الثورة السورية والخيار الثالث
د. محمد أحمد الزعبي
رغم أن مفهوم " الخيار الثالث " المشار إليه في عنوان هذه المقالة ، يتقاطع ، من حيث الشكل ، مع مفهوم " الطريق الثالث "، إلاّ أنه ، من حيث المضمون ، لايتقاطع ولا يتطابق ، بل ولا حتى يتشابه معه. إذ بينما يشير مفهوم الطريق الثالث ، إلى خيار سياسي ـ أيديولوجي " ثالث " ، يقع بين الرأسمالية والاشتراكية ، ولا سيما إبان فترة " الحرب الباردة " بين الطرفين في النصف الثاني من القرن العشرين ، فإن " الخيار الثالث " الذي نقترحه هنا ، لإخراج ثورة آذار السورية ( ثورة ربيع دمشق ) من حالة " الاستعصاء " المستمرة منذ مطلع عام 2011 ، وحتى هذه اللحظة ( أواخر ماي 2014 ) ، إنما يشير ، بصورة أساسية إلى خيار بديل لكل من " ديكتاتورية الأقلية " التي نراها ونعيشها في يومنا هذا " اليوم الحالي"، و " فوضى الأكثرية " التي يمكن أن تنتظر الثورة السورية في " اليوم التالي " ، اي المرحلة التالية لسقوط نظام الأقلية المتحكمة ( نظام عائلة الأسد )، وذلك على غرار ماجرى ويجري أمام أعيننا في بعض بلدان الربيع العربي الأخرى . إن هذا يعني ـ تطبيقياً ـ أن الإشكالية التي يحاول هذا المفهوم (الخيار الثالث ) حلها ، عبر الإحاطة بأبعادها السياسية والاجتماعية إنما تتقاطع ، من جهة مع إشكالية الأقلية والأكثرية ، ومن جهة أخرى مع إشكالية الهروب من اليوم الحالي إلى اليوم التالي ، والتي هي نوع من الهروب من استحقاقات مطلوبة اليوم ، إلى استحقاقات ستكون مطلوبة غداً ، إنها إذن ، هروب من الموضوع ، رغم أنه يأخذ شكل الهروب إلى الأمام ! .
لاننكرأن الخيار الثالث الذي نقترحه في هذه المقالة ، يمكن أن يتقاطع عملياً مع كثير مما ورد في العديد من الأدبيات والدراسات والبحوث التي صدرت في العامين الماضيين ، حول الثورة السورية ، ولا سيما تلك التي تركزت رؤيتها حول " اليوم التالي the day after/ " ، ولكنه لايتطابق معها ، ذلك أن هذه المجموعات والجماعات المعارضة لنظام بشار الأسد ، تلتقي مع الثورة السورية في إدانة الأعمال الوحشية التي يمارسها النظام ضد الشعب السوري ، بيد أنها ، وبنفس الوقت ، لاتخفي خشيتها من إمكانية أن تأتي لهم الديموقراطية التي تنادي بها الثورة ، بالجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم ، وتنتقل سوريا في ظل حكم هذه الجماعات الإسلامية ، من ديكتاتورية الأقلية إلى ديكتاتورية الأكثرية ، وربما إلى الفوضى العارمة .
إن مثل هذا التخوف غير المبرر من الديموقراطية المنتظرة ، من بعض أطراف المعارضة السورية ، إنما ينطوي واقعياً على فيروس غير صحي / مرضي، غرسته القوى الخارجية ، المعادية لكل من العروبة والإسلام ، في تربتنا ، بعد أن هيأت له ( الفيروس ) التربة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الكفيلة برعايته وحمايته ، بل وتكاثره ، عبرمعاهدة سايكس بيكو ووعد بلفور ( التجزئة وإسرائيل ) باعتبارهما كانا الأثفيتان ، اللتان جاءت مرحلة الاحتلال المباشر للوطن العربي بعد الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن العشرين ، لتكون ثالثة الأثافي التي يجلس فوقها القدر ( بكسر القاف ) الذي تطبخ فيه تلك القوى الإستعمارية طبختها المفضلة تاريخياً ، ألا وهي طبخة الأقلية والأكثرية .
إننا نتفهم تخوف بعض أطراف المعارضة السورية من إمكانية فوضى " اليوم التالي" ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه على الجميع هنا هو : هل محكوم على الثورة السورية وعلى الشعب السوري ، بعد أن قدم حوالي ربع مليون من الشهداء ، وحوالي عشرة ملايين من المهجرين والمشردين ، أن يكون خياره الوحيد هو بين أمرين (أحلاهما مرّ) ، أعني إما ديكتاتورية الأقلية ( اليوم الحالي ) أو فوضى الأكثرية ( اليوم التالي ) ؟!. إننا لانعتقد بذلك ولا نقبله ، ذلك أن خياراً ثالثاً يظل ممكناً، بل ومطلوباً ، للخروج ببلدنا العزيز والحبيب سوريا ، بداية من هذا الإستعصاء الذي طال أمده ، ونهاية من إسار هذين الخيارين اللذين يرى البعض ( وهذا مع الأسف الشديد ) أنهما أمران متساويان في السوء !!. متناسين أن ( ديكتاتورية الأقلية )هي أمر قائم بالفعل ، بينما إمكان هيمنة الأكثرية الإسلامية السنية على السلطة في سوريا ، والانتقال بالشعب السوري " من تحت الدلفة لتحت المزراب " ، أو ربما إلى " الفوضى " هي مجرد حالة متخيلة ، يمكن أن تكون ويمكن ألاّ تكون ، وبالتالي فهي نوع من الفوبيا التي زرعتها القوى الاستعمارية في رؤوسنا ، ولابد أن نتعامل معها على هذا الأساس .
إنني لاأنكر أن خليطاً تاريخياً عجيباً يتعايش داخل عقولنا وقلوبنا ، نحن أبناء القرن الحادي والعشرين ، يبدأ من اعتزازنا بشعر ومواقف جاهلية قبلية ، مثل قول طرفة بن العبد ( إذا القوم قالوا من فتى ؟ خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد) وقول عمروابن كلثوم (ألا لايجهلن أحد علينا ، فنجهل فوق جهل الجاهلينا ) ، وينتهي بالاعتزاز بثورات الربيع العربي ، ومنها ثورة الحرية والكرامة في سوريا ، مروراً بالاعتزاز بسلوك ومواقف كل أقطاب وأعلام الفكرالإسلامي الذي طبع سلوك ومواقف أبناء الأمة العربية في الماضي وفي الحاضر، بدءاً بالخلفاء الراشدين في القرن الأول للهجرة ، وانتهاءً بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في القرن الثاني / الثالث عشر للهجرة .
لقد أدت هذه الخلطة التاريخية إلى أن انقسامين يتعايشان اليوم جنباً إلى جنب في مجتماعاتنا العربية ، ومنها مجتمعنا السوري ،وبالتالي في عقولنا ، هما : الإنقسام العمودي ( الديني ، الإثني ، الطائفي ، القبلي ، الجهوي ) والانقسام الأفقي ( الاقتصادي ـ الطبقي ، الفئوي ، المهني ) ، بما يعنيه ذلك التعايش ، من أن فوضى فكرية ، وقيمية ، تعيش في دواخلنا ، وتطبع بالتالي سلوكنا ومواقفنا !! . من هذه الزاوية يحق لـ " الأقلية " ( ومعها بعض العلمانيون والليبراليون واليساريين )، أن تتخوف من إمكانية ، أن تأتي لهم الثورة وبالتالي" الديموقراطية " المطروحة على أجندة الثوار ، بمن وبما لايرغبون . ولكن السؤال الذي يفرض نفسه على الجميع ( الأقلية والأكثرية ) هنا ، هو : مالعمل إذن ؟ ، هل القبول بالمرّ استبعاداً للأكثر مرارة أم ، البحث المشترك عن حل عقلاني يستبعد سلبيات كل من اليوم الحالي واليوم التالي على حد سواء ؟ . لاشك أن البحث عن حل عقلاني ، هو الجواب الصحيح على هذا التساؤل . ولكن تساؤلاً جديداً سيطرح نفسه هنا أيضاً ، ألا وهو : " كيف ؟ " ، وهو عملياً موضوع الخيار الثالث الذي سنحاول تقديمه بديلا لكل من ديكتاتورية اليوم الحالي القائمة وإمكانية فوضى اليوم التالي المتوقعة ، والذي ( الخيار الثالث )سيكون اجتهاداً فردياً من الكاتب ، قابلاً للنقد وللنقض .
تتلخص رؤيتنا الخاصة لحل هذه الإشكالية ، والتي تمثل " الخيار الثالث " الذي نقترحه ، في ضرورة قبول الجميع ، بمبدأ " الديموقراطية " الحقيقية، المدعّمة بدستور مقر من الشعب وأيضاً بصورة ديموقراطية حقيقية لالبس فيها ولا عوج . هذا مع العلم أن الديموقراطية التي نعنيها هنا تتماهى
ـ نظرياً وعملياً ـ مع شعاري الحرية والكرامة اللذين رفعهما شباب ثورة آذار 2011 ، وبالتالي فهي تمثل الجسر الوطني الذي يربط ضفة اليوم الحالي بضفة اليوم التالي . والتي ينبغي أن تنطوي بالضرورة على :
+ الديموقراطية السياسية ، ولا سيما التعددية الحزبية والتبادل السلمي للسلطة ، والانتخابات
والاستفتاءات الدورية المنتظمة ، والمكفولة بالدستور .
+ الديموقراطية الاجتماعية ، ولاسيما إقامة مجتمع مدني قائم على سيادة القانون ، وعلى تساوي
الجميع في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم من أي نوع كان .
+ الديموقراطية الفكرية ، ولاسيما احترام الرأي والرأيالآخر،وأيضاً احترام حرية التعبيرعنهماسلمياً .
+ الديموقراطية الاقتصادية، ولاسيما حق العمل للرجل والمراة، والجمع بين القطاعين العام والخاص.
+ الديموقراطية الثقافية ، ولاسيما حق الأقليات العرقية والدينية في ممارسة طقوسها الخاصة بها .
+ الديموقراطية الانتقالية ، التي تمثل الضوابط الأخلاقية للعدالة الانتقالية ، التي لاغنى عنها للمرحلة
التالية لسقوط النظام، ولضرورة محاسبة رجالاته على ماقترفوه بحق ا لشعب
السوري من قبل ومن بعد .
إن عرضنا لهذا الحل الديموقراطي ، لايحجب عنا ـ بطبيعة الحال ـ تخوف بعض" الأقليات " ، من أن الأكثرية ( السنية ) في سوريا ، يمكن إذا ماوصلت إلى الحكم ، أن تضع على الطاولة شريعة الخالق السماوية مقابل قوانين المخلوق الوضعية ، وهكذا ربما تفتح باندورا صندوق الشرور، وتقع الثورة السورية في فخ المحظور ( الفوضى ) .
من جهته لايستطيع الكاتب أن يقدم لهؤلاء الإخوة المتخوفين من الديموقراطية القادمة أية ضمانات تتعلق بالمستقبل عامة ، وبـ (اليوم التالي ) خاصة سوى : أولاً ، قناعته المطلقة في أنه ليس من علاج لأخطاء وأخطار الديموقراطية إلاّ بالمزيد من الديموقراطية، وذلك على قاعدة ،( لكل شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد)، وثانياً، ثقته القوية بأخلاقية تيارالإسلام السني السوري المعتدل ، في أنه إذا وعد وفى ( أنظر : ميثاق وعهد آذار 2012 و تصريح 20.05.2014 بتأييد ميثاق الشرف الثوري الذي صدربتاريخ 18.05.2014 ، عن بعض الفصائل الإسلاميةالمقاتلة المعتدلة ) ، وثالثاً ، ثقته المطلقة أيضاً ، بروح التعايش المشترك والتسامح الوطني التي اتصف ويتصف بها شعبنا السوري العظيم ، بمختلف مكوناته على مر القرون ، ولا سيما قرون التاريخ الإسلامي والعربي.