ما بعد حلب ؟
هناك مدن تكثف الوضع الدولي – الإقليمي في لحظات سياسية محددة وتعطي مؤشراً عن اتجاهاته: ميونيخ أيلول (سبتمبر) 1938 حين أعطى المؤتمر المنعقد هناك مؤشراً عن روح تنازلية للبريطانيين والفرنسيين أمام الألمان شجعت هتلر على التهام بولندا بعد تشيكوسلوفاكيا المقدمة له في ذلك المؤتمر كطعم إرضائي، وكانت قراءة ذلك المؤتمر ما شجع ستالين على عقد المعاهدة مع هتلر وزاد من نزعة النأي بالنفس الأميركية عن مشكلات القارة العجوز الموجودة منذ مبدأ مونرو (1823)، ولولا هجوم الألمان على الاتحاد السوفياتي والهجوم الياباني على الأسطول الأميركي في بيرل هاربور عام 1941 لما شاركت موسكو وواشنطن في الحرب العالمية الثانية.
تشبه حلب كانون الأول (ديسمبر) 2016 ما كانته ميونيخ: أفشلت حلب اتفاقين بين موسكو وواشنطن في 15 تموز (يوليو) وفي 9 أيلول. في جلسة مجلس الأمن الدولي في 31 كانون الأول أيدت واشنطن «إعلان موسكو» الصادر قبل أحد عشر يوماً الذي كان حصيلة اتفاق روسي- تركي تم في أنقرة حول الوضع في شرق حلب ثم التحقت به إيران. لا يمكن تفسير الدينامية الروسية- التركية الدافعة لقطار التسوية العسكرية الأمنية في حلب من دون الانزياح التركي نحو موسكو مع لقاء بوتين- أردوغان في موسكو في 9 آب (أغسطس) الذي تم بعد أسابيع من محاولة الانقلاب الفاشلة التركية والذي ترجم لاحقاً في الصمت الروسي عن العملية العسكرية في جرابلس وما بعدها، ثم في الصمت التركي عن ما جرى عسكرياً في شرق حلب. هناك عامل ثانٍ في هذه الدينامية الروسية- التركية يتمثل في انتخاب دونالد ترامب، الذي تختلف رؤيته للدور التركي وللدور الإيراني عن باراك أوباما، مع تطابق بينهما تجاه الدور الروسي: لو انتخبت هيلاري كلينتون بدلاً من ترامب لما جرى لشرق حلب ما جرى في الأربعين يوماً التي سبقت خروج مسلحيه الخميس 22 كانون الأول. عند ترامب هناك سيبة ثلاثية أميركية- روسية- تركية لمنطقة الشرق الأوسط مع اتجاه عنده إلى تحجيم أوروبا وإيران وباكستان والخليج في الإقليم. يُنظر إلى باكستان وإيران من خلال هاجس واشنطن الصيني باعتبارهما حليفين طبيعيين لبكين وممراً لها نحو الشرق الأوسط، ويُنظر إلى أوروبا من خلال منظار عداء المهاجر الأميركي للقارة العجوز الذي عبر عنه أولاً في مبدأ مونرو، فيما يُنظر إلى الخليج من منظار أيديولوجي فيه الكثير من الرهاب الغربي من الإسلام. عند الرئيس الأميركي المنتخب هناك سيبة رباعية أميركية- يابانية- هندية- روسية هدفها تطويق الصين. ولا تكتمل السيبة من دون تلك السيبة الثلاثية حيث استدعاء أنقرة هو مثلما فعل جورج بوش الابن عام 2007 من أجل لجم إيران بعد تحالف أميركي- ايراني في العراق المغزو والمحتل عام 2003 وقفت ضده أنقرة، وربما أبعد، من أجل استخدام الإيغور، كعنصر قومي تركي، في زعزعة الوضع الداخلي الصيني.
تظهر طهران من خلال حلب كانون الأول 2016 بوصفها أضعف مثلث «إعلان موسكو»، وهذا يعني أن الوقائع العسكرية الميدانية المحلية لا تترجم دائماً وبالضرورة في سوق العلاقات الدولية- الإقليمية. هذا ما كان ليتم لو استمرت دينامية التوافق الأميركي- الإيراني البادئ مع اتفاق فيينا حول البرنامج النووي في 14 تموز (يوليو) 2015 ولكان خامنئي لو استمرت تلك العملية، إما أقوى ذلك المثلث أو ثانيه بعد بوتين. تدخل الولايات المتحدة في ثنائية اعتبارية للسلطة بين الانتخاب وتسلم الرئيس الجديد تجعلها حصيلة الرئيس الذاهب والرئيس المقبل.
من الواضح ازدياد التباعد الروسي- الإيراني والتركي- الإيراني مع ازدياد التقارب الروسي- التركي في ظل انتخاب ترامب، فيما اجتمعت موسكو وطهران على دعم أردوغان عشية فشل انقلاب 15 تموز بينما كان أوباما على مسافة أبعد منهما تجاه رئيس تركيا التي تمثل الجناح الجنوبي الشرقي في حلف الأطلسي- الناتو.
أظهرت حلب تلك السيبة الثلاثية الأميركية- الروسية- التركية وكانت الترجمة الحقيقية ليس في البنية الثلاثية لـ «إعلان موسكو»، بل في نيويورك عبر قرار مجلس الأمن الرقم 2336 الذي حدد الطريق إلى «جنيف» عبر «آستانة»، ومن الواضح أن طهران ليست على الخط نفسه مع موسكو وأنقرة تجاه مسألة وقف إطلاق النار وحيال إطلاق عملية التسوية السياسية انطلاقاً من حلب: من المؤكد أن تكون لتلك السيبة الثلاثية تأثيرات في إضعاف أكراد سورية المرتبطين مع حزب العمال الكردستاني الداخل في مجابهة شاملة مع أنقرة، وفي تقوية مسعود برزاني بأربيل ضد خصومه بالسليمانية وجبال قنديل، وهو الحليف الكردي لتركيا الذي يمكن أن يجتمع ترامب وأردوغان على تقويته مع السنّة العرب العراقيين والشيعة العراقيين المتمايزين عن طهران من أجل إضعاف النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين.
السؤال الآن: إذا كان اتفاق الكيماوي السوري بين موسكو وواشنطن في 14 أيلول (سبتمبر) 2013 قاد إلى «جنيف2» ثم أجهض الجنين في كييف، وإذا كان الدخول العسكري الروسي إلى سورية برضا أميركي في 30 أيلول 2015 قد أنتج «جنيف3» ثم أجهض الجنين في حلب عند الكاستيلو والراموسة في تموز- آب 2016، وهناك الكثير من المؤشرات على أن هجوم المعارضة المسلحة على الراموسة كان هدفه إفشال جولة لـ «جنيف3» كان مخططاً لها أن تعقد في آب، كانت الترجيحات بأن كيري ولافروف سيفرضان فيها تسوية معدة مسبقاً مثلما جرى في «اتفاق الطائف اللبناني» و «اتفاق دايتون الخاص بالبوسنة»، فهل ستقود «حلب الشهر الأخير من عام 2016» إلى «جنيف4» عبر آستانة، وهل من الممكن أن لا يجهض ذلك الجنين كسابقيه؟
وسوم: العدد 703