حكاية الانتخابات عندنا : إذا سئل حزب عن برنامجه يجيب بذكر عيوب غيره
يفصلنا شهر واحد عن الاستحقاقات الانتخابية التي ستأتي ببرلمان جديد تخرج من رحمه حكومة جديدة تدير شؤون البلاد والعباد . وكما هو الحال في كل أقطار العالم تسبق الاستحقاقات الانتخابية الحملات التي يؤججها التنافس بين الأحزاب ، فينسب كل حزب لنفسه الأهلية والكفاءة والاستحقاق ويسقطها عن غيره . وإذا كانت الحملات الانتخابية عند الأمم الراسخة القدم في الديمقراطية تركز على استعراض البرامج لاستمالة الناخبين ، فإن الحملات الانتخابية عند الأمم الحديث عهد بالديمقراطية تركز على تراشق التهم بين الأحزاب المتنافسة حيث يخون بعضها بعضا . وحين يسأل السائل عن برنامج الحزب الذي يخطب وده يفاجأ بحديثه عن حزب غريم ،فيفصل تفصيلا في استعراض هفواته وزلاته ليقنع السائل بعدم أهليته وكفاءته، ومنطقه تحكمه مقولة : "بأضدادها تعرف الأشياء". فمن أراد أن يعرف حزبا ما من خلال برنامجه الانتخابي ،فعليه أن ينصت إلى ما يقوله عن غريمه وفق مقولة تعريف الأشياء بأضدادها . وباشتغال الأحزاب بتراشق التهم فيما بينها يغيب عنها أن هذا الأسلوب في الحملات الانتخابية إنما هو سحر ينقلب على الساحر بحيث لا يسلم حزب من مثالب تنسب إليه ،الشيء الذي يجعل الثقة تتزعزع في الجميع لدى الناخب .ولو أن الأحزاب تخوض حملاتها الانتخابية عن طريق عرض برامجها دون إقحام الحديث عن مثالب بعضها البعض لاهتم الناخبون بالمقارنة بين البرامج عوض الانصات إلى سرد العيوب والنقائص وتبادل التهم . والناخب مشغول الذهن بمعرفة كيف تعالج مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية من قبيل استفحال موضوع البطالة عموما والبطالة الجامعية خصوصا ، ومن قبيل قلة مناصب الشغل ، ومن قبيل ضعف الاستثمارات وقلة المقاولات ، ومن قبيل انخفاض الدخل الفردي وتدني القدرة الشرائية ، و ضعف المعاشات ، ومن قبيل اختلال المنظومة التربوية ،ومن قبيل غياب البحث العلمي ، ومن قبيل سوء التطبيب وزيادة كلفته، ومن قبيل استفحال أمر الهجرة من الوطن وإليه ... إلخ بما في ذلك تدني السمعة الرياضية ، وانحدار المرتبة الفنية للبلاد ... ستتناول الأحزاب دون شك هذه القضايا في حملاتها الانتخابية وتعالجها المعالجة المرهمية للجروح الغائرة ، وكلها تدعي امتلاكها حلولا للمشاكل بما فيها تلك التي صارت معضلات مستعصية على كل حل ولو بعصي سحرية ، والحقيقة أن كل الأحزاب سواء فيما يخص الشعارات التي ترفعها خلال حملاتها الانتخابية التي تصير كالقصائد الشعرية التي يقول أصحابها ما لا يفعلون ليتبعهم الغاوون . وتتنوع أساليب الغواية فمن الأحزاب من يراهن على الرصيد المعنوي المحض ، ومنها من يراهن على الرصيد المادي المحض ، ومنها من يدعي امتلاكهما معا، ويجمع بين ما لا يجتمع على طريقة السفسطائيين الذي يستوي عندهم النفي والإثبات في الأمر الواحد . وتتنوع رهانات الأحزاب ، فمنها من يراهن على الفئة المثقفة والمتعلمة ، ومنها من يراهن على الفئة الجاهلة الأمية ، ومنها من يراهن على أهل التدين ، ومنها من يراهن على من لا صلة لهم بالدين ، ومنها من يراهن على الأحياء الراقية ، ومنها من يراهن على الأحياء الهامشية ، ومنها من يراهن على الحواضر ومنها من يراهن على البوادي والأرياف ، ومنها من يراهن على النعرات العرقية والقبيلة ، ومنها من يراهن على الجغرافيا الطبيعية والبشرية ، ومنها من يراهن على التراث ، ومنها من يراهن على الجدة والحداثة ، ومنها من يراهن على الكاريزمية . وتتخذ الأحزاب اللوغويات المختلفة وهي عبارة عن جمادات وأدوات وآلات ، ومخلوقات منها من يمشي على رجلين ،ومنها من يمشي على أربع، ومنها من يطير بجناحيه ، ولو جمعت هذه اللوغيات في حيز واحد لكانت النتيجة خليطا لا تناغم بينه ، الشيء الذي يعكس انعدام التناغم بين الأحزاب . وأمام هذا الوضع تزهد فئة من الناخبين في الانتخابات ، وتقف فئة أخرى موقف المتفرج ، وتتجاهلها فئة أخرى تشغلها ظروف العيش عن ذلك . وقبل الاعلان عن نتائج الانتخابات تنطلق حملات التشكيك في نزاهتها ، وتنطلق التهديدات برفع الشكاوى أمام القضاء ، وتعلن النتائج قبل موعد الفرز بساعات ، ويخوض الإعلام في ذلك كل خوض . وحين تعلن النتائج لا نسمع بمثل ما يحدث عند الأمم الراقية من اعتراف الفاشل بفشله و مبادرته بتقديم التهاني لخصمه بكل روح رياضية ، بل يسارع الحزب الفاشل إلى سرد الذرائع لتبرير فشله الذي يعلق بالضرورة على مشجب الخصم ، ومن المستحيل أن نسمع لغة التهاني بل تسود وتهيمن لغة التخوين والاتهام عند الفاشل ، ولغة التشفي والشماتة والسخرية والاستهزاء عند الفائز ، ولا يتردد هذا الأخير في ادعاء أنه سيكون في خدمة الجميع بما فيهم الذين لم يصوتوا عليه ،وهو في خضم نشوة فوزه ، ونشوة التشفي من فشل غيره . وبعد الإعلان عن تشكيل الحكومة والتي قد تعقد القران بين الخصوم لأنه لا وجود بينهم لعداوات دائمة، وإنما هي مصالح دائمة كما هو الحال في زواج المصلحة أو زواج المتعة . وقبل أن تباشر الحكومة المشكلة عملها تنطلق حملات انتقادها والتشكيك في أهليتها وكفاءتها ، ويتحول البرلمان إلى ركح تمثل فوقه المسرحيات الهزلية الساخرة والتي لا نهاية لها ، ويعبر المؤيدون للحكومة والمعارضون لها على حد سواء عن تدني أساليب الحوار فيما بينهم ،وتتناقل وسائل الإعلام سوقية كلامهم . ولا يسلم الوزراء من تتبع عوراتهم الشخصية حيث تتحول أحوالهم الشخصية إلى قضايا عامة ، كما أنه لا تسلم أعراض وسمعة المعارضين، فيتم الخوض في كل مستقبح وفي كل شيء ما عدا قضايا الأمة . وتلعن كل حكومة سابقتها ويغتني من يغتني ، ويعض من يعض أصابع الندم على ضياع الفرص الذهبية والفضية وحتى النحاسية أحيانا ، ويبدأ المسلسل الانتخابي من جديد وشعاره دائما كالعادة تراشق التهم بين الأحزاب وتخوين بعضها البعض ، فيبدو أمرها كأنه أحجية أو حكاية تحكى لتنويم الشعب كما ينوم الصغار بالحكايات قبل النوم.
وسوم: العدد 684