العدوان الروسي على سوريا، صفحة جديدة من مشروع التفتيت

      على الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن له دور واضح في تغيير نظام الحكم في بلاده بعد سقوط التجربة الشيوعية، إلا بقدر ما كان للمخابرات السوفيتية KGB من دور مؤكد في تحويل شعوب الاتحاد السوفيتي السابق إلى قطعان من الماشية تتحرك على وفق إملاءات تخرج عن المكتب السياسي ثم تنتقل إلى الاستخبارات السوفيتية لتفرضها على الشارع وكأنها نبضه المعبر عن إرادته ورغباته، و مع  ذلك فإن بوتين وبحكم ما تعلمه من خبرة في جهاز المخابرات، نجح في توظيف تلك الخبرة لتحقيق قفزة كبيرة من العالم السفلي لممارسات رجال الأجهزة الأمنية، إلى صدر المشهد السياسي في روسيا بعد أن تسلق على أكتاف كل الذين مدوا له أيديهم لانتشاله من العالم السري الملوث بكل الممارسات المخجلة، إلى عالم الأضواء ورجال الدولة الذين يجلسون في الصف الأول من المشهد متناسين ماضيهم وما فيه من جريمة.

وبعقلية رجل المخابرات استطاع بوتين مصادرة إرادة المواطن الروسي الذي ظل يشعر بأسى بالغ بحجم الهوة السحيقة الفاصلة بين عالم التكنولوجيا الذي أوصل بلاده إلى سطح القمر بإنزال أحدث المركبات غير المأهولة إليه والعودة منه محملة بعينات من صخوره وصوره، وبين شظف العيش الذي يجعل من فتيات المدن الروسية الكبرى مثل موسكو ولينين غراد وستالين غراد بائعات هوى رخيصات الثمن بل من أرخص مومسات العالم المتطور تكنولوجيا، وبدلا من التركيز على النهضة العلمية التي تقود إلى الحياة الكريمة للمواطن مع الحرص على عز الوطن، بوتين من أدراج جهاز المخابرات السوفيتية كل ملفات الصراعات والنزاعات الدولية وكأن روسيا لا تستطيع إنجاب قائد يفرض احترامه من خلال البناء الاقتصادي المتوازن، وقد قام بإعادة النظر بكل ملف جالب للمواجهة مع عدو يجب اختلاقه ولو من العدم، وعادت أجهزة الدولة كما كانت في عهد الرفيق الأمين العام إلى منبر للترويج لأفكاره وتسويق عبقريته والتبشير بقدراته التي لولاها لضاع البلد، مع تغيير واضح وهو انحسار موجة الترويج الإلحادي لصالح دور الكنيسة الأرثدوكسية كأم حنون للمجتمع وداعمة لابنها الكبير بوتين واعتبار الولاء له جزء من الطقوس الدينية اللازمة لبناء تجربة جديدة تدفع روسيا مرة أخرى إلى واجهة الأحداث بعد أن نزعت عنها اللباس البلشفي ولبست ثوب زفاف لبرالي فضفاضاً، وقد التقت مصالح بوتين مع المصالح الأمريكية الجديدة التي وضع أساسها الرئيس أوباما بعد أن تنكر لكل التعهدات التي كان قد بدأها في أثناء إلقاء خطابه في جامعة القاهرة بعد توليه الرئاسة في بلاده بفترة وجيزة، وإذا به يعود إلى مواقف أمريكية أكثر تزمتا من أي رئيس أمريكي آخر تجاه القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية،  و قد هذا عزز من ثقة بوتين بأن أوباما بات مثل خنفساء وسط درجة صوف، و من هنا انطلق الرئيس الروسي مستغلا حالة انعدام الوزن التي يعاني منها أوباما وشغفه المبالغ فيه في حل أزمات المجتمع الأمريكي الداخلية، واضطراره للتراجع عن قراره الذي كاد أن ينفذه بتوجيه ضربة جوية إلى سوريا عندما تأكد له أن نظام الرئيس بشار الأسد تجاوز كل الخطوط الحمر التي كان قد وضعها بشأن استعمال السلاح الكيمياوي، وذلك بسبب دخول إسرائيل على خط الدفاع عن بقاء النظام السوري في الحكم، لذلك جاءت اندفاعة بوتين في مزيد من التورط الروسي في سوريا بموافقة أمريكية وإسرائيلية لحماية النظام من السقوط واحتمال وصول قوى راديكالية تعتقد الولايات المتحدة وإسرائيل أنها لا يمكن التكهن بتوجهاتها تجاه أمن إسرائيل.

بوتين يريد توظيف الأزمة السورية في مشروع خروج روسيا من حالة الانكفاء التي أضطر إليها الاتحاد السوفيتي بعد سلسلة التراجعات السياسية والاقتصادية والتورط العسكري في أفغانستان ووجود قوة سوفيتية هائلة في شرقي أوربا، ويبدو أن طموحه الشخصي كما هو في شواهد تاريخية كثيرة، كان المحرك الفعال لكل برامج استعادة أمجاد القوة السوفيتية، وتعاظمت قوة الدفع الروسية مستغلة حالة التردد الأمريكي وعجز النظام الرسمي العربي عن الإيفاء بالتزاماته تجاه الثورة  السورية وتشرذم قوى الثورة بحيث يكون التقرب باتجاهها وكأنه اقتراب من حقل ألغام كبير.

كما أن الالتقاء التكتيكي بين موسكو وطهران جعل من التدخل الروسي أمرا حتميا بسبب عجز الدعم الذي قدمته إيران بصورة مباشرة أو عن طريق حزب الله اللبناني أو المليشيات الشيعية العراقية عن إنجاز هدفها في إنقاذ نظام الرئيس السوري من السقوط، ونتيجة العلاقات الرسمية التي تعود لزمن الاتحاد السوفيتي والتي تنظمها معاهدة صداقة وتعاون كان الرئيس السوري حافظ الأسد قد وقعها مع الزعامة السوفيتي في مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي، وما تتضمنه من بند دفاعي، فقد كان بإمكان البلدين الركون إليها لتبرير أي حضور روسي بإرادة روسية أو بطلب سوري بدافع تفعيل المعاهدة.

لقد لعبت روسيا بوتين منذ الأيام الأولى للثورة السورية لعبة مخابراتية لكسب الوقت وتمكين النظام من ترتيب أوضاعه الداخلية، وبهدف إثارة أسباب الفتنة والانقسام في صفوف الثوار، وذلك عن طريق طرح فكرة تبدو في ظاهرها وجيهة ومنطقية، وهي أن الثورة لا بد لها من أن تُمثل بهيكل تنظيمي معروف كي يمكن التحاور معه بشأن أهداف الثورة وطرق الوصول إليها عن طريق الحوار، وانطلت هذه الفكرة البوليسية على بعض أطراف المعارضة السورية التي حاولت توظيف الظرف الجديد الناشئ عن تضحيات الشعب السوري الذي تحرك بوعيه المجرد عن كل أشكال التوجيه والقيادة، وركبت الموجة تيارات إسلامية وبدلا من أن تعاين الواقع السوري والإقليمي والدولي بمسؤولية عالية، راحت تطرح شعارات في غاية التطرف وكأنها مدفوعة إلى ذلك دفعا من جانب عدوها بهدف إعطاء الثورة طابعا إسلاميا في غاية التطرف، في وقت يتعامل العالم بمنتهى الخوف من ظاهرة الإسلام السياسي الراديكالي والذي يقرن بتنظيم القاعدة وتفرعاتها اللاحقة، كان يجب طرح مشروع وطني لا يسمح بتأويل الأهداف المعلنة بحيث تستغلها قوى تريد فرض فكرة أن الأقليات باتت معرضة لأخطار كبرى.

لا أحد يشك أن هناك حركة نشيطة لتنظيم الإخوان المسلمين الذي كان قد اختط لنفسه خطا معارضا من زمن طويل لنظام الحكم العلوي الطائفي بقيادة عائلة الأسد، ولا أحد يشك في أن قوى إسلامية جديدة دخلت على خط الجهاد واختارت لنفسها عناوين كثيرة توحي بتقارب بينها، ولكنها كانت في واقعها أكثر تصادما مما كان سائدا بين فصائلها وفصائل غير دينية، مما عكس صورة مؤسفة عن وحدة التوجه الإسلامي أو التقارب في مناهج العمل السياسي الإسلامي، وهذا بحد ذاته يبعث رسائل عن خطورة التوجهات الإسلامية المتطرفة والخارجة عن السيطرة.

لقد ارتكبت المعارضة السورية أخطاء كبرى عندما وضعت شروطا  في وقت ما لم يكن أحد ما يتصور أن النظام قد يقبل بها، فقد بدت في حينها تعجيزية وكأن المعارضة  كانت واثقة من حسم وشيك للمعركة لصالحها منفردة، ولكنها وبعد عدة جولات من مؤتمرات جنيف وفينا وغيرها، وجدت نفسها مضطرة لتقديم تنازلات سياسية مذلة بعد الانكسارات العسكرية التي نجمت عن ثلاثة عوامل، وهنا لا بد من القول إن عزة الامتناع عن مصافحة يد غير جديرة بالمصافحة من دون اقتدار سيؤدي حتما إلى قبول المصافحة مع يد لا تستحق أن تصافح أما تقديم المعارضة للتنازلات فهي:

1 – تعاظم حجم الدعم الروسي سياسيا وعسكريا وماليا لنظام بشار الأسد،  بمقابل موقف أمريكي مهزوز ومتردد وصل حد فرض الإملاءات الروسية على الإدارة الأمريكية وإعطائها إشعارات بخطوات روسية منفردة من دون العودة للتشاور مع واشنطن، ولعل من أبرز أخطاء المعارضة أنها أغفلت أدوارا كان بالإمكان أن تكون مؤثرة لعدد من المسؤولين الكبار في النظام السوري الذين انشقوا عنه بعد اندلاع الثورة بوقت قصير، ولكن المعارضة المدعومة من بعض الأطراف العربية ركنتهم جانبا متجاهلة الإضافات السياسية التي يمكن لهم أن يقدموها لو أنهم تم استيعابهم في صفوف الثورة، ولكننا لاحظنا أن المعارضة تراجعت وبدأت تعطيهم دورا في حراكها السياسي ولكن بعد فوات الأوان، ومن بين هؤلاء السيد رياض حجاب وعدد من الضباط الكبار المنشقين عن النظام.

2 – زيادة وتيرة تدخل حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية القادمة من العراق، فضلا عن  زج المزيد من قوات الحرس الثوري الإيراني ثم الدخول الرسمي الإيراني في الحرب عن طريق إرسال وحدات من لواء 65 قوات خاصة الإيراني.

3 – حصول مزيد من الانقسامات والتفكك في وحدة فصائل الثورة المسلحة مما جعلها تفقد ما تحت يدها من أراض في مختلف أنحاء سوريا لصالح قوات النظام ودخول تنظيم الدولة الإسلامية على خط النزاع المسلح، والتنافس الحاد مع جبهة النصرة الممثلة لتنظيم القاعدة في سوريا.

لقد أدت المعارك التي نشبت بين الفصائل المسلحة إلى تغير جذري في موازين القوى على الأرض، وربما تمكنت القوات التابعة للنظام والقوى المؤبدة لها من تحقيق إنجازات ميدانية يعود الفضل في معظمها إلى أن جبهة الثورة قد تعرضت إلى هزة داخلية عنيفة وليس بسبب تعاظم قوة النظام الذاتية.

ولكن ماذا حصل بعد أن تم تشكيل أكثر من هيئة لتمثيل المعارضة؟

بدأت ترتفع في أجواء العواصم الكبرى وخاصة موسكو وواشنطن دعوات عن ضرورة توسيع نطاق تمثيل كل مكونات الشعب السوري مما عكس صحة المخاوف التي عبرت عنها أوساط سياسية وصحفية محلية وإقليمية ودولية من أن الهدف الأسمى لإطالة عمر الأزمة في سوريا هو توفير المناخات الملائمة لجعل مشروع التقسيم مطلبا شعبيا ملحّا وطريقا وحيدا لاستقرار الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي في سوريا.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ذهبت روسيا بعيدا في محاولتها التحكم المنفرد بمسار الأزمة السورية، إذ عبر وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف أكثر من مرة بأن بلاده تصر على مشاركة أطراف هي التي منحتهم صفة المعارضة في أية لقاءات تتم بإشراف دولي بحثا عن حل ما للأزمة. 

                                             د. نزار السامرائي                 

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 672