بإرادات الممولين والداعمين، حتى انتهى إلى السير بلا هدى ومن دون بوصلة في متاهة الحلول السياسية، التي لا أفق لها ولا تستند إلى دعائم قوّة؛ انجرّت إلى هدر للطاقة والوقت وسط أجواء خداع النظام بالأكاذيب والحيل، والمرواغة الدوليّة بإجراءات صغيرة ووعود وهدايا ترضية، مقابل إبقاء النظام القاتل ومنظومته. العملية السياسيّة الدائرة لعبة تكسير لعظام الثورة السوريّة ولشعبها، واحتيال لإبقاء النظام ومتعلقاته، ومساومة على رأسه بصفقات لتحقيق مكسب. أصحاب القرار الدولي يدركون أن ماساة سوريا سببها نظام كامل برأسه وجيشه وأمنه...ولا يقتصر الأمر على المجرم. وأنّ المأساة السورية حصلت نتيجة مافيا الأسد الطائفيه وطغمته السياسية التي أوجدت العسكر والأمن لحمايتها ومحاربة الشعب وقمع نمو أي عمل خارج هيمنتهم ونهبهم...فكل الأعمال التي تم دعمها جاء دعمها لترسيخ نهب طغمة الأسد، لا لمصلحة سوريا شعبا وحضارة ودولة مؤسسات. العملية السياسية والحل السياسي بالأداء الحالي، وبالمنظور الفوضوي الارتجالي ضرب من العبث. الخسائر الجسيمة التي قدمها الشعب ليست من أجل الفراغ ، أو لتسوّل صدقة من مكتسبات، أو لإعادة النظر في بقاء الطاغية ونظامه، أو لكي تستبدل طاغية ونظام فساد بشبيه لهما.
نجاح التفاوض السياسي مع النظام والعالم، يبدأ من حسن التفاوض السوري السوري في كل المجالات، لحل الِإشكاليات وتقريب الرؤى..وليصبح التفاوض قوة مدعومة بثقل كبير داخلي يمكنها الثبات في وجه التحديات والتآمرات الدوليّة.
تتجلّى الفوضى ، أيضا، في الأخطاء التي يرتكبها السياسيون والتي عرقلت وتعرقل تقدّم مشروع الثورة النهضوي؛ فهناك صياح وجدل أكثر من العمل، وعقلهم السياسي محكوم بتجارب سابقة، كأنّه ختم العلم، ولا جديد في التصوّر الفكري والفلسفي، ضعيف الاستشفاف والتحليل، يكتفي بالتوصيف وترديد السرديات ذاتها يشوبه ، عموما، حالة من السلبيّة وعدم المكاشفة والاتكالية وتسويغ التبعية بحجة العجز، لا يقوم، جديّا وبشكل منظّم وشفاف، بتقييم التجربة وتقويمها ومراجعتها بوعي ومهنيّة، وتنظيم العمل وفق مهمات ومعايير ضمن لجان مهمتها التقويم وتطوير التفكير. كما لا يراجعون المقولات وإجراءات العمل وفق المتغيّرات والتطوّرات. كذلك هناك المعارضون "المدللون" الذين تسوّقهم بيوتات السياسة الدوليّة، والذين يسهمون بشكل كبير في تهديم صورة المعارضة السياسية الرسمية، يشبههم في ذلك، بعض الفصائل العسكرية التي ترتبط مصالحها بمخططات لا تلتقي مع شرعية المعارضة السياسية؛ هم كلهم من مخرجات نهج استعمله العالم لتقوية التشرذم السياسي السوري وتصنيع التبعيّة. وهم جزء من هذه الغوغائية والفساد وتأجيج الفتنة والتخوين. ولأنّ المعارضة السياسية الرسمية تعاني مرض المجتمع السوري من الانقسام والصراعات الأيدولوجيّة وفساد العمل المؤسساتي، فإن الصخب والضجيج يشتدّ ويزداد والسلبيات تعوم مع تزايد الفرز والاصطفاف، وتأخذ اتجاها غوغائيا شعبويا نتيجة العصبويات والولاءات والمصالح وضعف الضمير واتساع الفجوة بين التنظير والواقع، وبين الأنا والآخر، وبين السياسيي والمفكر والمثقف وبين عموم الناس. مسافة يبدو تجاوزها ليس بالأمر السهل؛ فهي أشبه بحالة انفصام ...
العمل على بناء منظومة سياسيّة فكرية أخلاقية، ضرورة، خصوصا بعد أن عمّت الفوضى في هامش الثورة بسبب نظام الاستبداد ، الذي استطاع أن يعمل عبر عقود على إلغاء المنطق والتفكير والعقل الناقد، وامتدت الفوضى والشعبوية إلى كل مكان، فلا تنحصر بمواقع التواصل الاجتماعي التي تغص بنجوم لامعة وصفحات جذابة للتهويش، بل تتجاوزها إلى عموم الخطاب حتى الرسمي السياسي أحيانا، وإلى كثير خطاب مقاهي الثقافة وفضاء الإعلام البديل المدعوم؛ إذ يجري إنفاق الملايين على مؤسسات إعلامية وتنموية وثقافية وحقوقية لتقوم بدور الشرطي والمشاغب والمشاكس والمشوش على الثورة أو المعارضة او على جهة ما، وذلك بتصيّد الأخطاء للتشكيك بالجدوى والفائدة من عمل المعارضة ولتهديم المغزى النبيل لمفاهيم وطنيّة تتبناها الثورة وربطها بالفساد والجهل؛ لا للتقويم والبناء وصقل الأداء وتوصيف الأخطاء بغية نقدها وتطوير العمل؛ فصار كل شخص في موقع خطاب ورأي، قائد المسيرة أو الجنرال الثوري ، ينزل ضربا في الآخرين، وتشويهاً وتزييفاً.. وغدت المفاهيم مغلوطة والحقيقة ضائعة وصب هذا في مسار نظام الاستبداد ولمصلحته، وبرز ظلاميو العصر الجديد من منتفعين وانتهازيين، يتكلمون عن الحرية والتنوير والنزاهة والثورة، وهم محمومون بالمكسب والمصلحة وفقه الولاء، وقد لا يخلو تاريخم من موقع حزبي أو ثقافي أو إعلامي أو سياسي في منظومة النظام الأسدي، وربما كانوا جزءا من التحاصص أو الرشوى أو الفساد. صحيح أن الواقع السوري كان قهرا للجميع، وقلة من نأى بنفسه عنه؛ لكن هذا الواقع ترك أثره الأخلاقي والنفسي في البشر.
لاخيار أمام قوى المعارضة والثورة لتحقيق تقدم، سوى الانتقال بالعمل من العقل الشللي والارتجالي والنخبوي والمرتبط بولاء فرعي إلى العقل المنظّم والموضوعي والجمعي، بتشاركية ومصداقية ووطنية، استنادا إلى المنهجية العلمية. إنّ تغيير العقلية نحو النقد وتقبّل الآخر التعاون المشترك معه خطوة أساسية للحفاظ على الثورة السورية ومسك قرارها، والخروج إلى واقع جديد يكون فيه التعايش حقيقيا والمواطنة حقيقة لا افتراض وسفسطة؛ فلا يمكن للقوى السياسية الحالية بهذه العقلية تحقيق مكسب وطني والنهوض بمشروع الحرية والاستقلال والوحدة.
5- الأثر الإقليمي والدولي على مسار عمل المعارضة والثورة
المنظومة الإقليمية والدولية مازالت حتى الآن في ردّها على كل ما يقوم به النظام وحلفاؤه من حروب وعدوان واختراق للقانون الدولي وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة، متفقة معه في النتيجة؛ فميوعة الموقف الأمريكي وغموضه يسهمان في ديمومة الصراع الذي صنعه نظام يقتل شعبه ويبيد الحضارة والجغرافيا. والموقف الأمريكي الذي يفسح المجال لبقاء النظام وظهور الكيانات الانفصاليّة، يوسّع رقعة النزاع السوري ويؤزّم الخلافات والاختلافات بحجج العلمانية والديمقراطيّة ومحاربة الإرهاب وحقوق الأقليات والمظلوميّات.... روسيا تشن هجوما وراء هجوم على سوريا والحاضن الشعبي للثورة، ولا قوة دولية وحقوقيّة تردعها، يرافقها دعم إيراني عسكري عبر ميليشيّات طائفيّة تتوحّش وتتوغّل في الأرض السوريّة ثقافيا وجغرافيّا، في موازاة تقدم للمجموعات الكردية التي يجري دعمها من قوى دولية واستثمارها في الحرب ضد حواضن الثورة وضد الإرهاب، مع تغوّل لتنظيم داعش الذي لا شك أنه مدعوم بقوى استخباراتية سوريّة ودولية وبأطماع اقتصادية وسياسية، ويستثمر الفقر والقهر والظلم في الطبقات التي ينتشر فيها الجهل. وبالمقابل فإنّ التّحالف المؤيّد لثورة سوريا، مازال، قاصرا على تقديم الدعم الكافي لاحتضان الثورة واحتواء مأساة المنكوبين، نتيجة عدم الاعتراف القانوني الدولي بالمعارضة الرسميّة وعدم دعمها بالشكل المناسب الذي يمكن له أن يغيّر في مجريات المعركة وإسقاط النظام وتحقيق تقدم نوعي لقوى الثورة والمعارضة، لذلك دور هذا التحالف مازال ضعيفا محبوسا بالقيود الدولية والمخاطر الإقليمية من التورط في حرب كبرى تدميرية. لكن إلى متى.؟ نظام الأسد ومنظومته، يحوّلان المنطقة كلها إلى منطقة حرب. واكتافؤهم بالخطابات والمناورات والدعم الإنساني والعسكري المحدود، لن ينجي من مخاطر هذه الحرب التي لها جذور تاريخيّة لا يمكن الهرب من استحقاقاتها.
الثورة التي عانت من قصور الرؤية السياسية، وسوء فهم لنوايا قوى النفوذ العالمي، عليها ان تراجع نفسها؛ فقد أخطأ المعارضون عندما عملوا بوحي أنّ لدى أمريكا والغرب خطّ عملٍ واضح لدعم الثورة السورية وإسقاط نظام بشار، وقرأوا التصريحات الغربية والأمريكية المتناقضة خارج سياق التاريخ والواقع واللعبة السياسية. أمريكا لديها استراتجيتها، وكذلك الغرب الذي يسير في ركبها، و وروسيا أيضا، لا يعنيهم دعم بشار أو إسقاطه إلا بقدر ما يخدم النظام استراتجياتهم ومصالحهم وخطوط سياساتهم. هناك من يحارب الان في سوربا بالوكالة ولأهداف خاصة، وهجمة حضارية شديدة، لذلك لا يمكن للعمل السياسي السوري النجاح من دون رؤية تاريخيّة واستشفاف أصيل وعقل جديد، وبناء مقاومة شاملة مع اقامة خطة متوازنة غير تقليدية تاخذ بعين الاعتبار ما يمكن ان تتوافق وتتكيّف معه من رؤى القوى الاقليمية والمواقف الدولية وخلفياتها، وتشرك النخب المختلفة من مختلف أطياف الشعب السوري في صناعة القرار والعمل ضمن تشاركية في خط سياسيين متوازنين: داخليّ وخارجي؛ واضحي المعالم متفق عليهما، لقطع الطريق على روسيا وحلفائها، والنظام الذي يستغل كل قوى الإرهاب لضرب الثورة وتفتيت المنطقة، ولا يمكن بالمقايل إنجاز هذا الخط دون تخلّي الفصائل من نزاعاتها وتشرذمها، والاتجاه نحو التعاون في حراك وطني مشترك يرفع راية وطنية، وليس مجرد مجموعات لفلان وفلان أو لجهة أو لمذهب أو لعقيدة.
هناك لحظات تاريخية خطيرة تفقدها الأمم بسبب جهل رجالاتها وفساد منطقهم وجشع نفسياتهم المشبعة بالأنانية والانتهازية. سوريا في موقع يحتاج التقاط هذه اللحظات التاريخية ولفظ الأخطاء والخطايا. وذلك يتطلب إدارة سياسية تطوّع الإرادة الشعب للتآلف مترافقة مع عمل مدروس على مواجهة سياسية فكرية منهجيّة متماسكة جريئة، تتصدّى لهذا العقل السياسي القائم على الهيمنة والتدمير وتضع المنظومة الدولية اما موقف داعم لا مفرّ منه. وإلا فالحرب ستتسع وتطول وتحرق الكثيرين.
6- الثورة والانتهازيّة وطابور التمويل
وكما كشفت الثورة الأقنعة عن انتهازية طائفة واسعة من إعلاميين وأدباء ومثقفين، وجماعات كثيرة كان يمولها النظام، فإنّها أخضعت الناشطين إغاثيا أو ثقافيا وإعلاميا إلى الامتحان، فظهر فيها تحت عناوين التنمية الثقافية والإعلام الجديد حراك غير نزيه، مرتبط بتمويل مشروط معيّن وبفساد أخذ يتكشف يوما بعد يوم؛ فنمت فئة من تجار الحروب ومن صانعي الإرهاب، راحت تقوم، مدعومة بقوة النفوذ، بدور بوليس ومحاكم تفتيش على المعتقد والفكر والفعل باسم الثورة أو الدين أو العلمانية، مهمتها الاستحواذ ونشر هيمنتها، و الهجوم على كل من يخالف الرؤية المطلوبة، سواء كانت سياسية، أو دينيّة، أو فكريّة، أو أخلاقيّة. استشراقية أو سلفيّة، فهناك شرطة للعلمانيين، وشرطة للإسلاميين، وشرطة للمنظمات، وشرطة للإعلام، وشرطة للسّلميين، وشرطة للعسكريين. وكلّها تحتكر الحقيقة والحق، وتصادر مصداقيّة الآخر في وطنيته وأخلاقه ومفاهيمه.... وتواكب الضعف الفكري والثقافي والفلسفي للحراك؛ فالعلمانية، في أحسنها، هي التنوير الذي تجمد وتحنّط وتصنّم. والدين في أفضله هو العقل الذي تعطّل وتوقّف عن الإنتاج والإبداع وأظلم. .. والقوميّة عصبويّة وإلغاء لللآخر ونزاعات، أما أن ينفتح الجميع على الحوار والجدل الواعي المرتبط بالإنتاج وتطوير المعتقد والفكر وتنوّع الهويّات؛ فهو أمر تأخّر كثيرا رغم أهميّته الكبرى. لكنْ، لا مفرّ منه.
هناك من قام باسم الديمقراطيّة باستثمار كل الظروف التفكيكيّة وفتح الأحقاد العرقية والصراعات الطائفية، للثأر والوقوع في حرب أهلية وتقسيمية، وتقدّمت منظمات كثيرة تلبس ثوب المعارضة، أو معارضة المعارضة لتصبح مؤسسات مضادة للثورة، تختبىء خلف غايات تنموية وتمكينية وإعلاميّة وسياسية ومدنية. ولم تستطع القيادات الثقافية والفكرية والسياسية تسخير الطاقات بالشكل الجامع المنهجي للوقوف في مد الثورة المضادة، وإنجازمشروع تحرر سوريا وتحقيق إسقاط النظام. فاتسع اقتتال سوري سوري، عسكري وسياسي وفكري وديني وقومي، تحرّكه الأيدي الخارجيّة، مستغلة حالة من قصور فكري وسياسي، ومن نزاع على النفوذ وصراع عصبوي ومظلوميات تاريخية بائسة، وهي من مخلّفات عقود قهر واستبداد.
7- الشعب السوري والإرهاب
الشعب السوري تلقّى عدوانا شرسا من نظام الاستبداد ومن العدوان والغزو الخارجي لدعم النظام، بأسلحة النظام والإرهاب والحرب على الإرهاب؛ فقدّم ويقدم الضحايا بالملايين ، قتلى شهداء وجرحى ونازحين ومعتقلين ومخطوفين ومعوقين ومصدومين ومتحاربين، وهو ليس مجموعات إرهابية ظلاميّة، كما يروّج النظام وإعلامه وإعلام حلفائه، وإن ظهر منه تطرف وتشدد فردة فعل على ما جرى ويجري بحقه من مجازر فظيعة؛ فنظام الاستبداد يصنع الإرهاب. الفقر والتشرّد والجهل والقهر عبارة عن تربة مثالية للتطرف والانحراف والجريمة وإنتاج الإرهاب. إن لم يحصل تنوير وتمكين ودعم حقيقي لكل حواضن الشعب السوري المنكوب فإن المأساة ستشتد وسيكون سهلا استغلال البشر الضعفاء باسم الدين عبر المال والانتقام...
التطرف هو جريمة؛ لأنه يحتكر المعرفة والحقيقة والحق. داعش ومثيلاتها شكل هلامي يتطوّع بحسب المنطقة والظرف يعبر المال والسياسة والدين. وليس بسؤال بلا جواب: من الذي دعم داعش منذ البداية؟. مادام نظام الأسد وميليشاياته قائمة سيحترق هذا العالم بإجرامهم وإجرام الإرهاب..ومادام هناك احتقار لمفهوم التنمية الحقيقية والتثقيف الهادف لبناء الإنسان فإن الفوضى والقهر والحقد في ازدياد ولا يكفي اللهاث الإقناع العالم بشرعية قضية الثورة، فالقوة والصلابة أشد تأثيرا في مسار الحروب من صواب الحق وحجة المنطق وشرعية المبدأ. لذلك لا بد من مراجعة مكامن القوة على الأرض وإعادة تشكيلها لتكون مجدية. أما بناء الصلابة؛ فيكون بعمق العقلية السياسية وتوحّد اهدافها الأساسيّة ونضجها وحيويتها مع ثباتها على أسس وطنية وثقافية تنويريّة تعايشيّة . الواضح أن الحرب على سوريا تتوسّع وقد تزيد في ساحة النزاعات، وقد تتطور نتيجة تهور غير محسوب إلى حرب عالمية تتصادم فيها الامم والدول على نحو أوسع وأشمل؛ لكنّ الصورة غير مكتملة حتى الآن، فلا يمكن الحكم القطعي على الأمر بسهولة. فصعب تخيل مواقف دل الإقليم والعالم بدقة في المستقبل رغم كل ما يقال عن تقسيم واتساع حرب. فنحن قادرون، فقط، أن نرى العالم وفق ومعطيات واقعنا المحدود والمعلومات التي بحوزتنا. وكل شيء في النهاية متحيز لمنظور ما أكثر من ان يكون حياديا. لكنْ، لابدّ من وضع إطار عمل للتغلّب على الاضطراب والفوضى القائمة، والخداع والدسّ في نقل المعلومات وتجيير الخطاب والعقول، حتى من قبل وسائل إعلامية كبرى كانت تعتيبر ذات مصداقية. ..بالتالي فإن قوى الثورة السورية والمعارضة، رغم كل هذا الألم والظلم والخسائر والخذلان والتضحيات، ملزمة بالعمل تنمويا وسياسيا بالسعي وراء تحقيق أهداف الشعب السوري وطموحاته منعا لتوسّع الإرهاب، ومنعا للانهيار والسقوط. وأول الخطوات ترك العصبيات والاصطفافات غير الوطنيّة. الإرادة الفاعلة، ستغير حتما في الواقع ؛ فما يحدث هو كارثة إنسانية بحق الشعب، والمنظومة الدولية تسهم بنصيب كبير فيها. وهذا الفراغ لمرجعية سيادية شرغيّة على الارض، مع الحجم الكبير من القتل والتدمير، سيؤدي إلى هيمنة تنظيمات ذات صبغة دينية وقومية متشددة ودكاكين مستغّلة قد تسهم في تعميق العنف والصراع والفوضى، وتكون مادة دسمة لصناعة الإرهاب ومافيات النهب..
خاتمة ومخرجات
ما آل إليه الواقع يحتّم تطوير عمل معارضة رسميّة شرعيّة ، بوعي بوطني خالص، تحاسب نفسها وفق آليات محاسبة وتقويم، وتكاشف الشعب من النخب السياسية والثقافيّة والواعية بحقائع عملها والصعوبات، وتعمل على توخّي المصداقية والشفافيّة، لكي تحقق علاقات أوسع مع الشعب ومع جهات تمويلية لها بنية عمل مدنيّة، فتحظى بالثقة والاعتراف والدّعم بناء على ما تقدمه من خطاب واقعي وإنساني وحداثي، وبما تؤسسه من عمل مهني ومنهجي.
كرد على كل أشكال العبث بشرعيّة المعارضة السياسية البديلة لنظام الأسد وصناعة معارضات بديلة؛ لا مفر من أن يوازي المقاومة العسكرية والسياسية حراك ثقافي وتنموي وتنوير ديني وقومي ملتزم وناضج في كل المواضيع الفكرية والثقافية والدينية والسياسية. وحتى تستمر ثورة الحرية والكرامة هي بحاجة للعقل، وأشد ما يؤذيها بعد نظام الطغيان الأسدي الذي دمر سوريا وشعبها، هو الغوغائية والضجيج والفوضى.
الثورة حركة جماعية تاريخية ضمن إطار التاريخ ولا تقترن بشخص أو حزب أو جماعة. وتتطلب صياغة أفكار وإعادة النظر في الرؤية وفي ردات الفعل والفعل، وفي ممارسة الهوية وتوظيف كل المكومات التاريخية السوريّة من عروبة وقوميّات أخرى ودين وإنسانية وعالمية ضمن سياق دولة وأمة. جميع المكونات قادرة أن تنشيء، معا، حضارة جديدة وفي دولة حداثية علمية عادلة عندما تتساوي حقوق جميع مواطنيها، وبقواعد مجتمع مدني، وقادرة أن تعمل على حل إشكالية كيف يمكن توظيف العقيدة والانتماء والاختلاف، حضاريا بشكل حيوي ومنتج وإنساني. وما يمكن فعله للجميع هو بناء تاريخ مشترك عادل بمؤسسات جديد ومهنيّة ووطنيّة، بحسم الهدف وهو سورية حرّة واحدة موحّدة لجميع أبنائها.
ثورة في العقل وفي منظومة التفكير والرؤية السياسية والوطنيّة. هو أشدّ ما نحتاجه الآن للقفز على المأساة الإنسانية والوطنيّة في سوريا. العمل بمقتضى الوعي الجديد بمعرفة عاقلة نابعة من رحم التجربة، يمكن أن يكون خطوة في الطريق لنجاح مشروع الثورة وتجلياتها. مشروع الحرية القادم عبر الثورات لا يواجه المأساة الحاضرة فقط، بل عليه أن يخوض في صراعات حادة للتصدي لحرب موروثات كثيرة فاسدة خطيرة راسخة في بنية الواقع، ناجمة من الفساد والجهل وعقود الاستبداد، تعرقل المشروع التحرري وتوجهاته الأخلاقيّة والمعرفيّة بمآزق وأزمات وإشكاليات اجتماعيّة وقانونيّة وفكريّة وإنسانيّة. فلا نفع من تفكير سلبي، ولا جدوى في الشتم أو الهجاء أو الذم والتخوين وسط هذه المأساة. وهذا يضع على جميع المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية والسياسية مهمة تطوير غايات عملها ومساعيها وآليات تنفيذها وأشكال مهماتها لخلق حالة النمو والتطوير المعرفي وتنشيط الوعي وتقويته واسثماره عمليا، في مواكبة كل استحقاقات الواقع الجديد ومتطلباته الضروريّة والتفاعل مع تحدياته ومخاطره وخوض معاركه برؤية ناضجة.
وسوم: العدد 671