ليس من الصبر المحمود أن تخضع للظالم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد .
لقد تكرّر الأمرُ بالصبر والحضّ عليه وبيان جزاء الصابرين... في كتاب الله تعالى وفي سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، حتى إن الله تعالى قال: (إنّما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب). {سورة الزمر: 10}.. نعم بغير حساب، قال أهل العلم: أي بغير مكيال ولا ميزان، ولا عدّ، ولا حدّ، ولا مقدار...
لكن ناساً فهموا من هذا التوجيه العظيم أن يستكين المظلوم للظالم، ويخضع الشعب للطغاة، فيزداد الظالمون ظلماً، والطغاة طغياناً... ويزداد المظلومون قهراً وذلّاً... وأن هذا من الصبر!
الإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله، في كتابه العظيم "أعلام الموقعين" يذكر كلاماً طيباً في هذا الشأن، يقول في نهايته: "وقد أمر الله سبحانه بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولاً، فإن بغتْ إحداهما على الأخرى فحينئذ أمر بقتال الباغية لا بالصلح، فإنها ظالمة، ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة. وكثيرٌ من الظلمة المصلحين [الجَهَلَة] يُصلح بين القادر الظالم، والخصم الضعيف المظلوم، بما يرضَى به القادر صاحب الجاه، ولا يمكّن المظلوم من أخذ حقه. وهذا ظلم". ص 93.
فإذا جاءك ظالم ومظلوم فلا يكن حديثك عن الصبر والصابرين، بل عن عاقبة الظلم، فإن المظلوم إذا لم يصبر لم يكن آثماً، وقصارى ما يبلغه الصبر منه أن يكون مندوباً، فإن مطالبته بحقه أمر مشروع. وإذا أوصيته بالصبر على سبيل الندب، فلا تغفل عن توصية الظالم بالقيام بحق المظلوم، فهاهنا يكتمل التوازن الذي شرعه الله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). {سورة العصر: 3}.
ولنسمع إلى ما يقوله نبينا وقائدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودِّع منهم". رواه أحمد والحاكم والبيهقي والبزار.
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد". وفي رواية: "ومَن قُتل دون مظلمته فهو شهيد" . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وقد روى البخاري ومسلم الجملة الأولى من الحديث: " مَن قُتل دون ماله فهو شهيد".
الإسلام يوصي بالصبر على مشقة الجهاد الذي يتطلبه نشر الحق واستئصال الظلم، وقد أوصى بالحق قبل أن يوصي بالصبر، وهو يمسح دموع المظلومين في الوقت الذي يصفع وجوه الظالمين.
وقد قدّر الله على أصحاب دعوة الحق أن يتعرّضوا للبلاء: (لتُبْلَوُنّ في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الذين أشركوا، أذىً كثيراً. وإن تصبروا وتتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور). {سورة آل عمران: 186}.. وفي هذا حِكَمٌ لله ندرك منها أن البلاء يمحّص الصف، وينفي عنه الخبث، ويزيد من مكانة الحق في نفوس أهله بعد أن ضحّوا في سبيله، ويجعل الأعداء يحسّون بأن الدين الذي يقاومونه دينٌ حق، وإلا ما تحمّل أصحابه في سبيله كل هذا..
وهذا كله لا يدلّ على استسلام المؤمن أمام الطاغوت، إنما هي معركة يخوضها المؤمن حتى يمكّن الله لدينه في الأرض.
بقي أن نميّز بين موقفين: موقف يصف فيه القرآن الكريم المؤمنين بأنهم: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون). {سورة الشورى: 37}. وموقف يصفهم بأنهم ينتصرون ممن بغى عليهم: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). {سورة الشورى: 39}. والفرق بين الموقفين واضح. ففي الأول يتعرض المؤمن لتصرف يثير غضبه، فهنا يندب للمؤمن أن يكظم غيظه، ويملك نفسه عند الغضب، ويتروّى. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لنفسه قط، إلا أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لها. وفي الموقف الثاني هناك بغي. هناك عدوان مقصود. فالسكوت عليه خضوع للظلم، وليس هذا من خلق المؤمن. وإن الخضوع أمام البغاة يزيدهم بغياً ويُطمعهم في المزيد من الظلم، وما ينبغي للمؤمن أن يكون خاضعاً أمامهم. نعم قد يكون في حال لا تمكّنه من الانتصار ممن بغى عليه، لكنه لا يجوز أن يبقى على هذه الحال، ولا بد أن يعمل حتى يفتح الله له أبواباً من الفرج.. (ولينصُرَنّ اللهُ مَن ينصره. إن الله لقوي عزيز). {سورة الحج: 40}.
هذا والله أعلم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة التأصيل الشرعي لجماعة الاخوان المسلمين في سورية
الاثنين 12 ذي القعدة 1437هـ الموافق 15/8/2016م
وسوم: العدد 681