"علم النفس السياسي" وتأثيراته على القرارات السيادية
مقدمة
شئنا أم أبينا فإن الإنسان نتاج البيئة التي نشأ فيها وموارده المعرفية التي تلقاها من تلك البيئة هي التي ترسم له محددات سلوكه ومدى استجابته لما يصادفه من تحديات وأحداث، والذين تصدوا لمسؤولية الحكم في مختلف البلدان، يرسم سلوكهم وردّات فعلهم خزين النشأة من أسرة وشارع وبيئة، وما أضافوه بعد وصولهم مرحلة البناء الذاتي من خبرات ومهارات، وعالم اليوم كما كان في الماضي يزخر بنماذج جلبوا معهم إلى قصور المسؤولية في الحكم ما اختزنوه في حياتهم قبل ذلك، طبعا يستثنى الرسل والأنبياء عن هذه القاعدة لأنهم مكلفون بنقل رسالة وتم إعدادهم إعدادا ربانيا خاصا.
ولنأخذ عينات لغرض البناء عليها، فعلى سبيل المثال يقال بأن البدوي احتفظ بحقه للثأر من عدوه أربعين عاما وعندما أخذ بثأره ندم لتسرعه، وربما هذه الخاصية انتقلت إلى مجتمع الجزيرة العربية ودول الخليج العربي، والتي لا تستعجل بالتعاطي مع أزمات عصر السرعة مما يفوت عليها فرصا ذهبية لبناء قوتها وردع عدوها.
الخليج العربي وعلم النفس السياسي
يتميز الجيل الأول من حكام منطقة الخليج العربي بأنهم لم يحصلوا على قدر مناسب من التعليم، وأن ما نالوه من فرص التعليم كان في الكتاتيب، بل إن بعضهم لم يكن يحسن قراءة آية كاملة من القرآن الكريم، وربما أخذ هذا الواقع بعدا محزنا في المملكة العربية السعودية التي يفترض أنها حامية للحرمين الشريفين وأنها تشرف على خدمتهما وتهيئة مستلزمات الراحة للحجيج والمعتمرين، وبالتالي فإن المراقب سيتبادر إلى ذهنه أن أكثر الناس معرفة بالشريعة والفقه وأصول الدين هم حكام المملكة العربية السعودية، ولكن هذا الأمر ليس أكثر من أمنيات على الأقل بالنسبة للجيل الأول من الملوك والحكام، ما استثناءات نادرة يمكن أن يكون الملك فيصل أبرز رموزها.
كما أن الرأي العالم العالمي سواء على مستوى الصحافة وأجهزة الإعلام والأحزاب والتيارات السياسية، تنظر بعيون فاحصة إلى سلوك أبناء الأسرة الحاكمة من الأمراء والمقربين، لكن ما عكسه تدفق الثروة على المملكة بعد اكتشاف النفط، جعل الكثير من أبناء طبقة الأمراء يفقدون توازنهم فراحوا يسلكون سلوكا لا يليق أبدا بعائلة تمتلك أدوات السلطة والحكم في بلد يضم في أجزائه الحجاز حيث بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف.
إن الرصيد المعرفي المحدود مع موارد اقتصادية ومالية وثروات طبيعية هائلة لم تخضع كلها لقوالب النظم الحسابية الرسمية الصارمة، أفقد كثيرا من جيل الشباب من الأمراء توازنهم وطفقوا يبحثون عن المتعة واللذة غير البريئتين في أي مكان يصلون إليها، مع كل ما يرافق ذلك من بذخ وإنفاق لأموال لم يحصلوا عليها بكدهم وجهدهم وإنما لأنهم أمراء في بلدان لا تقيم وزنا للعدالة في توزيع الثروة الوطنية.
إن انحدار معظم حكام الخليج العربي من بيئة اجتماعية متقاربة في قدراتها المالية وحصيلتها من التعليم والثقافة، وانحدارهم من مجتمع عشائري متقارب في تقاليده، يجعل من طريقة تعاطيهم مع القضايا السياسية والملفات الخارجية تخضع للمزاج العشائري في فض المنازعات، مع ما في هذا النهج من خطورة نتيجة تبسيط الأمور والتعامل معها وكأنها خلاف عشائري يحل بالدية وليس قضية وطن وأرض وسيادته وثروة شعب بأجياله المتعاقبة، فالتعامل في الملفات السياسية بطريقة حل المشاكل العشائرية يعد تفريطا بحقوق الوطن.
ومن الملاحظ أن هذه النظرة المسطحة كانت سببا في الدخول في حروب ونزاعات جديدة قبل أن تحسم الحروب والنزاعات القديمة أو التي ما تزال قائمة، إن خوض حربين في وقت واحد لم يعد أمرا متاحا حتى لأقوى الدول في العالم، فقد أكدت الولايات المتحدة على لسان قادتها السياسيين والعسكريين أن حربها في العراق علمتها درسا بليغا من أنها لن تستطيع خوض حربين في وقت واحد، ولكننا لاحظنا أن المملكة العربية السعودية دخلت في نزاعات سياسية مع دول خليجية أخرى ثم طويت صفحتها استنادا إلى مبدأ "تبويس اللحى"، كما أن حرب اليمن التي خاضتها السعودية بالتعاون مع نظام الرئيس المعزول علي عبد الله صالح عام 2009، كشفت عن نقص شديد في حلقات التدريب أو الخبرة القتالية أو في استخدام الأسلحة مما أدى إلى وقوع أسرى من الجيش السعودي بيد الحوثيين، وحرب عام 2009 تعكس في واقع الحال حالة عدم الاستقرار النفسي لدى زعامة البلاد، إذ أن فارق القوة النارية بين الأطراف المتحاربة أدى إلى وصول الحوثيين إلى الحافة القريبة للهزيمة، ولكن لتوازنات قبلية أو اجتماعية أو مذهبية، التقت مع إصرار أمريكي على تحويل مسار الحرب من الحوثيين إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وكأن الإرادة الأمريكية تريد الإبقاء على جذوة النزاع متقدة لمواصلة تأثيرها في الملفات الداخلية لدول المنطقة، ويبدو أن السيناريو تكرر بعد البدء بعاصفة الحزم والتي توقفت قبل أن تصل إلى منتصف الطريق.
إن الانتقال من خندق وصف الحوثيين بالحركة الإرهابية إلى استقبالهم في الرياض والتفاوض معهم من أجل الخروج من الحرب أعطى رسالة للمراقبين بأن المزاج السياسي الذي يرتكز على قيم بدوية لا يسمح بالمراهنة على موقف واضح ومستند على رؤية سياسية استراتيجية ناضجة، فالدول ترسم استراتيجياتها لعشرات السنين، وتأخذ بنظر الاعتبار من خلال الدراسة العميقة للتطورات السياسية والاجتماعية، وصعود تيارات دينية أو سياسية للمشهد السياسي، بما يضمن حصانة متينة وطويلة الأمد، والتقلب بإعطاء أراء سياسية سريعة بهذا الطرف أو ذاك يخلق بلبلة وتشويشا في المجتمع قد يؤثر على ضياع بوصلة الوعي الشعبي في التمييز بين العدو والصديق والوطني العميل.
نحواستراتيجيةعربيةلصيانةالأمنالقوميالعربي
يتطلب أي دور محوري تريد دولة ما أن تؤديه إقليميا ودوليا أن تتوفر فيها شروط ومستلزمات عديدة من أهمها....
1 – عمق استراتيجي يوفره اتساع مساحة الجغرافيا السياسية للدولةبما يؤمن إيجاد أكثر من منطقة أمنية أو اقتصادية تجعل من استهدافها أمرا محكوما بصعوبات من خلال الحماية الطبيعية، مع إطلالة بحرية تجعل من إمكانية محاصرتها أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا.
2 – عدد كبير من السكان يوفرون القوة البشرية اللازمة لتحريك ماكنة الاقتصاد واستغلال الثروات الوطنية من دون اعتماد كامل أو شبه مطلق على الخبرات والأيدي العاملة الأجنبية التي تحمل موروثاتها الثقافية والدينية والاجتماعية، مع ما يمثله ذلك من إضعاف لقدرة الدولة في التحكم في ملف الأمن الداخلي وما تستنزفه العمالة الخارجية من موارد الدولة وتجعل أنشطتها الاقتصادية رهنا بإرادات خارجية تجعل من الاستقلالين السياسي والاقتصادي شعاراً غير مستوف لشروطه الموضوعية.
3 – نظام حكم له قاعدة شعبية عريضة ومؤمنة بأن معارضة نظام الحكم لا ينبغي أن تكون سببا في الاصطفاف مع أعداء الوطن والعمل لصالح أطراف خارجية بما يهدد أمنه القومي ومصالحه الاستراتيجية، وأي بلد منقسم على نفسه لن يكون قويا في مواجهة الأخطار الخارجية طالما كان منشغلا بأزمات داخلية تتعلق بالهوية ونظام الحكم ومدى قدرته على التعبير عن مصالح أوسع قاعدة شعبية، وهذا يتطلب:-
أ – سلطة حكم معبرة عن إرادة واختيار شعبيين عبر وسائل حرة، لكننا هنا ينبغي أن نضع حدودا فاصلة لما يصلح للغرب من طرق تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، لأن ذلك قد لا يصلح لمجتمعات أخرى، فالديمقراطية كمصطلح قانوني ربما تختلف كثيرا عن مدلولاته السياسية التي عادة ما توظف لتحقيق أهداف لا صلة لها بحكم الشعب.
ب – سلطة قضائية تتمتع بمصداقية واستقلالية حقيقية تضمن تطبيق العدالة على كافة المواطنين بحرفية ومهنية من دون تمييز بين دين ومذهب وعرق ولون واتجاه سياسي، فالكل أمام القانون متساوون في الحقوق والواجبات.
ت – ضمان حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان وصيانة كرامته وهذا لن يتحقق ما لم تكن هناك صحافة حرة، لقد بات احترام حرية الصحافة والتعبير من أهم مكونات إصدار الأحكام السياسية على أي بلد في العالم وصار واحدا من أهم مقومات قوته ومكانته في المجتمع الدولي المتمدن.
4– قوة عسكرية محلية ترسم برامجها على هدي أهداف الاستراتيجيتين المتوسطة وبعيدة المدى، والتي عادة ما ترسم أبعادهما جهات كثيرة أبرزها مراكز الدراسات الاستراتيجية الوطنية والعربية، ومجالس الأمن الوطني أو القومي أو الجهات التي تؤدي دورها مثل مجلس الدفاع الأعلى، ووزارات الخارجية والدفاع والمخابرات العامة ومعاهد الدراسات العسكرية العليا مثل كليات الأركان والأكاديميات العسكرية العليا ككلية الحرب أو كلية الدفاع الوطني، أو من يقوم بمقام هذه الجهات، مع استعانة مؤكدة بالعقول العربية المتميزة والمؤمنة بالمسار السياسي المؤشر من قبل الدولة الطامحة للنهوض بدور عربي متميز، وعلى الدولة أن تضع الخطط طويلة الأمد بحجم كل صنف من صنوف القوات المسلحة وتطوير مهاراتها، واعتماد أحدث أساليب التدريب وتطوير كفاءة المقاتلين من أجل مراجعات دورية لحجم القوات بما يتناسب مع قدرتها على تحقيق أهدافها، هذا الطموح يجب أن يترافق مع صناعات حربية ثقيلة وإلكترونية محلية بكل حلقاتها من حيث التصميم والتنفيذ، مع توظيف محكم لقطاعات الصناعة المدنية ووضعها في خدمة الأمن القومي.
إن الأخذ بآخر الحلقات العلمية في مجالات التكنولوجيا المدنية والعسكرية، يعد الركيزة الأساسية التي لا يجوز التساهل فيها، ويجب التركيز على مبدأ في غاية الأهمية وهو أن الحصول على أية تكنولوجيا للأغراض السلمية أو الحربية، يجب أن تخضع لحسابات الدولة نفسها وعليها أن تعتمد الخطط الكفيلة بإفشال ما يمكن أن تتعرض له من ضغوط خارجية تهدف إلى التحكم بقرارها الوطني المستقل.
5 - ثروات طبيعية متنوعة تحت الأرض وحركة تعدين تضع خططها بما يحافظ على قيمة الثروات الوطنية من دون استنزاف وربط الإنتاج بخطط محلية وليس لمجرد تأمين حاجات الدول الصناعية الأجنبية، أو في مجالات الزراعة، يتم استثمارها على النحو الأمثل واستنادا إلى خطط اقتصادية علمية مدروسة من أكبر مؤسسات التخطيط والتصميم الدولية المعروفة لحين استكمال حلقات بناء المؤسسات المحلية المشابهة كي تتحول بدورها إلى مصدر من مصادر الدخل القومي، أو مستوى تكنولوجيا متقدما وعاليا يعوض عن نقص الثروات الطبيعية.
إن أي بلد يجب أن يوظف ما لديه من ثروات ذات طابع استراتيجي لخدمة قضاياه الوطنية وأمنه القومي، ويجب عدم تحييد أي سلاح اقتصادي أو تجاري عن المساهمة في الحروب الوطنية.
6– إرادة سياسية مستقلة استقلالا حقيقيا عن أية تأثيرات خارجية ومستندة على قدرات حقيقية وتدرج مقنن وسليم في صنع القرار السياسي وإنضاجه من خلال مؤسسات متخصصة، وربما ينظر خبراء السياسة إلى أن الإرادة السياسية تأتي في مرتبة متقدمة من عناصر القوة الاستراتيجية لأي بلد في العالم على ما عداها من مقومات أخرى، وفي حال عدم توفر الإرادة السياسية الحرة فإن جميع الشروط الأخرى تصبح من دون قيمة تذكر.
7– علاقات خارجية مبنية على أساس من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، والاحترام المتبادل، باحترام حقوق السيادة والخيار الوطني، وربما دخلت على عوامل قوة بلدان العالم امتلاكها قوة دبلوماسية وحضورا في المنظمات والمؤتمرات والمحافل الدولية، ومشاركتها كطرف مقبول في حل المنازعات الدولية.
إن الفعالية الدبلوماسية التي تتميز بها السياسة الخارجية لأي دولة ينبغي أن تحدد ثلاثة أهداف مركزية لها:-
أ – تمتين أواصر الصداقة مع المحيط الطبيعي الذي تقع فيه الدولة والارتقاء بمستوى العلاقات معه إلى درجة من الفعالية بحيث تصبح أية قضية يعاني منها بلد من بلدان هذا المحيط شغلا جماعيا لكافة دوله.
ب – تطوير العلاقات مع سائر دول العالم كسبا لدعمها في القضايا والأزمات التي قد تواجه الدولة الباحثة عن موقع سياسي دولي فاعل، فتحويل الدول المحايدة إلى دول صديقة أمر مطلوب بل وضروري جدا، لأننا نلاحظ أن دول العالم في وقت التحالفات الدولية المعلنة أو المبنية على أساس التقاء المصالح السرية تتعامل مع مواقف الدول الأخرى استنادا إلى نوعية العلاقة السياسية معها سلبا أو إيجابا، وليس إلى طبيعة المواقف نفسها.
ت – تحييد الخصوم والأعداء جهد الإمكان شريطة عدم التفريط بالمبادئ أو التنازل عن الحقوق الوطنية والقومية والإسلامية أو بمبادئ القانون الدولي التي لا تتعارض مع المصالح الوطنية والقومية.
هذا الإطار العام لأي بلد يريد أو يراد له أن يؤدي دورا استراتيجيا على مستوى إقليمي أو دولي، فما هي مؤشرات قدرة بلد عربي مثل المملكة العربية السعودية على أن تكون مركز استقطاب عربي قادرا على مواجهة التيارات الضغوط السياسية الخارجية التي تمارسها الدول الكبرى وخاصة القادمة من الولايات المتحدة التي تعتبر حليفا وصديقا تقليديا للمملكة لنحو قرن من الزمان؟ أو من قوى دولية كبرى أخرى مثل روسيا التي ترى في بروز أي قوة عربية صاعدة تهديدا لمصالحها وعلاقاتها الإقليمية، أو من قوى إقليمية أخرى باتت تجد نفسها قادرة على الخروج من حدودها الجغرافية لتلعب أدوارا تعبر عن طموح سياسي تراه مشروعا لأنه يتناسب مع قدراتها وما يتوفر لديها من أسباب القوة، وهنا تبرز ثلاث دول إقليمية "بعد غزو العراق واحتلاله وإخراجه من دوره القومي" هي مصر وتركيا وإيران.
ولأن منطقة الخليج العربي وجزيرة العرب والعراق وبلاد الشام يمكن النظر إليها على أنها ساخنة المواجهات بين قوى إقليمية ودولية وتريد تحويل الأراضي العربية إلى مسرح لصراعاتها وحلبة لنزاعاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، فإن التركيز على دور المملكة العربية السعودية وفرصها الموضوعية في أن تكون مركز قوة إقليمية قادرة على مواجهة التحدي الإيراني المتصادم ظاهريا مع المشروعين الإسرائيلي والأمريكي ولكن هذه المشاريع للدول الثلاثة (إسرائيل وإيران وأمريكا) تلتقي من حيث النوايا وبتفاصيل التنسيق المشترك أو بالنتائج.
فما هي نقاط قوة المملكة العربية السعودية التي تسّهل لها هذا الأمر؟ وما هي نقاط الضعف التي تحد من طموحها المشروع في هذا الوقت لتكون القوة الإقليمية العربية الإسلامية الأولى؟
أولا – نقاط القوة:-
1 – إن وجود الحرمين الشريفين في المملكة، يعطيها قوة معنوية لا تضاهى أبدا، تستقطب إليها مشاعر مئات ملايين العرب والمسلمين على نحو لا توفره أية مغناطيسية دينية أو سياسية أو مالية أبدا، ولهذا نرى أن إيران ومنذ وصول الخميني للحكم عام 1979 راحت تطرح مقترحات على أعلى درجات سوء القصد وذلك بوضع الحرمين الشريفين تحت إشراف دولي، ليس بهدف نزع الإشراف من جانب السلطات السعودية على الحرمين وإدامتهما وتطوير الخدمات المقدمة للحجاج والمعتمرين فقط وإنما من أجل أن يكون لها حق النقض على أي قرار يراد اتخاذه بما يؤّمن أهم ركائز الدين الإسلامي وهو التوحيد، وذلك عن طريق تحويل الحرمين إلى معرض لصور المعممين الفرس وكأنها أصنام جديدة تحيط بالكعبة من كل جانب، أما بالنسبة للحرم النبوي الشريف فإن أول ما تخطط له إيران وسائر قوى التشيع، هو إزالة قبري صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأرضاهما.
وبقدر ما يمنح وجود بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف في الحجاز من رجحان لمكانة هذه البلاد وتفوقها على غيرها في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على سائر بلاد الأرض، فإنه في واقع الحال يفرض عليها التزامات دينية وسياسية في أعلى درجات المبدئية بما لا يصح معه إنزال السقف عن الالتزام التام بروح الإسلام وما غرسه من قيم وحتمية التناصر بين المسلمين والدفاع عن قضايا الأمة وخاصة تلك التي ترتبط بقضايا لها بعد ديني مقدس، وأن تحتل موقع الريادة في هذا الخصوص دولة مهبط الوحي ومركز دولة النبي والخلافة الراشدة، واستنادا إلى هذه الخاصية فإن المملكة العربية السعودية وكي تستقطب تأييدا عربيا وإسلاميا، فإن عليها تبني قضايا الأمة والدفاع عن مقدساتها وخاصة في فلسطين وقضية المسجد الأقصى.
علينا أن نعترف أن علاقات التحالف أو الصداقة التقليدية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة خصوصا والدول الغربية عموما، فرضت على المملكة تكييف مواقفها على نحو لا يؤدي إلى تصادم مع الغرب، واستغلت الولايات المتحدة ما تكوَن لديها من قناعات من أن السعودية لا تستطيع الخروج على شروط الصداقة المحكومة باتفاقيات ثنائية، لأن المملكة بحاجة إلى الدعم السياسي ومظلة الحماية العسكرية الأمريكية، وهذا ما دفع بالولايات المتحدة إلى مساومة المملكة ومحاولة مقايضة مواقفها العربية والإسلامية بما تحصل عليه من وعود غير مؤكدة التطبيق في كثير من الأحيان بضمان أمنها من الأخطار الخارجية أو العمل معها بتنسيق خاص في معظم الملفات التي تهم المنطقة، وذلك عندما تجد الولايات المتحدة نفسها بين خيار دعم الموقف العربي تجاه إسرائيل أو مواصلة دعمها المفتوح لإسرائيل، لأننا نعرف أن الموقف الأمريكي محكوم بقوة من جانب الحركة الصهيونية واللوبيات الإسرائيلية.
لقد استغلت الحركات السياسية والدينية المتطرفة مواقف المملكة من القضية الفلسطينية خاصة، سببا لشن حملة كراهية منسقة ضدها فنشأت الحركات الراديكالية التي وبدلا من توجيه مساعيها لضرب المصالح الصهيونية، فإنها وجهت فوهات بنادقها إلى دول عربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
4 – فلسطين:- لا نريد الإطالة في الحديث عن فلسطين، فالأمر تمت الإحاطة بكل جوانبه أولا لطول عمر المشكلة وثانيا لوجود عقول فلسطينية نيرة لم تترك زاوية فيها إلا وسلطت عليها الأضواء الكاشفة، ولكن أريد أن أطرح وجهة نظر في هذه القضية وبسطور معدودة، لقد كانت سياسات النظام الرسمي العربي المتماهية مع الموقف الأمريكي وبالتالي مع وجهة النظر الإسرائيلية، وخاصة المواقف السعودية والتي لم تدخر وسعا في تقديم العون للفلسطينيين وللعرب من خلال الدعم العربي لدول خط المواجهة، لكن بلدا مثل إيران يحاول توظيف أية ثغرة في الموقف العربي من القضية الفلسطينية للتسلل منها وطرح نفسه كقوة وحيدة مدافعة عن الحق العربي في وقت تخلى فيه العرب أنفسهم عن أقدس قضية معاصرة وتنازلوا للعدو عن حق لا يملكون حرية التصرف فيه، هذا السلوك ألحق بالدول العربية وخاصة السعودية خسارة سياسية لم يكن بالمستطاع معالجة سلبياتها.
إن المكانة الدينية للمملكة التي لا تضاهيها مكانة أخرى، يمكن أن تتحول إلى مركز قوة اقتصادية وتوفر فرص عمل كبيرة للمواطنين ومصدر دخل كبير للبلاد، فيما لو تطورت الخدمات المقدمة للحجاج والمعتمرين، الذين يمكن أن تتضاعف أعدادهم عدة مرات فيما لو توفرت الإمكانات التي يحتاج إليها زائر والديار المقدسة، وهذه الثروة غير القابلة للنضوب، لم تتحول حتى الآن إلى مصدر يعتد به للدخل القومي.
2 – للمملكة العربية السعودية مساحة كبيرة ولها إطلالتان بحريتان الأولى على الخليج العربي والثانية على البحر الأحمر، ومع أن معظم أراضي المملكة أراض صحراوية إلا أن مثل هذه الأراضي يمكن أن تكون قوة حماية ذاتية عالية القيمة أمام تقدم قوات العدو داخل أراضيها، ومن خلال هذا الاتساع الجغرافي والساحل الطويل تستطيع المملكة نشر قواتها على طول أراضي البلد وعرضه وإقامة قواعد جوية وبحرية تتخادم فيما بينها من أجل تحقيق أعلى درجات التنسيق والتكامل فيما بينها.
3 – تتوفر ثروات طبيعية هائلة في المملكة يأتي النفط في مقدمتها حتى الآن، ولكن هناك ثروات مكتشفة لم يباشر باستثمارها كالذهب واليورانيوم ومعادن أخرى لا تقل أهمية عما سبق، كما أن التوسع باستخدامات الطاقة المتجددة من الرياح وحركة المد والجزر والطاقة الشمسية يشكل بوابة الانتقال نحو الاقتصاد المتعدد الموارد وعدم الاعتماد على النفط، ويمكن توظيف هذه المصادر لتوليد الطاقة الكهربائية وإقامة محطات تحلية المياه لغرض التوسع في المشاريع الزراعية ومحطات الثروة الحيوانية.
إن من حق أي بلد في العالم أن يتحكم بما يمتلك من مصادر طبيعية إنتاجا وتسعيراوتسويقا، ومن حق أي بلد أن يستخدم ما لديه من مصادر طبيعية كسلاح سياسي لتقوية مركزه التفاوضي وحصوله على أفضل العروض سواء في عقود البناء والتنمية أو في القضايا السياسية الوطنية والقومية، غير أن المراقبين يؤشرون على أن المملكة التي سيبق لها أن استخدمت النفط كسلاح سياسي عندما شاركت بفرض عقوبات على الغرب بسبب مواقفه المساندة لإسرائيل أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، توقفت تماما عن التلويح باستخدام هذا السلاح بل تعدت ذلك إلى التعهد بعدم استخدام النفط كسلاح في أية معركة سياسية تتعلق بقضايا المملكة أو القضايا العربية، ربما تريد المملكة أن توجه رسالة لشعوب الدول المستهلكة أنها لن تكون سببا في أزمات اقتصادية دورية ترهق اقتصادات العالم وتلحق ضررا بالدخل الفردي الذي سيتضرر من ارتقاع أسعار الطاقة، لكن الإكثار من الحديث عن نزع ذاتي لهذا السلاح سيحول قوة القرار الذاتي إلى يد الطرف الآخر من المعادلة، يمكن أن يكون للحديث عن استخدام النفط كسلاح من جانب بلد منتج كبير للنفط أن يستدرج مواقف عدائية له، لكن المملكة تستطيع الأخذ بأحد خيارين بديلين الأول هو التزام جانب الصمت كي لا تفقد قدرتها على المناورة في هذا المجال، وثانيا عليها التوقف عن تأدية دور المنتج البديل الذي يغرق السوق أو يمارس الضغط على الدول الأخرى لمنعها من التلويح باستخدام النفط كسلاح.
4 – من حسن حظ المملكة العربية السعودية أنها لا تجاور بلدا غير عربي وخاصة مثل إيران، ولأن جميع الدول المجاورة لها دول عربية فهذا يخفف من توترات العلاقات مع الجيران إلى حدود بعيدة.
ثانيا - نقاط الضعف:-
1 – عدد السكان القليل لا يتناسب مع مساحة الجغرافيا أو الدور الاستراتيجي الذي ترسمه المملكة لنفسها إقليميا ودوليا، إن عدد سكان المملكة لا يؤمن ما يكفي من الرجال في القوات المسلحة للدفاع عن الوطن والأمة، كما أن حاجات البلد من الأيدي العاملة لكافة الفعاليات الاقتصادية الحالية أو المستقبلية تبقى محل تساؤل، وبإمكان المملكة معالجة هذا النقص باعتماد خطط بعيدة المدى لتشجيع الزيادة السكانية بما يتناسب مع غزارة الموارد والسعة الجغرافية والحاجات الدفاعية، ووضع تصور استراتيجي لما يجب أن يكون عليه عدد السكان على المديين المتوسط والبعيد، مع مرونة تشريعية بتجنيس العرب خاصة والمسلمين عامة مع مراعاة عدم الإخلال بالواقع الاجتماعي والموروث الثقافي للبلاد، ولا شك أن نسبة السكان المحدودة قياسا بمساحة البلاد وبما تمتلك من ثروات، تؤدي إلى إحداث خلل مؤكد في التنمية البشرية، وقد عانت دول الخليج من نقص عدد السكان قياسا إلى حجم الفعاليات الاقتصادية، مما أضطرها إلى جلب العمالة الأجنبية وخاصة من إيران وشبه القارة الهندية والدول الآسيوية الأخرى مما أدى إلى شيوع ثقافات وممارسات غريبة عن طبيعة المجتمع العربي، هذا فضلا عن تجنيد الأيدي العاملة الإيرانية في مهمات مرتبطة بطبيعة النظام السياسي القائم في طهران، ولكن الأمر أخذ بعدا خطيرا بعد وصول الخميني للسلطة في إيران، إذ أصبحت الجالية الإيرانية جنودا مجندة لخدمة مشروع تصدير الثورة، وأثناء الحرب العراقية الإيرانية تحول الإيرانيون في منطقة الخليج العربي قوة اقتصادية احتياطية لنظام الحكم الإيراني، ثم هذه الجالية وأثناء فرض العقوبات الاقتصادية على إيران بسبب برنامجها النووي وزعت الأدوار على أفرادها وخاصة كبار التجار ورجال الأعمال والبنوك التابعة لهم وخاصة في دولة الإمارات العربية إلى موردين للتكنولوجيا التي كانت تفتقدها إيران بسبب العقوبات، وكذلك تحولت البنوك إلى جهات ممولة للعقود والصفقات غير المباشرة بين الشركات الدولية وإيران، غير أن تحول الكثير من أبناء الجالية الإيرانية إلى عناصر فاعلة في الخلايا النائمة، كان أخطر ما أفرزته تجربة الجالية الإيرانية في الخليج العربي.
كما أن الانتقال من عصر إلى آخر بسبب تضخم الثروة، أدى إلى بروز حاجة ملحة إلى افتتاح المزيد من المدارس والجامعات والمستشفيات، وبسبب عدم توفر العدد اللازم من المعلمين والأساتذة الجامعيين والأطباء أصبحت الاستعانة بالأجانب أمرا لا مندوحة عنه، مما يعني تسليم ملف بناء الإنسان عقليا وجسمانيا بأيد غير محلية مع كل ما يمثله ذلك من تهديد للهوية الوطنية العربية والإسلامية ويجنح بالبلاد نحو شواطئ قد تجتاحها أعاصير سياسية أو فكرية.
ومن أجل ذلك يجب أن يكون التعامل مع الجاليات العربية تعاملا مستندا إلى مبادئ الإسلام الحنيف واحترام كرامة الإنسان الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" وهذا يجعل منهم كتلة سكانية متفانية في خدمة البلد الذي احتضنهم وقدم لهم فرص العيش الكريم.
4– إن المملكة العربية السعودية لديها من مقومات النهوض الاقتصادي المتعدد المحاور وخاصة في مجالات الصناعة والصناعات الثقيلة التي تعد عمادا لنهضة حقيقية، إن مرحلة توطين التكنولوجيا تعد الخطوة الأولى لأي بلد يريد أن ينهض بدور استراتيجي محوري، فلا يجوز أن تكون مستلزمات القوة العسكرية (التي هي عماد الدور المشار إليه آنفاً)، قوة مستوردة من الخارج وتخضع لشروط سياسية بشأن استخداماتها أو إعادة تصديرها أو نقلها لطرف ثالث، ولهذا فإن إقامة صرح صناعات عسكرية يجب أن يأخذ أولوية من دون أن يعني ذلك إهمال التكنولوجيا للأغراض المدنية وإلا فسوف نكرر أخطاء التجربة السوفيتية والكورية الشمالية.
إن تنويع مصادر الدخل القومي بزيادة مساحة الرقعة الزراعية مع تطور تحلية مياه البحر، وإقامة سدود في المناطق التي تتساقط فيها أمطار غزيرة، ومشاريع إعادة تدوير مياه الصرف، والبحث عن مواطن المياه الجوفية، يعد الخطوة الأهم لتوفير الأمن الغذائي للسكان والمقيمين والحجاج والمعتمرين، وإفلات المملكة من أخطر أدوات الضغط على الدول المستقلة من جانب الدول المنتجة للغذاء والتي ترى أهمية في تصديره لا تقل عن نظرة الدول المستوردة للحصول عليه.
5 – تركز الصناعات النفطية وموانئ التصدير على سواحل الخليج العربي وفي متناول أقصر الصواريخ الإيرانية مدى، وربما يكون لتأثيرات علم النفس السياسي تأثيراته البالغة على السلوك السياسي والتردد في اتخاذ الموقف المطلوب خشية من احتمال إقدام إيران على ضرب قاعدة الصناعة النفطية في البلاد، ولا شك أن إقامة مدن صناعية على البحر الأحمر وتوسيع الطاقة التصديرية من النفط الخام لميناء ينبع يعد واحدا من أهم الردود على الطيش الإيراني في النظر إلى هشاشة الحماية الطبيعية للمنطقة.
6 - مضيق هرمز: لم تستغل إيران قضية لابتزاز العالم ودول المنطقة، كما فعلت مع قضية مضيق هرمز وتكرار تهديداتها بإغلاقه بوجه الملاحة الدولية، وربما كان لمثل هذه التهديدات عند إطلاقها أول مرة تأثيرات سيئة سريعة جدا على المزاج السياسي العام للدول المنتجة للنفط في منطقة الخليج العربي، وعلى الدول المستهلكة للنفط وارتفاع أسعار الخام على نحو استثنائي، ولكن تكرار التهديدات مع عجز مؤكد عن وضعه موضع التنفيذ، أدى إلى إفراغه من قيمته الأمنية والسياسية، لذلك فإن واقع الأشياء يقودنا إلى افتراض أن هناك بدائل لكل دولة من دول العالم، لتنزع فتيل أية عبوة ناسفة تهدد أمنها القومي، فطالما أن مضيق هرمز سلاح نفسي بيد إيران، فيجب نزعه منها بكل الوسائل، والتوسع السعودي بتصدير نفطها عن طريق البحر الأحمر، يشكل خطة محكمة وحتمية لتجريد العدو من أحد أبرز أسلحته.
6 – وجود أطراف داخل مجلس التعاون الخليجي تنظر إلى دور الأخ الأكبر الذي تمارسه المملكة بعدم الرضا بل والقلق، وربما يعيد إلى الذاكرة نظرة الكويت والسعودية نفسها وسائر دول مجلس التعاون الخليجي إلى العراق بعد خروج العراق منتصرا من حرب الثماني سنوات مع إيران، وهو القلق الذي تم التعبير عنه من جانب تلك الدول بممارسة ضغوط اقتصادية عرضت أوضاع العراق الخارج لتوه من الحرب إلى أزمات أثرت على مداخيل العراق في حينه، وإذا ما التقت رؤى أطراف دولية تخطط بأعصاب باردة وضمن رؤية استراتيجية لبسط الهيمنة على أصقاع الأرض، مع رؤى إقليمية بعضها عربي قصير النظر إلى حدود غير مقبولة، مما قد يؤدي إلى ضلوع بعض هذه الأطراف "لا تقدر أنها موضوعة على لائحة مشروع بلقنة المنطقة" في مخطط تفكيك المملكة العربية السعودية لمجرد أنها لا تشعر بالارتياح لدورها أو لوجود عقّد قديمة في العلاقات معها وهذا يخص الأطراف العربية، أو ما تخطط له إيران بالتعاون والتنسيق الأمريكي الإيراني الذي يختفي وراء دخان كثيف من التضليل الإعلامي، للهيمنة على المنطقة وانتزاع الدور القيادي للعالم الإسلامي من المملكة.
ساحات اختبار الإرادة السعودية في مواجهة خطط الأعداء
تواجه الاستراتيجية السعودية الجديدة تحديات كثيرة، ولها ساحات اختبار لجديتها في امتلاك الإرادة السياسية الحرة في إمضاء ما تراه متطابقا مع مصالحها الوطنية وأمنها الوطني والأمن العربي، ويمكن إجمال هذه الساحات بكلمات موجزة تعبر عن خطط مضادة تعتمدها أطراف دولية وإقليمية مهما استعرضت التباين فيما بينها، فإنها تلتقي جميعا على حرص مؤكد في ألا تظهر قوة عربية قادرة على استقطاب التأييد الشعبي لها، وأهم ساحات اختبار إرادة المملكة السياسية هي:-
1 – سوريا:-على الرغم من كل المآسي التي عانى منها الشعب السوري جراء ما واجهه من بطش وتنكيل من جانب سلطة طائفية مدعومة بقوى تحمل موروثا ثأريا ضد العرب، إلا أن الثورة السورية أسقطت الخطاب السياسي والإعلامي الذي اعتمدته إيران منذ وصول الخميني إلى السلطة عام 1979 وأذرعها في الساحة العربية، عن فلسطين والتحرير وخط الممانعة، فقد أكدت ردود فعل حزب الله اللبناني منذ الأيام الأولى للثورة السورية التي اندلعت في آذار 2011، أن هذا الحزب اختار الموقف الطائفي على حساب كل ما رفعه سابقا من شعارات التحرير ووظفها لزيادة رصيده الشعبي عربيا وإسلاميا، وجعل منه سببا لنشر التشيع بعد أن جعل من حرب 2006 ستارا لفكرة أن التشيع رديف للمقاومة ورديف للتحرير على خلاف مذهب أهل السنة والجماعة.
ولما وصل التدخل المباشر لحزب الله اللبناني إلى جانب نظام بشار الأسد إلى الفشل في تحقيق هدفه بإنقاذ النظام من السقوط، كان لا بد لإيران من أن تأتي بنفسها وبكل ما لديها من قوة مادية وبشرية وتضعها في خدمة النظام، ليس حبا به أو دفاعا عن المراقد الشيعية كما زعم في البداية، ولكن لأن الاستثمار السياسي في سوريا يعد استثمارا ناجحا لجعل الإطلالة الإيرانية على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط حقيقة راسخة يمكن توظيفها في أي حوارات أو مفاوضات من أجل تعظيم الموقف التفاوضي الإيراني في لغة المساومات السياسية على ملفات إيرانية صرفة لا شأن لها بالوضع في فلسطين أو دعم خط الممانعة.
ومع الوقت كأنت المواقف الإيرانية تخرج من مخابئها وتظهر للعلن لتؤكد أن هدف إيران هو إعادة الإمبراطورية الفارسية التي كانت تتحكم بالشرق القديم، كما أعلن عن ذلك أكثر من مسؤول إيراني كبير من دون تردد، ومنذ الأيام الأولى حصل فرز واضح في الموقف الرسمي العربي، معظم الدول العربية وقفت إلى جانب الشعب السوري في ثورته التي يسعى من خلالها للتخلص من حكم الأقلية الطائفية ورهن إرادة الشعب السوري لولاية الفقيه وبدء خطوات جادة لنشر التشيع في مركز الخلافة الأموية وعاصمة الخلافة، بل تجاوز الإيرانيون كل الحدود عندما نقلوا ممارساتهم الشاذة إلى المسجد الأموي في دمشق.
ربما أدى تحسس بعض الدول العربية من دور الإخوان المسلمين في سوريا، إلى فرملة لحجم الدعم المفترض تقديمه للثورة، إلا أن هذا الأمر أمكن تجاوزه نسبيا بسبب إجراء مقارنات صامتة داخل النظام الرسمي العربي، بين الخطر الفارسي الإيراني وما يمكن أن يسببه قفز الإخوان المسلمين للسلطة في سوريا من مخاطر مفترضة، وهنا لا بد من أن تساؤلا يطرح نفسه بقوة، هو لماذا ساهم النظام العربي الرسمي وخاصة الخليجي في إيصال التشيع إلى سلطة الحكم في العراق مع كل ما يمثله ذلك من أخطار حقيقية على الوطن العربي، في حين نراه يتردد في دعم ثورة الشعب السوري بسبب مخاوف لم يتأكد خطرها من الإسلام السني، أم أن هناك تماهيا بين النظام الرسمي العربي والقبول الأمريكي خاصة بالتشيع السياسي كقوة حاكمة ويراد لها أن تتوسع، مع خشية تصل حد الهلع من التسنن السياسي، وربما كان للضغط الخارجي على النظام الرسمي العربي وخاصة الأمريكي الدور الأهم في رسم مسارات للدعم العربي للثورة السورية.
لم يستوعب النظام الرسمي العربي أنه إن خضع للإملاءات الخارجية تحت لافتة الحفاظ عليه من مخاطر غير محسوبة، فإنه في واقع الحال سيضع نفسه في قلب الإعصار وسيجد نفسه مضطرا لتقديم تنازلات متلاحقة تفرغه من كل خطوطه الحمر، وبالتالي فإن الخطر الآتي من التنازل عن الحقوق أو من الخضوع للضغوط الخارجية، هو أكبر بكثير من اختيار طريق المواجهة والتصدي للأخطار التي تهدد الأمن القومي ليس لقطر ما فقط وإنما التي تهدد الأمن القومي العربي الجماعي.
إن سوريا أحد أهم خطوط الدفاع العربي عن الوجود القومي بوجه المشروع الفارسي وأي تراجع أو خضوع للابتزاز الخارجي القاضي بتقنين الدعم المقدم للثورة السورية سيؤدي إلى إفقاد المملكة العربية السعودية لمصداقيتها في تبني أي مشروع عربي لمواجهة التوسع الإيراني الذي يتحرك بمرونة غير مسبوقة مستغلا التمزق العربي والصمت الدولي.
لقد كان المفروض عدم الخضوع العربي للإرادة الأمريكية الهادفة إلى التحكم بإرادة الثوار السوريين وبتوجهات الثورة السورية وتدجينها، عن طريق منع تزويدهم بالسلاح النوعي المطلوب لمواجهة سلاح الجو الروسي والأسدي أو الدروع وطائرات الهيلوكوبتر التي دمرت الكثير من المدن السورية وقتلت الآلاف بالبراميل المتفجرة، لأن هذا الخضوع أدى إلى إطالة أمد معاناة الشعب السوري وإحداث دمار غير مسبوق وعلى سائر المستويات وإزهاق أرواح مئات الآلاف وتشريد الملايين.
تتعرض سوريا لخطر التقسيم الذي تدعمه الولايات المتحدة وروسيا، وذلك من خلال التقائهما على تقديم الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي للحركة الكردية السورية، ويبدو أن لغة الفتوحات الاستعمارية قد أطلت برأسها من جديد عندما أعلنت الحركة الكردية السورية المسلحة أنها ستضم محافظة الرقة "عربية" إلى منطقة الإقليم الكردي الذي تريد إعلانه مستقبلا، ويعد هذا النهج عودة إلى عهود السيطرة الاستعمارية في رسم الحدود بين الدول والأقاليم عبر منطق القوة المسلحة، ما حصل في العراق من بدايات تفكك وحدة الدولة العراقية بعد حرب الخليج الثانية، ومواجهة الأخطار المحتملة بالبيانات الختامية للمؤتمرات العربية والدولية، لم يعد جائزا الاعتماد عليه لدفع الخطر على وحدة البلدان العربي التي إذا انفرط عقد إحداها فلن يتوقف الانهيار إلا بعد الإجهاز عليها جميعا.
2 - العراق:- على الرغم من أن العراق تم احتلاله إما نتيجة لتواطؤ من جزء من النظام الرسمي العربي، إلا أن ما آلت إليه أوضاع العراق وتسليم البلد لإيران عن وعي وإرادة سياسية من جانب الولايات المتحدة، لم تدفع النظام العربي الرسمي إلى اتخاذ موقف دفاعي عن النفس بوجه أخطار بدأت تسفر عن وجهها الحقيقي ونواياها في التمدد على حساب الأراضي العربية وخاصة من تم الإعلان عنه مرارا من أن الهدف النهائي لإيران وأدواتها المحلية، هو الاستيلاء على بيت الله الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وتغيير العقيدة الدينية للبلاد وفرض التشيع مع كل ما يحمله من بدع وخرافات وأحقاد تاريخية خبيثة.
هناك مبدأ عسكري استراتيجي يقول إن الدفاع عن الأرض الحيوية يتم أمامها وليس فوقها، ولهذا فإن موقف المتفرج على ما يحصل من حرائق في العراق بانتظار وصول النار لقياس القدرة على إطفائها تعد مغامرة حمقاء لن تمر من دون أن تترك حروقا وتقيحات على الأمة، فالمطلوب أخذ زمام المبادرة والمبادأة وعدم ترك العدو يحصن مواقعه الجديدة ويكريس المكاسب التي حققها بالقضم التدريجي أو الالتهام دفعة واحدة، فأعلى درجات الاستعداد ولأسوا الاحتمالات هو ما يجنب الأمم والشعوب أخطارا يمكن أن تعصف بكيانات ودول وتحذفها من خريطة التاريخ والجغرافيا.
لقد انهارت منظومة الدولة في العراق، ولا شك أن عدوى الفوضى تنتقل في البيئة الصالحة أكثر من قدرة الصلاح والكمال على ذلك، وهذا يدعو العرب وخاصة الخليجيين، والمملكة العربية السعودية على الوجه الأخص، إلى أن تضع الخطط لدرء الخطر عن نفسها وتجربتها السياسية والاقتصادية.
إن مواجهة المشروع الإيراني المتفق عليه مع إرادة دولية تدعهما الولايات المتحدة والذي تمت صفحته الأولى باحتلال العراق وصفحته الثانية بتوقيع اتفاقية البرنامج النووي الإيراني مع الدول الكبرى، تتطلب الخروج على "النص" الذي وضعه كاتب السيناريو للشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وهذا قطعا يتطلب إرادة سياسية محسوبة وتقبل كثيرا من المجازفة المدروسة للخروج على تقاليد سياسية تم اعتمادها لعشرات السنين بافتراض أن الضمانات الدولية هي الحامية لأمن الدول التي لا تحسن الدفاع عن نفسها وربما لا تريد ذلك، لقد أكدت الولايات المتحدة ومنذ خروجها من حدودها الجغرافية بعد الحرب الأولى ثم تحكمها بكثير من المسارات الاستراتيجية بعد الحرب الثانية، أنها صديق وحليف غير مضمون وتجاربها في هذا الميدان واضحة، لذلك فإن البديل عن ذلك هو الاعتماد على النفس وتطوير تحالفات إقليمية سواء في نطاق جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي أو مع تركيا لاسيما أن تركيا أثبتت أنها أقل الدول تدخلا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهنا نأتي على الخطوة المطلوبة للقضاء على الفتنة في مهدها في العراق، وهي التوصل إلى موقف مشترك في مواجهة النفوذ الإيراني والمليشيات الشيعية التي تتحرك بموجب إملاءات إيرانية، وبالتالي فإن مواجهة حالة الفوضى في العراق تتطلب تحديد جدول بالأولويات التي يجب أن تركز على وحدة العراق فعلا لا قولا، وعدم الاكتفاء بإصدار بيانات تدعو إلى وحدة العراق، وإذا لم تجد دول مجلس التعاون الخليجي استجابة من أصدقائها الغربيين فيجب تطوير موقف عربي موحد تجاه الدول الكبرى، ومن أجل تلافي النقص في قدرة الضغط العربي، يجب تطوير العلاقات مع كل من مصر وتركيا والأردن وأداء دور أكبر في إزالة الخلافات البينية بين الدول العربية.
أما بالنسبة لإيران فإن التأثير على مواقفها المعادية للعرب، تتلخص في تحرك ملفات الأقليات القومية والمذهبية لأنها لن تتوقف ما لم تشعر أنها أضعف بكثير مما تظن.
3 – اليمن:- علّقت جماهير عربية عريضة على "عاصفة الحزم" التي بدأت في 26 آذار 2015، آمالا أعرض منها وأكبر بكثير، لأنها جاءت في أسوأ ظروف التردي العربي مع شعور متزايد بأن الوطن العربي بات أسهل الأهداف لتفريغ شحنات الكراهية، وأن سلبية المواطن العربي تجاه ما يحيط به كانت توفر إغراءً بالغا لكل من لديه القوة لاختبار قوته في منطقة تم إفراغها من عناصر قوتها وثقتها بقدراتها، لذلكفقد جاءت عاصفة الحزم في وقت أحوج ما تكون الأمة لرافعة معنوية تنتشلها من الحفرة العميقة التي أوصلها إليها تردد النظام الرسمي العربي إزاء التحديات.
ولكن عاصفة الحزم التي قادتها المملكة العربية السعودية، كانت تختزن في جوفها أهدافا لتيارات مختلفة، فما كانت تريده السعودية لم يكن ليخطر في بال دولة الإمارات العربية المتحدة، على الرغم من أن تلك العاصفة أبرزت موقفا موحدا في إطاره الخارجي وإن كان منقسما على نفسه، فبعد ما حصل من تطورات في الساحة اليمنية نتيجة الضربات التي وجهها طيران التحالف إلى الانقلابيين، طفت على السطح خلافات لا يمكن أن تخفى على المراقب الحصيف، وربما كانت تلك الخلافات انعكاسا لضغوط الحلفاء الكبار وحصرا الحليف الأمريكي، الذي لم ينظر إلى الحوثيين في أي وقت مضى على أنهم خطر ماثل أو محتمل على الرغم من شعارات الموت لأمريكا المستنسخة عما يجري في طهران، والمراقبون يعرفون أن ست حروب سابقة شنها نظام علي عبد صالح على الحوثيين كانت تتوقف قبل خط النهاية بقليل أي عندما تلوح بالأفق علامات هزيمة مؤكدة للحوثيين، عندها تلتقي مصلحة أمريكية إيرانية مع علي عبد صالح، ولاحظ المراقبون أن بوصلة المعارك كانت تتحول فجأة من الحرب على الحوثيين إلى حرب على تنظيم القاعدة وكأنها لعبة كل يوم في اليمن السعيد، ما لاحظناه في عاصفة الحزم أن تحرير تعز كان قرارا محظورا من أطراف لعل في مقدمتها دولة الإمارات العربية وذلك لتعارض تحريرها مع وجود الخزان البشري الواعي من حيث النوع والهائل من حيث الكم إذا ما تم توظيفه لأمكن تحرير اليمن بكاملها من دون حاجة إلى وجود عربي أو أجنبي وعندما تم رفع الحصار عن تعز تحولت البوصلة نحو المكلا في تحرك لافت للنظر، واستعاد الحوثيون قدرتهم على محاصرة تعز كي تبقى سلاحا تفاوضيا مع الحكومة، المطلوب كان استدراج السعودية إلى حرب استنزاف طويلة في اليمن، لنزع دورها القيادي في المنطقة والتلويح المستمر في إبقائها تحت خطر جدي من الشمال حيث المليشيات الشيعية والجنوب حيث يفرض الحوثيون وجودا على الحدود الجنوبية للمملكة، ومن الشرق حيث الأسطول الإيراني وأقلية شيعية جاهزة لتجنيد نفسها خدمة للمشروع الإيراني، أما البحر الأحمر فبوجود الحوثيين في اليمن وقواعد إيرانية مستأجرة من أرتيريا، فإن إيران تستطيع التفاخر بأنها أحكمت الطوق على بلاد الحرمين الشريفين.
إن التخيط لمعركة طويلة في اليمن خيار خاطئ، كان يجب حسم المعركة بأقصر وقت وتفويت الفرصة على التدخلات الإقليمية والدولية التي تسعى لتوظيف كل أزمة من أجل الكسب السياسي.
وسوم: العدد 693