قتلة الطفولة

الطفل عمران .. وما عليه من آثار دمار وتراب وتعب وذهول .. وتلك النظرة الغريبة في عينيه .. أعادني إلى زمن قديم جداً .. فيه نفس تلك الوحشية والدموية .. فيه اغتيلت ألذ سنوات العمر .. فيه شوهت أحلى الأيام التي يمكن أن يعيشها البشر .. عدت إلى أوائل الثمانينيات حينها كنت طفلة في الخامسة أو السادسة من العمر .. لا أعرف من الدنيا سوى الدمى والأهل والقليل من الصديقات .. لكني فجأة بدأت أشعر بخوف يتسرب في بدني .. خوف رأيته وشعرته في نظرات أمي وأخواتي وإخوتي فالكل يكبرني وأنا الصغيرة المدللة التي يلجأ الجميع إليها بحضن أو قبلة ليهرب من همومه وينساها في مرح الطفولة .. أبي ذلك الحضن الذي عشت حياتي وأنا أجاهد كي أبقى فيه ولا أغادره .. كنت أسمع منهم كلمات :

ـ الله يحمي البابا .. الله يسترنا دنيا وآخرة .. الجنود حول بيتنا .. المخابرات تملأ حارتنا .. الدبابة تقف عند أول شارعنا ..

أسمع هذه الكلمات فألوذ إلى حضنه الدافئ الذي بدأ يقل تواجده في المنزل .. فلم يعد يترأس مائدة الغداء كعادته كل يوم في الساعة الثانية والنصف ظهراً .. وصار يتأخر كثيراً خارجاً بينما أرى والدتي الطيبة تمسك بالمسبحة وتبدأ بقراءة (فواتح للنبي عليه الصلاة والسلام) .. قلق يعم المنزل والحي .. معلمتي في الصف تأخذني جانباً تسأل عن أحوال البابا .. قلبي يعرف كل شيء ولكن لساني اعتاد الصمت .. في كل ليلة كانت أمي تحذرنا :

ـ يا بنات لا تنمن إلا والحجاب على رؤوسكن .. وإياكن أن تنسين لبس البنطلونات .. الله يسترنا ويحفظك يا عبدالله ..

في منتصف الليل تأتيني هواجسي المخيفة .. أقفز من سريري وأركض إلى مخدعه الحنون أدخل غرفته فلا أجده .. تعتلي روحي رعشة وتتحجر الدمعة في المقل .. أدس جسدي في سريره وأدفن وجهي في مخدته أتحسس ريحة عطره أو عرقه فعرقه عطر وعطره عطر .. تدمع العيون حين أستنشق عبيره ولكن القلب يهدأ فلعل الحبيب يأتي بعد ساعة فأنام .. ثم تشرق شمس وشمس وشمس والحبيب ينام خارج المنزل لأنه في مهمة عمل ..

في ليلة لا تنسى .. كنت نائمة في حضن أختي الكبرى بعد أن بللت مخدتي بدموع صامتة شوقاً لحضنه الدافي .. استيقظنا على قرع شديد على الباب وجلبة ولغط وسب وشتائم بلغة غير مفهومة .. قفزنا جميعاً نحن السبعة من أسرتنا وجاءت أمي إلينا تتفقد بناتها وملابسهن وسترتهن .. وما شعرنا إلا بقوات المخابرات بملابسهم المخيفة وأبواطهم الثقيلة تدوس أرض البيت الطاهر .. لم يفتح لهم أحد .. لقد اقتحموا البيت .. عيناي الصغيرتان لم تستطيعا إحصاءهم .. كانوا عدداً كبيراً ربما في غرفتنا الصغيرة وحدها يوجد منهم خمسة بجثثهم الضخمة ورائحة عرقهم النتنة .. بعد أكثر من ثلاثين سنة ما زالت تلك الريحة الخبيثة في أنفي .. عاثوا في البيت فساداً .. وتخريبا .. بدؤوا يسألون أمي :

ـ وين ابن الـ ..........

قالت بهدوء عجيب وكأن الملائكة أنزلت سكينتها على قلبها الطيب :

ـ غير موجود .. لا يأتي إلى المنزل .. هاجرنا .. تاركنا لله ..

ـ وين بروح ؟

ـ والله ما بعرف .. رجال كيف بدي أسأله بقول عنده شغل وتدريس طلاب البكالوريا وأنا بصدقه ..

يدور حوار تختلط فيه كلماتهم الرذيلة منها ما هو بلغتنا ومنها ما هو بلغتهم (العلوية) العجيب أني لم أسمع صوت بكاء من أحد .. ولكني بعد تلك السنين الآن أسمع صوتي من الداخل صوت طفلة تبكي وتصرخ : أنا خائفة .. غرسوا خوف العمر في قلوبنا .. أطفؤوا بريق عيوننا .. إنهم اغتالونا من الأعماق .. إنهم شوهوا طفولتنا .. إنهم قتلة العصر .. كنت أنظر في عيونهم الخبيثة فأراها تتطاير شرراً هنا وهناك وتسقط على وجوه البنات الأربع .. ولكن رحمة الله جعلتهم ينصرفون عن قبح ما فيهم من رذيلة لأن قائدهم على اللاسلكي يصرخ بين الحين والآخر :

ـ جيبوه حياً أو ميتاً ..

بعد ساعة من الحوار والتفتيش غادروا المنزل .. رأيناهم يهرولون خارجين .. وكأنهم يهربون من لعنة الله عليهم لاقتحامهم منزلنا الطاهر .. قمنا إلى البيت لنرى ماذا صنعوا فيه .. لم نستطع المشي على السجاد من أعقاب سجائرهم المرمية في كل مكان .. الكراسي مقلوبة .. حتى الكنب ممزقة .. دخلت أمي مكتب الحبيب فوجدت الكتب القيمة كلها على الأرض عشرات الكتب على الأرض .. أدراج المكتب مرمية .. الأوراق متطايرة في كل مكان .. على ماذا يبحثون ؟ يبحثون عن أحن الناس وكأنه مختبئ بين الكتب ..

أخواتي يأتين من المدرسة أسمعهن يهمسن :

ـ رأيتهم حول البيت ..

تقول أخرى :

ـ قالت صديقتي أنهم دخلوا منزل عمها ووجدوا ابن عمها عمره خمس عشرة سنة أخذوه بدلاً عن أبيه ..

أخي يقول :

ـ صديقي يخبرني أنهم رموا جثة خاله عند باب المنزل بعد أن عذبوه وشوهوه ثم رموه ..

كلام وكلام .. رعب ورعب .. قاتلهم الله أنى يؤفكون ...

وظلت تلك الحال حتى أخذوه من بيت أبيه .. حتى اعتقلوه وهو بين أحضان والديه .. جروه جراً ولكني لا أنسى تلك البسمة النبوية على محياه .. هم يرتجفون .. هم خائفون .. ووالدي صقر بين أيديهم .. رأيت رعباً في عيونهم وكأنهم هم المأسورون .. وكأنهم يخشون صاعقة من السماء تدمرهم ببركة هذا الشاب الصالح .. البلدة كلها خرجت تبكيه .. جمهور واسع على الشوارع ،على الأسطح ،على النوافذ .. الكل يودع ولياً ويدعو له .. وهو أبي شامخاً .. وضعوا أغلالاً في معصميه بينما هو يبتسم .. أشعر بالأغلال تخنق معصمي إلى الآن .. أبي حر وتخنقه الأغلال .. آلمه الأسر فشعرت بذلك الألم بل عشته .. علمونا أن ننظر إلى الأحبة وهم في أصعب حالاتهم دون أن تتدحرج دمعة واحدة .. علمونا كيف نبتلع الغصة .. عمتي أخذت أخواتي الكبيرات وضمتهن إلى صدرها وقالت :

ـ هن بناتي يا أولاد الـ ... لا تأخذوهن ..

خشيت على شرفهن من أولئك الوحوش .. أما أنا فكنت لصيقة به .. متعلقة بتلابيبه .. أضمه إلى قلبي لعلي أخفيه عن عيونهم .. لعل قلبي يفتح وأخبئه داخله .. وربما كنت أحتمي من الدنيا بحضنه ..

وبعد انقضاء مدة السجن .. خرج حبيبنا من السجن بخدعة كي يغتالوه اغتيالاً ويبرؤوا أنفسهم من دمه .. حفظه الله .. قامت الدنيا ليلة الإفراج .. قامت الأفراح أسبوعاً كاملاً .. أفراح ما كان لنا يد فيها .. زوار مهنئون .. ثم بدأ الحبيب ينام هنا وهناك عند الأحباب والأقارب .. رأيت بيوت الناس تفتح بحب وحنان .. كنت أنام معه أحياناً لأني لا أرضى أن أتركه يبات بعيداً .. حنان وحب ولهفة في عيون الأقارب ما كانوا ينتظرون من والدي سوى أن يحفظه الله بعينه وأن تكون لهم يد في رعاية الله له وصونه .. ثم غادر البلاد قبل أن تغتاله الأيدي الآثمة .. ولحقنا به بعد مدة من الزمن ..

ذكريات شوهت طفولتنا .. نحن أبناء الثمانينيات .. نحن أبناء الأبطال المجهولين .. الذين لوحقوا وسجنوا وعذبوا ثم نفوا .. نحن من أتعبتنا الغربة .. نحن من اختلطنا بشعوب غير شعوبنا وناس غير ناسنا منذ صغرنا .. نحن من تعلمنا أن نصمت .. لا تقل أنت ابن من ؟ لا تحك اسمك الحقيقي .. لا تخبر أحداً أين تسكن .. لا تقل إنك سوري .. اسكت حتى لا يعرفوا أنك غريب .. كن واثقاً من نفسك حتى لا يرتاب أحد بك .. أبوك إنسان ملاحق .. أنت ملاحق .. أحلامك ملاحقة .. مستقبلك ملاحق .. إياك أن تطمئن إلى أحدٍ فقد يكون هو الطعم الذي سيصطادوا الوالد به .. ابتسم للجميع وشك بالجميع .. لا تخبر أحداً لماذا خرجت من بلدك .. نحن من اختلطت لهجتنا باللهجة العراقية أو الأردنية أو السعودية أو اليمنية .. بحسب البلدان التي استقبلتنا .. نحن من أحببنا تلك البلاد حباً يوازي حب بلادنا لأننا وجدنا الأمن فيها .. بينما بلادنا فيها خونة أخرجوا أهالينا لأنهم أناس يتطهرون ..

حلب تلك العروس التي اغتالوا عريسها ليلة زفتها .. حلب تلك المدينة العريقة بحضارتها وإبائها ، تدك الآن بأشنع ما توصل إليه الوحش البشري من وسائل الدك والحرق .. حلب يا بلد الشهداء يا عبقاً من ريح الأنبياء .. يا أرضاً تضرجت بالدماء .. هوناً لمن يدوس ترابها .. ففيها دفن الأتقياء .. فيها قتل الأبرياء .. وما ذنبهم إلا أنهم قالوا ربنا الله ..

وسوم: العدد 682