الحق في الإنصاف
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
يتعرض بعض الأشخاص أحياناً لصور من الاعتداء بدرجات متفاوتة وأصابع الاتهام تتجه صوب الأنظمة الحاكمة التي دأب البعض منها بالتعدي على تلك الحقوق أو الحريات لاعتقاده إن السماح بها يهدد عروشها وديمومة حكمها، وتلعب المنظمات الإرهابية وبعض الخارجين على القانون دوراً مماثلاً مع من لا يتفق معهم عقائدياً أو من يقف بالضد من مصالحهم المشبوهة، ليصبح قسم من ضحاياهم الأبرياء الذين بطريق الصدفة في الزمان والمكان الخاطئ الذي يشهد انفجاراً أو مواجهات مسلحة، والسلوك الأكثر خطورة لتلك الجماعات هو الخطف والاتجار بالبشر أو المخدرات، فيكون جّل ضحاياهم من الطبقات الأكثر فقراً في المجتمع.
إلا أن هذه التطبيقات ليست هي النهاية، فهناك نوع آخر لا يقل عنها خطورة يتمثل بالجزاءات الأحادية التي تتخذها إحدى الدول ضد دولة أخرى فيقع شعب بأكمله ضحية التناحر السياسي والاقتصادي والأمني بين تلك الدول، ولا أدل على ذلك من واقع العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من دول العالم التي يدفع فيها المدنيون فواتير الاقتتال بين الجماعات التي تمثل ارادة الدول الأخرى، بل الأخطر مما تقدم إن بعض الاعتداءات التي طالت المدنيين كانت تحت مظلة مجلس الأمن وقراراته المتسرعة المبنية أحياناً على أسس غير موضوعية وتفتقد للعدالة، ومع هذه الشرائح الواسعة التي ترزح تحت تبعات التجاوزات غير المبررة نتساءل عن حقهم في الإنصاف؟ ومن يتحمل مسؤولية تعويضهم عما قاسوه من ألم أو لحق بهم من أضرار مادية ومعنوية؟
من الطبيعي أن نقول إن الدولة هي المسؤول الأول عن إنصاف هؤلاء الضحايا، ونقصد بذلك كل السلطات العامة وبداية الطريق هي الاعتراف بهذا الواقع المؤلم والتفكير بالسبل الممكنة للحد من الآثار السلبية للانتهاكات وإعادة إدماج الضحايا من جديد في المجتمع بشكل آمن، ومن وجهة نظر محضة يشكل الاعتراف بالحق بداية موفقة للانطلاق في فضاء رحب من الحلول التشريعية والقضائية والإجراءات الإدارية اللازمة بدءاً من التأسيس لمؤسسات عامة أو خاصة كمنظمات المجتمع المدني المتخصصة بمعالجة الآثار السلبية التي اشرنا إليها أعلاه، أضف لما تقدم ضرورة الشروع بمحاسبة المتسبب بالانتهاك أيا كان وصفه ومنصبه أو عنوانه، فحقوق الضحايا وان استردت لن تكتمل صورتها المثلى ما لم يتم الوقوف على الأسباب التي قادت للانتهاك ومحاسبة المتسبب والمستفيد.
ونجد إن الحق بالإنصاف يقوم على أساس متين يعود للقرآن الكريم، إذ يقول تعالى في سورة النساء الآية (148) "لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا"، وورد في سورة الإسراء الآية (33) "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا"، وقال الامام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر "أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ".
وعلى الجانب الآخر دأبت الإعلانات والمواثيق العالمية والوطنية المتعلقة بحقوق الإنسان على تأكيد معنى الإنصاف حيث ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1948 المادة الثامنة "لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون" وورد بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 المصادق عليه من قبل العراق بالقانون (193) لسنة 1970 نص المادة الثانية "تكفل الدولة لكل متظلم أن تبت في الحقوق التي يدعي انتهاكها سلطة قضائية أو إدارية أو تشريعية مختصة.... وتلزم الدولة بان تنمي إمكانية التظلم القضائي".
وألقت اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 المصادق عليها من طرف العراق بالقانون رقم (3) لسنة 1994، بالمادة (39) التزاماً على عاتق الدول بان تتخذ التدابير اللازمة لإعادة إدماج ضحايا الانتهاكات وضرورة الحفاظ على صحة الطفل واحترام ذاته وكرامته وقريب من هذا المعنى ما نصت عليه المادة (6) من اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965 وسارت على النهج ذاته المادة (14) من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية لعام 1984 والتي جرى نصها بالآتي "تضمن كل دولة طرف في نظامها القانون إنصاف من يتعرض لعمل من أعمال التعذيب وتمتعه بحق قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب بما في ذلك إعادة تأهيله في أكمل وجه وفي حالة وفاة المعتدى عليه نتيجة لعمل من اعمال التعذيب يكون للأشخاص الذين كان يعولهم الحق في التعويض".
نستشف مما تقدم إن الحق في الإنصاف حق أصيل ومتجذر، بيد إن الأسس التي يقوم عليها ليست دولية فحسب إذ نص الدستور العراقي لعام 2005 بالمادة (132) على الآتي؛ (أولاً: تكفل الدولة رعاية ذوي الشهداء والسجناء السياسيين والمتضررين من الممارسات التعسفية للنظام الدكتاتوري البائد. ثانياً: تكفل الدولة تعويض أسر الشهداء والمصابين نتيجة العمليات الإرهابية وينظم ما ورد بالفقرتين أولاً وثانياً بقانون).
وبالفعل صدرت قوانين عدة تعالج الموضوع منها قانون مؤسسة الشهداء رقم (2) لسنة 2016 وقانون المفصولين السياسيين رقم (24) لسنة 2005 وقانون تعويض المتضررين نتيجة العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والأعمال الإرهابية رقم (20) لسنة 2009 المعدل وهذه القوانين نصت صراحة على تعويض الضحايا بالمال أو بالتعيين في الوظائف العامة واحتساب ما مضى خدمة لكل الأغراض ومنحهم قطع أراضي سكنية وتسهيلات أخرى لإتمام دراستهم وكذلك ذويهم وإعفاءهم من بعض التكاليف العامة، إلا أن ثمة أسئلة يجب أن تطرح هنا؛
هل حققت القوانين المتقدمة الإنصاف الحقيقي للشعب العراقي؟ أو بالأحرى هل تم إنصاف ضحايا القصف والحروب المتكررة قبل وبعد العام 2003 لاسيما ضحايا الأسلحة التي تحوي اليورانيوم المنضب والتي تتسبب الآن بإصابة المئات من العراقيين بأمراض خبيثة لاسيما في محافظة البصرة؟، وهل تم إنصاف الآلاف من العراقيين ممن قضوا في سنوات الحصار بسبب انعدام الغذاء والدواء اللازم؟ هل تم التفكير ولو للحظة بما قاساه الآباء والأمهات وهم يرون فلذات أكبادهم من الأطفال يتضورون جوعاً ولا يملكون لهم ثمن قنينة الحليب؟، هل أنصف الآلاف من سكنة الأهوار ممن تم تجفيف المياه عنهم فتركوا ديارهم وهاموا على وجوههم في أصقاع البلاد يلتمسون سبل العيش الكريم؟ هل فكر أحد القابضين على السلطة بإنصاف النساء والأطفال الذين يعشون في ظروف معيشية لا تطاق وهم يبحثون في مكبات النفايات عن طعامهم وشرابهم؟، وهل تم الالتفات من قبل السلطة الحاكمة في العراق إلى أحوال النسوة والشيوخ والأيتام في دور الإيواء؟
ثمة شك كبير في إن الطبقة السياسية في العراق تعلم إن المواطن المالك الحقيقي للمال العام الذي يتنعم به هؤلاء السياسيون وذويهم في فنادق وبلدان الغرب استلم من وزارة التجارة مادة الرز التالف نتيجة فسادهم وانغماسهم في الملذات وتنصلهم من مسؤوليتهم الأخلاقية قبل القانونية في التصدي للمسؤولين الفاسدين والتغطية على فشلهم، واستبعد أن يعلم هؤلاء إن نسبة لا يستهان بها من الشعب لا يملك قوت يومه ويدعو من الله أن لا يصاب بالمرض لأنه لا يملك أن يدفع فاتورة أجور خدمات المستشفيات والمراكز الصحية المتدنية أصلاً، ولعل السلطات العامة في العراق التي أقسم كل أعضائها على أن يحافظوا على مصالح الشعب بموجب المادة (50) من الدستور تعلم أو لا تعلم ان جل المستشفيات في العراق أوقفت ومنذ أشهر إجراء العمليات الجراحية بسبب عدم توافر مادة التخدير وهي من أبسط المستلزمات في الوقت الذي يدفع فيه أبناء الفقراء شرور داعش والجماعات الإرهابية بصدورهم العارية وهو الأمر الذي مكن السياسيين من الاستمرار بالسلطة ومنافعها وامتيازاتها، ومنها المعالجة على حساب الدولة في أرقى المستشفيات الألمانية والأمريكية، أولم تتكشف أوراق العديد من هؤلاء ممن استغل سلطة منصبه ليجري عمليات تجميل في لبنان لأسنانه أو يعالج التهاب أمعائه في مستشفيات فاخرة وبمبالغ هائلة وتم دفع الفواتير من أموال الشعب.
وبعد كل ما تقدم، كيف يدعي قادة الكتل والأحزاب الإسلام والتدين وهم يقاتلون ليل نهار لزيادة رواتبهم وامتيازاتهم؟ وحين يتبجح البعض منهم بأنه على نهج الإسلام وهو يأكل أموال اليتامى والمحرومين ظلماً وعدواناً تارة بإقرار القوانين التي تقرر المزيد من الامتيازات لهم ولأحزابهم تارة وباستغلال السلطة للانتفاع والتربح تارة أخرى وبالسهر على تدمير أسس السيادة الوطنية بتعمد إهمال الزراعة والصناعة في العراق ليتربح من دخول البضائع الاستهلاكية ويرضي من احتضنوه من الدول والأنظمة على حساب مصلحة الوطن؟! فالناتج المحلي للعديد من الصناعات والمزروعات في تدهور خطير جداً واستمرار اعتماد الموازنة على النفط مع الصراع عليه في أكثر من محافظة سياسة أجاد المتنفذون اللعب على حبالها خصوصاً بعد العام 2014.
وبالتالي نجد إن الحق في الإنصاف حق وواجب بالوقت عينه على كل إنسان وبالخصوص الطبقة الحاكمة، فهو حق من جهة إنصاف الضحية وإعادة الحق المسلوب لأهلة وإعطاء الجميع مكنة التشكي والتظلم ودفع التعويضات لهم بما يجبر الضرر الذي لحق بهم سواء كان مصدر الضرر هو تصرف صادر عن إحدى السلطات العامة عن خطأ أو تعمد أو كان مصدر الضرر هو الأفراد والعصابات الإرهابية والخارجة عن القانون أو كان السبب الدول الأجنبية وتصرفاتها غير العادلة مع الشعب، وواجب على الدولة بمختلف تشكيلاتها العمل على تحقيق أسس الحكم الرشيد العادل القائم على عدالة توزيع الموارد، وكما نوصي أصحاب القرار في العراق بالاتي :-
1- العمل على إرجاع الحقوق المسلوبة للعراقيين ممن أهمل النظام السابق المطالبة بها خلال وبعد حرب الخليج الثانية 1990 وبالخصوص ضحايا الحصار الجائر ممن فقد حياته أو صحته أو أمواله باللجوء إلى الطرق القضائية لمقاضاة الجلادين لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها والركون في ذلك لمحكمة العدل الدولية كونها الأداة القضائية الأكثر اختصاصاً بهذا الموضوع بعد إعداد ملف مفصل عن أولئك المظلومين وفي الوقت الذي يأمر فيه مجلس الأمن الدولي العراق بدفع تعويضات للشعب الكويتي عن غزو النظام البائد لهذا البلد فمن باب أولى تعويض ضحايا الشعب العراقي ومما يؤسف له ان الحكومة العراقية تتناسى هذا الملف ما تسبب بتفاقم الكثير من تلك التبعات فظهرت آثارها على أفراد الأسر في يومنا هذا بشكل الفقر المدقع والأمراض المزمنة والعقد النفسية وغيرها ونود أن نذكر الحكومة العراقية بان كوريا الجنوبية والصين وأرمينيا لازالت إلى يومنا هذا تطالب لضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية من رعاياهم بالتعويض والاعتذار الرسمي على الأقل من اليابان وتركيا.
2- لابد للدبلوماسية العراقية أن تطالب وبالصوت المرتفع من الدول التي أعتدت على الشعب بحجة محاربة النظام البائد بالاعتذار الرسمي ورد الاعتبار الأدبي لاسيما من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأنظمة العربية التي ساعدت وساندت تلك الاعتداءات.
3- النظر لضحايا النظام البائد بعين واحدة فمن فقد حياته بسبب مقارعة النظام أو معارضته السياسية له ليس بأفضل حالاً ممن فقد حياته وأمنه الغذائي خلال ثلاثة عشر عاماً من الحصار المطبق والممارسات اللاإنسانية بحق المواطن الضعيف.
4- يعاني الشعب العراقي الأمرين اليوم من الفساد والمفسدين والانحراف بالسلطة لتحقيق المصالح الحزبية والفئوية والمحاصصة الحزبية والاعتداءات الإرهابية ومن الإنصاف أن يقدم كل المتسببين بذلك للعدالة.
5- فتح الباب واسعاً لتعديل القوانين التي تعرقل حصول المواطن على حقوقه والتخلص من الروتين والإجراءات المطولة المعقدة ومحاسبة المتسببين بذلك والتخلص من براثن التعقيد والتهطل في الجهاز الحكومي.
6- العمل على إنصاف ضحايا الإرهاب في العراق بكل الوسائل الممكنة فمن قتل أو هجر أو نزح أو من أتلفت أمواله هو بأمس الحاجة لمن يخفف معاناته وذويه بالعمل على إقرار نظام عادل للتعويض.
7- أن يأخذ رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء دورهما الطبيعي في متابعة شؤون المواطنين إذ يعبر الدستور عن رئيس الجمهورية بأنه المسؤول عن المحافظة على استقلال البلاد وضمان الالتزام بالدستور فما المانع من ان يتلقى بشكل مباشر عرائض المواطنين ويتابعها بنفسه كجزء من واجباته الدستورية ولم لا يقدم مجلس الوزراء على فتح نافذة اليكترونية على موقع الحكومة العراقية لمتابعة شؤون المواطنين بجدية ممن تعرضوا لأي نوع من الاعتداء.
8- إعطاء القضاء العراقي الأولوية لتلقي الشكاوى من المواطنين إزاء الانتهاكات التي تطال حقوقهم وحرياتهم والقيام بكل التحريات اللازمة للحد من ذلك.
9- زج عناصر القوات الأمنية لاسيما القوات الخاصة التي لها احتكاك مباشر مع المواطنين بدورات تعريفية بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والتبعات القانونية التي يتعرضون لها في حال الخروج عن مقتضى ما تقدم.
10- حماية الزراعة والصناعة العراقية وإنصاف العاملين في هذين القطاعين الأساسيين كونهما مكون رئيس في الاقتصاد العراقي.
11- إقرار نظام رواتب وأجور عادل ينصف الموظف العراقي ويكون تحديد الراتب وفق أسس موضوعية على بقياس المؤهل والجهد الذي يبذله وإنهاء الفوارق غير العادلة والمتمثلة في المبالغة في رواتب موظفي الرئاسات الثلاث دون أن يكون هؤلاء الموظفين متميزين عن أقرانهم في الوزارات والجهات الأخرى بشيء سوى بقربهم من مصدر القرار.
12- إنهاء حالة التكسب على حساب المال العام فبمجرد إعلان النتائج للانتخابات العامة أو المحلية يسارع المجلس النيابي أو المحلي بالتصويت على تخصيص قطع أراضي سكنية متميزة لأعضائه والمبالغة في الامتيازات والحصانات كمنح الأعضاء وذويهم جوازات سفر دبلوماسية ورواتب ومكافأة خيالية دون أدنى مسوغ لهذه الحالة الشاذة من استغلال السلطة للتربح على حساب المصلحة العامة.
وسوم: العدد 712