فصل الدعوي عن السياسي خطر !!!
بعد أن أخفقت مؤامرة فصل الدين الدولة ، وثبت اختيار الشعوب الإسلامية للإسلام مذ شامَت قليلاً من الحرية؛ إبان الربيع العربي ، رأينا الأعداء ينثرون كنانة مؤامراتهم ويعجمون عيدانها مرة أخرى ، فرمونا بداهية أمرّ مما سبقها، تحيج الدعاة إلى عقود من العمل الدعوي ؟ .
لقد خرج علينا ومن بيننا من ينادي بفصل الدعوي عن السياسي، فيقول : ,,إن الإسلام كبير كبير. ومن العبث أن يحاول تنظيم مهما ملك من إمكانات أن يحتويه’’، وهي كلمة حق أريد بها باطل، مع العلم أنه ما من جماعة أو حزب يدعي أن كل ما لديه من فكر وتنظير هو رباني المصدر جملة وتفصيلاً .
إن صلاحية الشريعة الغراء لكل زمان ومكان وإنسان، أمر معدود من المعلوم من الدين بالضرورة ، وعليه انعقد إجماع الأمة .
وبداية لابد من الوقوف ملياً عند ما سطره علماؤنا، عن فهم شمولية الدعوة لأنها ببساطة شمولية الإسلام :
{ قال شيخ المفسرين الطبري في تفسير آية آل عمران 71، [ ولكن كونوا ربانيين ] "" الربانيون عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدنيا، ... وقال مجاهد : وهم فوق الأحبار، لأن الأحبار هم العلماء ، والرباني هو الجامع إلى العلم والفقه، البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم"" .
ويقول الإمام القرطبي في تفسيره عند للآية الكريمة :
[ ولكن كونوا ربانيين] .. والرباني هو الذي يجمع إلى العلمِ البصرَ بالسياسة؛ مأخوذ من قول العرب : ربَّ الناسَ يرُبُّهم: إذا أصلحهم وقام بهم فهو رابّ ، ورباني على الكثير"" . 1/146
والطعن على الدعاة أيضاً أمر قديم، قاله قوم شعيب، كما ذكر القرطبي، عند تفسير آية هود91 [ يا شعيبُ ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ]، قال القرطبي: إنهم يتهمونه : " أنه قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها " . 9/61 }. (من كتاب الاجتهاد التطبيقي للراشد بتصرف) .
ويقول الإمام ابن تيمية :
"" فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا"" الفتاوي 20/254 .
ومن المختصين المعاصرين فضيلة الدكتور الشيخ فتحي الدريني في كتابه خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم :
"" أن العمل السياسي عنصر أساسي في مفهوم العبادة في الإسلام، فكيف يتأتى فصله عنه إلا إذا أمكن فصل العبادة عن الدين ؟ .
هذا فضلاً عن أن عناصر العقيدة في الإسلام، بما هي منطلق للحقيقة الدينية فيه، وما يستلزمه من المفهوم العام للعبادة: قد غدت حقائق نفسية توجه التدبير السياسي داخلاً وخارجاً، وتكفل بالتالي سداد هذا التوجه شطر غاياته الإنسانية، كما تضمن تجنب مواقع الزلل ، والظلم ، والشطط ، والطغيان """ .
ويكمل الشيخ الدريني الكلام عن الفقه السياسي بقوله :
"" من آثار واقعية التشريع السياسي الإسلامي : أنك تراه قد انعكس على الفقه الاجتهادي في التدبير السياسي عملاً ، فكان لهذا الفقه الذي صدر عن أئمة فقهاء السياسة من أمثال الماوردي و الغزالي والطوسي وابن الربيع، وغيرهم صدى الواقعية ، أو القابلية للتطبيق .
هذا شيء. وشيء آخر هو أن هذا الفقه ، على الرغم من كونه مستخلصاً من مبادئ نظرية مجردة ، قد ساعدت على إنضاجه التجربة السياسية التي عاناها هؤلاء الأئمة بحكم مناصبهم ، فقد كانوا رجال دولة من الطراز الأول،- أمراء ووزراء – "" ص 15/16 .
وعلماء الإسلام على مر تاريخهم كان دورهم الأبرز كما تذكر كتب التراجم: هو النصيحة- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ، وهذا شبيه بما يعرف حديثاً بسلطة المجتمع المدني. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل مؤسسات المجتمع المدني في الغرب ينحصر عملها في الشق الاجتماعي ولا علاقة لها بالسياسة، أم حلال عليهم حرام علينا ؟ .
ونقطة أخرى يثيرها المستعجلون للفصل، أنهم يريدون بالفصل تحديداً فصل التنافس الحزبي الحامل للخطأ غالباً- لأنه اجتهاد بشري- عن قدسية المبادئ والمثل ، كأن الشريعة الغراء لم تحكم الناس من قبل ، ولم تقدم حضارة عجزت البشرية إلى حد الآن أن تجئ بمثلها !!! .
والأعجب أن من قدّم هذا الطرح، هم ممن يقدمون النظرة المقاصدية بزعمهم ،على النظرة الفقهية، وهم بهذا العمل يضربون الفهم المقاصدي في الصميم، فالوسائل ، باتفاق علماء المقاصد، تأخذ حكم المقاصد نفسها .
والتنظيمات من جماعات وأحزاب ،على تباين أسمائها هي من وسائل العمل الدعوي، و العلماء متفقون على أن
الوسيلة تسقط بسقوط المقصد. يقول المقري المالكي في القواعد: "" فالوسائل تسقط بسقوط المقاصد؛ إذ هي بالنسبة للأصل كالصفة للموصوف، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف"" القواعد 1/242 .
ومتى تنهض شرعية حزب أو جماعة إذا سقط مستنده الشرعي.
وفي النفس شيء من تعميم الفكر المقاصدي، الذي هو بلا أدنى شك سجية وهبة من الله لبعض من أحكموا وسائل الاجتهاد، لكن اللافت للنظر هو الإغراق في المنحى المقاصدي، وبالتالي إخراجه من دوره القياسي إلى تعميم يصطدم بالنصوص، وغالب الظن أنها فكرة خبيثة فرختها أوكار المستشرقين، لضرب الدعوة من الداخل .!! .
ومما قعده الإمام الشافعي، واتفق عليه سواد علماء أهل السنة والجماعة، كما نقل الزركشي عن القفال :أنه
"" لا حادثة إلا ولله حكم اشتمل القرآن على بيانه؛ لقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء}"" البحر المحيط
6 /223 .
و بنظرنا نحن الدعاة المنتمين قلباً وقالباً للنظرة الفقهية، التي تمثل تراث الأمة، نقول :لا يدعو لفصل الدعوي عن السياسي إلا جاهل لم يعلم أن الشريعة فيها من الأدلة الظنية ، وأدلة ما لا نص فيه مثل : [ الاستحسان ، وسد الذرائع، والاستصحاب، والمصالح المرسلة ...] ما تكفل لفقهاء الأمة في أي وقت، وفي أي مكان الاجتهاد البشري وفقاً للواقع ، وكم من اجتهادات كان لها مكان في حل مشكلات واجهت المسلمين في عصر من العصور، ومجتهدو كل عصر جديرون باستنباط حلول شرعية لمشكلات عصرهم .
والسياسة المعاصرة بشقيها : الشمولي والحر؛ تحاول في أي بلد تكوين الرأي العام وفقاً لبرامجها، هذا الرأي يقوم على أفكار يراد لها أن تتحول لقناعات ومن ثَم إلى سلوك ، فما أجدر أن تكون هذه الأفكار مستمدة من الشريعة الغراء !!! .
ألا يعلم دعاة فصل الدعوي عن السياسي، أن أول مخاطره هو دفع عجلة الإرهاب، عن طريق الفهم الضيق لفئات من الشباب، أمام توسع يصل لدرجة التفلت ممن ينتهجون الخط السياسي فحسب، ولا ينبغي توقف النظر الآن على من هم يتصدرون المشهد ،فهم – على كل ما يصدر عنهم - قد تربوا في بيئات لها بعض الأعراف الإسلامية إنما الخطر المحدق ممن سيأتون من بعدهم بلا خلفيات شرعية .
وسوم: العدد 698