اللعبة الدولية من جديد وخاسر واحد
تَعوَد العالم على المتغيرات السياسية والجيوبولوتيكية منذ بدأ علم السياسية بالدخول في المعترك الوجودي الواقعي، وهذا العلم لم يكن يوماً الا كما برهنت النتائج حصيلة افكار ومتغيرات اقتصادية حتمية تحكم مسارات العالم بكل اصعدته، حيث الساسة هم مجرد ادوات لازمة لتحقيق الغرض الاسمى للحتمية الاقتصادية المصلحوية ضمن سياقات النظام العالمي المسمى بالجديد في هيكله ومظهره الخارجي والعتيق في جوهره وسياقاته ونظرته للشعوب وللعالم باجمعه.
فكل ما ورد من تسميات ظاهرة وفق تداعيات العصر والوقت ( نظام، حداثة ، عولمة ) ليست الا تلك الحقيقة الكامنة في الفعل الديناميكي للحتمية الاقتصادية، والتي بدورها اوجدت عوالم بشرية فوقية واخرى تحتية( الطبقية)، بحيث تحكم سنن القوة والمال على وجود الاخر ضمن مراسيم وطقوس ربما هي في احسن حالاتها لاتنتمي الى الانسانية والى الحق او الفرضيات التقنية والمقننة باغلفة اثنية او عرقية او دينية او حتى مذهبية طائفية، لكونها اجمالا ليست الا حصيلة حراك اقتصادي بحت، وهذا الحراك وحده من يحتم الهوية الملائمة لتلك العوالم المختلقة .
وحين نراجع اجندة الوجود الكوردي منذ البدء سنلاحظ هذا التحكم في صيرورته التاريخية والوجودية بشكل يثير دهشة المتابع، ودهشة الباحث، ودهشة الانسانية نفسها، هذا ان لم يكن مصطلح الانسانية ايضا مجرد غطاء غير مرئي لمصلحة اقتصادية اقتضت لبس هذا الثوب كي تخفي جرائمها بحق الاخرين.. ان المتتبع لحركية الوجود الكوردي سيجد بان المصلحة السياسية والجيوبولوتيكية ليست الا حصيلة مصلحة اكبر واهم الا وهي المصلحة الاقتصادية التي تفرضها هذه الانظمة المتعاقية والمتوالية بمسمياتها المختلفة ظاهرياً، فالوجود الكوردي انما اقترن بالوجود الاقتصادي والمصلحوي للقوى الكبرى، والتي حتى وان وجدت مصاغات ومحركات اقتصادية ضمن الحدود الجغرافية الكوردية الا انها تبدأ بالحاسبات، وتقارنها بالمكتسبات الاخرى، وحين تجد شكاً وتهاوناً من الموجودات الاخرى، تبدأ بقرع الطبول للكورد وتدفعهم لخوض احلامهم بكيان مستقل، يوحدهم تحت راية واحدة، وتبعد عنهم سوط اعدائهم ممن يتاجر بدمهم، وممن يحقد عليهم، وممن يعاديهم بالاخص القوميات والانتماءات العرقية والدينية والقومية الاخرى.
فحين تحركت الاوساط الدولية مؤخرا وضمن سياقات متعددة ابرزها محاربة الارهاب، كان الوجود الكوردي حتمياً لكونه على ارض الواقع يواجه المد الارهابي المهدد للمصالح الاقتصادية للقوى الكبرى، فتنافست هذه القوى على وضع لمساتها ضمن سياقات وسيناريوهات متعددة، حيث وجدنا امريكا تؤسس حلفاً وتضع البيشمركة الكوردية اولاً ومن ثم ووحدات حماية الشعب الكوردية ثانياً ضمن بروتوكولاتها العسكرية، وتبعتها فرنسا التي وضعت الكثير من قدراتها العسكرية ضمن سياقات هذا الحلف، فجاءت بعدها ايطاليا وقدمت مساعدات عسكرية، ومن ثم بريطانيا وبلجيكا والمانيا وهذه الاخيرة برزت بتقديمها للاسلحة المطورة للبيشمركة، ومن ثم كانت كندا واستراليا والكثير من الدول الاخرى فضلاً عن الدول الخليجية العربية، التي وضعت اجنداتها سواء من خلال تقديم مساعدات لوجستية مباشرة، او من خلال تقديم الاستشارات العسكرية وتدريب البيشمركة، وبلاشك ضمن هذا التواجد الدولي ضمن الجغرافية الكوردية بعث من جديد الحلم الكوردي، ولكن كما هي العادة، اللعبة السياسية الدولية لايمكن توقع نتائجها الا في النهائيات، حيث كل التكهنات، وكل التوقعات ليست الا مجرد اوهام لايمكن البت فيها او حتى الايمان بتبعياتها، لانها في الاصل مخاض غير شرعي لحالة طارئة اوجدتها وخلقتها تلك القوى المتحالفة معاً ضمن رؤية اقتصادية ومادية بحتة للمصالح المهددة بالفقد، وتلك التي يمكن ستكسبها جراء عملياتها وافعالها واقوالها المؤقتة.. ولعل ما افرزته المقارنات في الاونة الاخيرة لهذه الانظمة، كان بالفعل غير ما يريده الكورد، لانه وحسب ما يمكن رؤيته حالياً هو ميل هذه القوى للجهات المعادية للكورد على حساب القضية الكوردية نفسها، فالعامل الاقتصادي ضمن المقارنات والمقاربات يشير بوضوح ان المعادين للكورد لديهم ما يحقق مصلحة هذه القوى اقتصاديا اكثر مما يمكن ان يقدمه الجغرافية الكوردية .
وكما هي العادة وقع الكورد في شرك هولاء القوى المفترسة، والتي لايهم انها تقتل حلم الملايين من الكورد، وتضحي بالالاف من شبابها، في سبيل تحقيق مصلحتها الاقتصادية، والتي نجدها يوما بعد يوما تجمع الاضداد مع بعضها، دون خجل او استحياء من دماء الابرياء، ولعل التاريخ هنا يلعب دوره الهمجي في تحقيق تلك المكاسب الاقتصادية لتلك القوى، فكل من امريكا وروسيا كانا ومازالا هما الذئبان المفترسان لكل النظم والحقوق البشرية لابناء المنطقة الشرق اوسطية بكل اثنياتها وتعقيداتها المذهبية والدينية.
فمن خلال سعي هاتين الدولتين مع حلفائهم لتحقيق مكاسبهم الاقتصادية يمكنهم ان يدفنوا بعض احقادهم تجاه بعضهم، ولو لبعض الوقت، فيبدأوا بالمناورات السياسية والمداخلات غير المتوقعة ويخلقوا ازمات اقتصادية واخرى سياسية في المنطقة وكل ذلك كي يخفوا جرائمهم ويلبسونها ثوباً شرعياً مقنناً من قبل الامم المتحدة والتي بدروها ليست الا غطاء فاضح لمؤسسة اقتصادية عالمية تتحكم مواردها بالسياسات والجغرافيات والبشريات الموزعة بشكل غير متناسق فوق هذا الكوكب المليء بالحقد والكره والدم.
ولننظر معاً الى خارطة التحالفات الوضيعة التي ظهرت للوجود من جديد،والتي اراها تقارب للاضداد فايران الاسلامية تتحالف مع روسيا الشيوعية والتي بدورها تؤيد النظام العلوي السوري، ومن ثم التحالف العلماني الامريكي مع التركي والعربي الاسلامي ظاهرياً، والمناورات السياسية الهوليودية التي شهدتها المنطقة مؤخراً من تعارض مصلحوي روسي تركي، مع عدم المساس بالدعم الروسي العلوي الايراني في التعارض العربي الاسلامي للدور الروسي، مع عدم المساس بالتعاون التركي العربي من جهة، والتركي الايراني من جانب اخر، فضلاً عن التغاضي عن العدائيات بين كل تلك الجبهات، ومن ثم التهافت الامريكي الحديث مع تلك القوى لاسيما تقارباتها مع روسيا، وتغاضيها عن افعال تركيا، وتخاذلها مع الكورد في كل من العراق وسوريا، وتركهم فريسة مرة اخرى للانظمة الحاكمة فيها وللقوى المجاورة، واخيرا سكوت كل من فرنسا والمانيا وبريطانيا وايطاليا وكل دول التحالف الاخرى على المجريات الوقائع والاحداث التي بدأت تعصف بالمنطقة، حيث تعمد تركيا التدخل المباشر في سوريا وضرب الكورد، ومن ثم تخاذل امريكا وتركيا مع الكورد في العراق .. كل ذلك دليل واضح على دناءة اللعبة الدولية تجاه شعوب المنطقة او الطبقة الاخرى التي هي بنظر هذه الدول ليست الا مصلحة اقتصادية بحتة.
ان هذه التحالفات ليست وليدة اللحظة، انما هي تجذرات تاريخية مصلحوية قائمة بركائزها الاقتصادية، دون ان تعترف في سياقات الاقتضاء الاقتصادي بالهويات والديانات والقوميات والاثنيات والمذهبيات والانتماءات، انما هي في كل تحركاتها وسياقاتها تؤكد على عولمة العالم ضمن مناخات اقتصادية توفر لهذه القوى الدعم الكافي للبقاء في طبقتها الفوقية.
وسوم: العدد 684