حلب ... ليست نهاية الثورة السوريّة
انتصار النظام على الجهاديين والمجموعـات القــليــلة من الفــصائل المعارضة، في حلب، وسيطرته على غالبية مناطق محيط دمشق أخيراً عبر التسويات الإخضاعية، لا يمكن اعتباره في أي شكل انتصاراً على الثورة السورية.
اعتمد مسمى الثورة السورية كناية عن ذاك الحلم والطموح الجارف بالحرية الفردية الذي ملأ صدور الملايين ربيع ٢٠١١، حين خرج كثيرون منهم يتظاهرون في شوارع المدن والبلدات احتجاجاً على استبداد النظام وقمعه، ورفضاً لحكمه الطغياني ورؤاه وشخصياته، وقمع كل من يعارضه بوسائل شنيعة متنوعة بما فيها التعذيب الجسدي.
لكن، مع الأسف، هذه الجموع الحالمة بالحرية التي أَسَّستْ ما عُرف بالحراك السوري لم يطُل بها الأمر حتى بدأت تغيب عن مجالات الرؤية بفعل حلول جماعات مسلحة محلّها، جاءت حاملة سلاحاً فوضوياً، ومبرِّرة وجودها بتقديم ادّعاءات باطلة كحماية التظاهرات وغير ذلك من التبريرات التي كانت تخفي نيتها إطاحة الحراك السلمي وفرض سيطرتها العنفية. فاستخدمت لذلك وسائل عدّة لإقصاء مناضلي الحرية، نساء ورجالاً، عن ساحات الصراع، مدعومة من أهم المنابر الإعلامية العربية. غير أن الدعم الأهم جاءها من النظام، حيث وجد فيها ضالته المثلى بتشكيلها كتائب مسلحة بمسمّيات إسلامية، وباعتمادها خطاباً صراعياً يقوم على وجوب مواجهة النظام لكونه، وِفْقَهم، نظاماً علمانياً أو نصيرياً أو غير إسلامي. إذ أيقن النظام أنه كلما كَبُرَت هذه الحركات على حساب المعارضين والمناضلين السلميين فالصورة تتغير لمصلحته، وفي النهاية يصبح مفاد الموقف الدولي منه، كما هو حاصل الآن، أنه يواجه قوى إرهابية.
فهو يعلم، كما الكثيرون، أن الحركات الإسلامية تحمل بنيوياً في أحشائها أجنة داعشية يمكن أن تلد أصحاء أقوياء عندما تتوافر الظروف المناسبة. لهذا عمل على توفير كل ما يستطيع من عوامل تنامي الحركات الجهادية والحركات الإجرامية، فكان يختار أهدافه العسكرية بدقة، بحيث لا يتسبب بخسائر كبيرة لها، بل كان يقصف المناطق السكنية الواقعة تحت سيطرتها، فتكون محصلة الضحايا من المدنيين أضعافاً مضاعفة قياساً بالجهاديين.
وفي المسار الآخر غير الإسلامي، والذي تجسد بالمعارضة الخارجية وبعض المجموعات المسلحة الصغيرة من غير الإسلاميين، مُسخت الثورة من كونها «ثورة حرية» إلى مجرد «ثورة على بشار الأسد»، وهذه لا تحتاج الى أفكار وأخلاق وسياسة، فكل ما تحتاجه كان عبارة عن «هوجة»، هوجة جامعة لأي شخص من شاتمي الأسد أو الراغبين في حمل السلاح حتى لو كانوا من قاطعي الطرق أو تجار الدم أو الحثالات، أو الطائفيين والسرّاقين.
هذه المسارات كانت تتعارض بشدة وتتناقض مع رؤى طلائع الانتفاضة السورية ممن اعتبروا أن «إسقاط النظام ليس هدفاً في حد ذاته» (عنوان محاضرة ألقيتها في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ربيع ٢٠١٢)، بل كانت غايتهم إقرار الحريات الفردية وإقامة نظام ديموقراطي على أساس المساواة بين جميع السوريين، معتبرين أن إزالة النظام باتت أمراً ضرورياً باعتباره أهم عقبة أمام تحقيق أهدافهم.
هذه الأوضاع دفعت في شكل قسري جميع مريدي الحرية، نساء ورجالاً، الى النأي بأنفسهم عن ميادين الصراع. فلملم هؤلاء أحلامهم وآمالهم ورؤاهم ووضعوها مع جراح هزيمتهم في «صرة» واحدة وخزّنوها في أرواحهم منتظرين صمت المدافع، علّهم يتمكنون حينها من إعادة صوتهم إلى السَمَاع، ومن استعادة مكانتهم ومقامهم الذي علاه مقام «المسلح الثائر» بغض النظر أكان جهادياً أم قاطع طريق.
الآن وقد خفتت أصوات المدافع والطائرات، من المتوقع أن يعود هؤلاء النساء والرجال إلى حقل الرؤية، فمريدو الحرية لم يستنفدوا أهدافهم ولا أحلامهم، بل ولا شجاعتهم، لأنهم لم يرهنوها بنتائج نزال ميداني عرفوا منذ البداية أن نهايته خراب ودمار وموت وزيادة في فقدان الحرية. فالتزم بعضهم الصمت، والبعض الآخر أعلن موقفاً رافضاً الحركات الجهادية، وهم، خلافاً لما يتهمهم به خطاب «الثورة الجهادية» لم يكونوا مناصرين للنظام، أقلّه لم يناصروه في طغيانه، بل ارتضوا الصبر على هذا الطغيان خوفاً من طغيان مقبل أبشع منه، متجسداً بالحركات الإسلامية المسلحة، أو بالسلاح المتأسلم (للمناسبة، أعتذر لجميع الذين أنكرت عليهم سابقاً هذا التخوف).
إن غالبية هؤلاء النساء والرجال الذين أتحدث عنهم، أصحاب حلم الحرية، ما زالوا موجودين داخل البلاد، في الحقل الاجتماعي الذي يسيطر عليه النظام، ضمن الشرائح الاجتماعية التي قيل أنها موالية للنظام، كالدمشقيين والعلويين، وليسوا موجودين في المكان والزمان الاجتماعي لقوى المعارضة الرسمية خارج البلاد. بل إن الغالبية الساحقة من السوريين في مناطق سيطرة النظام، وهي المناطق الرئيسة في البلاد، بمن فيهم الموالون وغير الموالين، تعرفوا إلى كلمة الحرية وإلى معناها. وغالبية هؤلاء لا تنكر حق شخصها أو حق غيرها بالحرية والكرامة، ولا ترضى بعدم استحقاق نظام ديموقراطي تكون فيه قادرة على اختيار قياداتها جميعها، وعلى مساءلة جميع مسؤولي دولتها، وعلى محاكمة أي مسؤول فيها ينتهك الأمانة الموكلة له. فهؤلاء جميعهم يقدّرون قيمة الحرية، ويعتبرونها قيمة عليا، لكن أكثرهم ينظر إليها كحرية مُرْجَأة إلى حين زوال التهديد الجهادي. هذا التهديد جعل النظام يبدو لهم، على رغم بشاعته التي يقرون بها، أفضل من جميع البدائل الإسلامية التي طُرحت خلال السنوات الست الماضية، وليس فقط «داعش» و»جبهة النصرة» (جبهة فتح الشام حالياً)، بل جميع المجموعات الجهادية من دون استثناء.
غالبية هؤلاء السوريين سيعتبرون انتصار النظام في حلب انتصاراً عسكرياً على مجموعات جهادية مسلحة، ولن يتعاملوا مع ما جرى على أنه انتصار للطغيان على حقهم في امتلاك حرية التعبير عن آرائهم من دون أن يكون لأي سلطة الحق في معاقبتهم على ذلك، أو انتصار على حقهم في أن يجتمعوا ويتناقشوا في جميع المواضيع العامة، أو انتصار على حقهم في ألاّ يكون في مقدور أجهزة المخابرات اعتقالهم في شكل تعسفي أو تعذيبهم كما عادتها. هذا الإدراك عند العموم السوريين، ولو كان إدراكاً بسيطاً، يشكل بيئة خصبة لاستئناف ثورة الحرية، باستفادة من التجربة المخفقة السابقة، مؤكدة مجدداً أن هدفها الرئيس هو الحرية الفردية لجميع السوريين، وأن إنهاء النظام السوري لا يفوق أهمية إنهاء القوى الطغيانية الأخرى كالمجموعات الجهادية أو التنظيمات الإسلامية.
لكن أمام هذه الإمكانية المرتقبة لا بد من إعادة طرح سؤال بديهي: هل تحتاج الحرية الفردية إلى ثورة؟ أو بصياغة أخرى: هل تحتاج الحرية الفردية في سورية إلى ثورة بعد السنوات الست الماضية؟ وأقصد هنا بالثورة الكفاح الاحتجاجي المسلح أو العمل الجَمْهري الشارعي.
ربما ليس من الضروري محاولة الإجابة عن الصيغة الأولى للسؤال باعتباره سؤالاً إطلاقياً معرفياً، لكن محاولة الإجابة عن الصيغة الثانية تجعلني أرى أنه من الصعب أن نجد بين مريدي الحرية والحالمين بها من يرى إمكانية استخدام السلاح كوسيلة لإقرار الحرية، بخاصة أن جميعهم بات يدرك الآن أن الاحتكام إلى السلاح ليس مضموناً، فقد ينتصر النظام، كما حصل الآن، وتُدمر البلاد ويتهشم المجتمع. أما إن كان الصراع سلمياً ميدانه القول (بكل ما تعنيه كلمة القول)، فإنه كائناً مَن كان المنتصر فلن تتأذى البلاد أو أهلها. لكن اختيارهم الميدان السلمي لن يتيح لرافضي العمل المسلح هؤلاء اعتماد النضال الجَمْهَري السلمي كوسيلة ثورية، فغالب الظن أنه مهما كانت طبيعة السلطة في المرحلة المقبلة، والتي من المفترض أن تكون سلطة انتقالية بتشكيل وإشراف دوليين، وبترتيب روسي - أميركي مع مراعاة تركيا (السنية) وإيران (الشيعية)، فلن تسمح هذه السلطة بقيام التظاهرات أو الاعتصامات بذريعة وجود قوى وخلايا إرهابية كثيرة في البلاد.
إذاً، في مواجهة ذلك، سيترتب على عارفي حقهم بالحرية الفردية من السوريين أن يبتكروا وسائل نضالية جديدة غير ثورية تكون صالحة لإقرار حريتهم المُرْجَأة، وسائل تقوم على آليات الضغط على السلطة وكذلك على الدول التي باتت وصية على سورية وعلى سلطاتها. أي عليهم أن يقوموا بثورة من دون وسائل وأدوات ثورية. فستكون ثورتهم ثورية بمؤداها ونتائجها وليس بأدواتها وأعمالها. فإنّ تَمَكّنهم من إقرار الحرية الفردية للفرد السوري سيكون من أهم المنجزات الثورية التي حصلت لسورية منذ الاستقلال عن الاستعمار. إذ بتحقيقهم هذا المنجز سينزعون جذر الاستبداد السلطوي الذي لم تعرف سورية سلطة سواه. فالحرية الفردية هذه لا يمكن أن تقتصر على حرية التعبير فقط، بل ستتحقق معها لازمتها العضوية، أي: حرية الاعتقاد، إن كان اعتقاداً دينياً أم سياسياً أم ثقافياً، أي حرية امتلاك الرأي الفردي وليس الرأي الجمعي الأقوامي.
ما زال السوريون يحتفظون بحقهم الطبيعي التاريخي بثورة حداثية تخرجهم من عهود التخلف وتطلقهم أفراداً أحراراً: ثورة حرية بوسائل وأدوات غير ثورية.
* كاتب سوري ورئيس «تيار بناء الدولة».
وسوم: العدد 704