وسقط العالم علي أعتاب حلب
" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "[1]
من المفارقات العجيبة أن يكرر التاريخ نفسه بصورة مذهلة حد التطابق في بعض أحداثه ، فها نحن في سنة 656هـ/ 1258م حين سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية كاملة في يد التتار وذبحوا فيها أكثر من مليون مسلم وظلت جثامينهم في الشوارع والأسطح والبيوت دون أن تجد من يدفنها ، ثم تأتي المجزرة التي لا تقل بشاعة عن قتل مليون نفس ، وهي تدمير مكتبة بغداد تلك التي كانت تمثل أعظم مكتبة في زمانها حملت فكر الحضارة الإسلامية في ستة قرون ماضية بما تحويه من كتب في كافة العلوم وألقوا بها في نهر دجلة لتصير معبرا لمن يريد عبور النهر ماشيا علي قدميه لتضيع علي الإنسانية كلها الحق في ذلك الكم من العلوم ، وتتخذ بغداد بعد ذلك منطلقا لغزو الشام ( سوريا ) بعد تولية الوزير الشيعي الخائن وهو الوزير مؤيد الدين العلقمي الشيعي بعد أن باع الخليفة وغرر به بتخفيض عدد جنود الجيش حتي يثبت للتتار أنه رجل " سلام " لا رجل حرب فلا يستفزهم بالدخول معه في حرب ، واستجاب الخليفة الضعيف له حتي انتبه بعد فوات الأوان فلم يجد جيشا يقاوم به بعد أن شغل جيش الخلافة في أعمال الزراعة والتجارة ، ودخل في حرب سريعة سقط علي إثرها واقتيد هو وأهله بالسلاسل ليقتلوا جميعا وتسبي النساء جميعهن ، لتستسلم المدن واحدة بعد الأخرى طواعية ، وتبقي حلب وحدها في حالة من الصمود الأسطوري بعد أن قرر أهلها عدم التسليم وأغلقوا أبوابها لكن بعد حصار طويل سقطت حلب وفتحت الأبواب بعد وعد من هولاكو قائد التتار بالأمان إن هم استسلموا ليبيدهم بعد ذلك عن بكرة أبيهم لتصير حلب مدينة أشباح ، وبعد سقوط حلب استسلمت بقية مدن الشام ثم تنطلق منها لتحتل أجزاء من تركيا ثم فلسطين غير أنها لم تتعرض للمناطق التابعة للحكم الصليبي في الأراضي الفلسطينية المقدسة فاحتلوا نابلس وغزة ولبنان وأذاقوا المسلمين فيها الويلات وأبادوا مدنا كاملة فلم يبقي فيها ثمة أحياء وأثاروا الذعر واليأس فلي قلوب المسلمين حتى صارت إمبراطورية هولاكو وحدها والتي تمتد من أقاليم خوارزم التي تضم كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، ومرورًا بإقليم فارس ( إيران ) وأذربيجان، وانتهاءً بأرض العراق وتركيا والشام وتنتهي بلبنان وفلسطين وتقف علي حدود مصر بمسافة خمسة وثلاثين كيلو متر فقط حتي ألقي في قلوب المسلمين أن التتار لا يمكن هزيمتهم وأنه ما عليهم إلا الاستسلام حتي يضمنوا الحياة ، تمزقت الخلافة العباسية ، وولي أمر بعض المدن حكاما خونة كانوا من أعوان التتار علي بلادهم .
أما الحال في مصر فلم يكن يختلف كثيرا عن الوضع في بلاد العرب المحتلة ، حيث كان الصراع بين المماليك علي إرث أميرهم عز الدين أيبك الذي يعتلي ابنه الطفل الصغير إمارة مصر بعد مقتله ومقتل شجرة الدر ، فتضعف البلاد وينقسم الجيش وتتواتر أنباء اجتياح التتار وأفعالهم للمسلمين في مدنهم فيقوم قطر بخلع الأمير الصغير الذي كان قائما علي شأنه محاولا استعادة وتوحيد الجيش وتوحيد كلمة المماليك الذين هزموا منذ ما يقرب من العشر سنوات الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا وأسرهم إياه في المنصورة ليؤول الأمر في النهاية لسيف الدين قطز ، تتواتر أنباء التتار ، وتنتشر حكايات الرعب في قلوب المصريين من الفارين إلي البلاد ويعرفوا الأهوال التي تعرضت لها بلاد المسلمين وما فعله التتار في البلاد التي احتلوها وهي أفعال تفوق في بشاعتها أي خيال إجرامي ، ليتسلم الناس لليأس ويصاب الجميع بالهزيمة النفسية ويطالب الأمراء قطز بإرسال وفد لهولاكو لإعلان استسلام مصر ، وأنهم لا يريدون إلا السلام وليس في نيتهم الحرب أو المقاومة ، غير صوت واحد فقط هو من خرج من وسط هذا الركام ، هو صوت شيخ العلماء " العز بن عبد السلام " رفض الاستسلام وحث قطز علي الجهاد وألهب في الناس الحماسة . في هذا الوقت يرسل هولاكو أربعة من الرسل برسالة استعلاء مهينة يطلب فيها من المصريين الاستسلام التام دون شرط فيقرر قطر بعد استشارة مجلسه أن يقوم برد قاس علي تلك الرسالة وذلك بذبح الرسل الأربعة وتعليق رقابهم علي أبواب القاهرة لبث الأمل والشجاعة في قلوب الناس .
وصارت الأمة تملك روحا جديدة تسري فيها ، روح شيخ وقائد ، شيخ لا يخشي في الله لومة لائم ولا يقف علي باب حاكم ولا يملك شيئا من متاع الدنيا يكبله ، وقائد يستعصم بكتاب الله ثم بالحنكة والذكاء الخارق والعقيدة الخالصة التي تزلزل الجبال والتي لا تكتفي بتطهير بلاده من الفسدة والمفسدين وإنما بتأمينها بالقوة اللازمة لتحقيق الإصلاح الذي يريد ، الرغبة في الإصلاح وحدها لا تبني أمة ، إنما الأخذ علي يد المستبد والفاسد والخائن ثم العدالة التي ترقق قلوب البسطاء فتدفعهم لبذل النفوس رخيصة في سبيل عزة الدين وتحرير الإنسان ، العدالة التي انتهجها قطز برعاية شيخ العزة أن يبيع الأمراء كل ما يملكون لحاجة البلاد لتجهيز جيش المسلمين دون فرض ضرائب جديدة علي الفقراء الذين أثقلتهم الأنظمة المتتالية فأحنت ظهورهم فقرا وحاجة وكراهية للحكام ، وبدأ القائد الرباني بنفسه فقام ببيع كل ممتلكاته وكذلك فعل الأمراء من بعده وتم تجهيز جيش المسلمين ليبدأ الزحف بخطة حربية ذكية وجعل في مقدمة الجيش تلك الفئة القوية التي قاتلت الصليبيين فاكتسبت الخبرة الكافية لاجتياز المعركة الفاصلة بقيادة قطز الذي قاتل بنفسه وسط جنوده رافعا شعار الذي ألهب الحماسة في نفوس الجنود " وا إسلاماه " ، وفي عين جالوت بفلسطين ينكسر الجيش الذي لا يهزم ويقتل هولاكو فيلوذ ما تبقي من الجيش المهزوم بالفرار غير أن المسلمون يطاردونهم حتي فناءهم عن آخرهم وذلك في رمضان من العام وكان هذا في يوم الرابع والعشرين من رمضان سنة 658هـ/ 1260م
إنها العقيدة الحية المحركة لقلوب الناس حين تحميها القوة اللازمة للمؤمن كي يحمي نفسه ويحمي غيره " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون بها عدو الله وعدوكم " ، فلن تنتصر دون إعداد وقوة إيمانية ومادية ولو قضيت العمر في المساجد ساجدا باكيا عابدا ، إنها سنن الله التي لا تحابي أحدا .
وتتوحد مصر وفلسطين ثم تتطهر الشام ويتم مطاردة التتار في كل ربوع بلاد العرب حتي ينجلي التتار تماما وتنقشع الغمة عن بلادنا ويستعيد المسلمون مجدهم من جديد وذلك في فترة لا تتجاوز سنتين من بداية الاجتياح التتري .
وها هو العام ألفين وستة عشر ، نفس المنطقة ، نفس الاجتياح التتري ، بنفس الصورة الآثمة ، يجتاح بغداد وحلب وفلسطين واليمن ويريد القاهرة ويمهد لذلك بإشغال جيشها في التجارة والصناعة وترك الساحة خالية في سيناء لينبت فيها اليأس والإخفاق والاستسلام ، وها هي الممالك الصليبية تتحد مع الشيعة وتتفق مآربهم في دولة الإسلام ، وها هم حكام الضعف يرفعون الرايات ويسلمون مفاتيح المدن مختارين مؤثرين السلامة والكراسي علي دماء شعوبهم ، ها هو نفس المشهد يتكرر بغير تغيير يذكر وتأتي ليلة سقوط أخري للعالم المحاصر لحلب انتقاما من صمودها لتفتح الأبواب عنوة بالقصف الجوي وبصمت مريب من العالم ، بل بدعم مقنن منه ، ليذبح الرجال والأطفال وتسبي النساء وتقتل شر قتلة بعد تعذيب بشع تشيب له الرؤوس ، وها هو اليأس يدب في ربوع المسلمين ويجأر الناس بالدعاء وما من إجابة ، فالأسباب والسنن الإلهية لا بد من أن تعمل ، والقائد المظفر يجب أن يولد ، والشيخ الملهم يجب أن يصدح بكلمته في الآفاق والإعداد الكامل ، عالم يفتي بتسليح المسلمين وتوحيد الجيوش ومن قبلها تغيير عقيدتها التي بدلت بدلا من إفتاء النساء بقتل أنفسهن اتقاءا للقتل والاغتصاب ، إن العالم الذي يفتي امرأة بقتل نفسها أو يفتي أب بقتل زوجته وابنته ما هو برجل ولا تصح فتواه ، إنما يصح أن الأمة كلها بالإعداد الكامل ، الإعداد اللازم ، الإعداد قدر الاستطاعة .
إن النصر ليس مستحيلا ، وإنما نحن لم نسعي إليه ولم ندفع ثمنه ، والعدو ليس قويا إنما نحن الضعفاء ، وتلك ليست نهاية الأمة إنما هي جولة لنبدأ من جديد ، سقط الجميع علي أبواب حلب حين التقت المصالح الصليبية مع خيانة الشيعة مع الإرادة الصهيونية التي لم تخسر رصاصة واحدة وحصلت علي كل ما تريد من تمزيق للمسلمين وغرس الخونة علي رؤوسهم كحكام لا يهمهم سوي المكوث علي كراسي الحكم لأطول فترة ممكنة حتي لو كان الثمن إسقاط بلادهم وتسليم مفاتيحها دون شروط مسبقة . والله أكبر والعزة للإسلام .
[1] آل عمران 26
وسوم: العدد 701