اللهَ اللهَ في "الأزهـــر الشــريف"!
اللهَ اللهَ في "الأزهر الشريف" عنوان التآخي، ومرآة التعايش، ورمز العلاقات بين الشعوب.
اللهَ اللهَ في "الأزهر الشريف" أول جوامع القاهرة؛ الذي تجاوز عشرات المحن؛ فأُغلِقتْ أبوابه، وضُرِبتْ جدرانه بالقنابل، وسقط في رحابهِ وعند بابهِ مئات الشهداء، ولكنه بقيَ صامداً أمام أحداث الزمن، وخرج من كل محنةٍ أشدّ وهجاً، وأعمق إيماناً، وأعلى هامة!
اللهَ اللهَ في "الأزهر الشريف" الذي أضاء جنبات العالَم؛ فمن أبنائه المعلِّمون والقضاة والمفتون والوعّاظ والأئمة والخطباء والكُتّاب والشعراء والمؤلفون والباحثون والعلماء والرياضيون والطبيعيون والإعلاميون والفلاسفة والثوّار!
اللهَ اللهَ في "الأزهر الشريف" الذي خرجت من رحابهِ أعظم الثورات في تاريخ مصر، وفي رحابهِ تخرج ألمع الرجال في كل علمٍ وفن، ومِن بين أروقتهِ تخرج أقطابُ الشريعةِ والمحاماة والسياسة والأدب والشِّعر والموسيقى.
اللهَ اللهَ في "الأزهر الشريف" منارة العلم الشرعي، وحارس لغة القرآن، ومصنع الدعاة؛ الذي يتخرّج فيه آلاف العلماء والأساتذة والدعاة إلى الله!
اللهَ اللهَ في "الأزهر الشريف" الصامد على امتداد أكثر من ألف عام؛ يصارع الحوادث، ويتصدى لدعاة الباطل، حتى يعيد للشعلة ضوءها الوهَّاج، وللمعرفة مكانها المرموق، ومن ثمَّ غدا الأزهر بحق معقل "الوسطية الإسلامية"!
اللهَ اللهَ في علماء الأزهر وشيوخهِ؛ الذين ملأوا أطباقَ الأرض عِلماً وتسامحاً، وجاهدوا بالقلم واللسان؛ ففي ظل المد الشيوعي، والزحف العلماني؛ لمْ يألوا الأزهريون جهداً في التصدِّي لذاك الزحف المدنس، بلْ ظلوا يخطبون ويُدرِّسون، ويُعلِّمون الناس في القرى والمدن: أصول العقائد، وأحكام العبادات، وآداب المعاملات، ومكارم الأخلاق!
ولِمَ لا؟ فهم ورثة النبوة، وحملة الرسالة؛ هم هداة الخلق، ودعاة الحق، ورسل الخير، ومفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى. وإنَّ وظيفتهم أشرف وظيفة في الوجود؛ لأنها وظيفة النبيين والمرسلين؛ هي الدعوة إلى الله على بصيرة، وقيادة الناس إلى جنات النعيم!
فلم يعرف علماؤه الحزبية، ولا المذهبية، ولا السلبية، ولا التشدد، ولا التنطع، بلْ حاربوا الزندقة والإلحاد، وتصدوا لأمواج التغريب والعلمنة، وسائر الفلسفات والمذاهب التخريبية التي قذفتْ بها مراحيض الغرب! كما انتقدوا الفِرق الضالة الناشزة!
إنه الأزهر الشريف؛ معقل "الوسطية الإسلامية" التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، ولا تنسى الماضي ولا تنعزل عن الحاضر ولا تغفل المستقبل!
وإذا كانت "مصر" قد وضعتها الأقدار في هذا الموقع الإستراتيجي على خريطة العالم، حيث تقع مركز اتصال بين آسيا وأفريقيا ترسل من أشعتها هنا وهناك؛ فإنَّ (الأزهر) قد أدى في هذا المكان دوراً رائعاً عظيم الأثر في نشر الفكر الإسلامي الوسطي.
حيث وقف الأزهر يستقبل الطلاَّب العرب والمسلمين؛ فتقابل في أروقته ومقصوراته الإندونيسي، والمراكشي، والماليزي، واليمني، والسنغالي .. وارتبط الإفريقي والآسيوي والأوروبي في صحنه برابطة المحبة ... وعادوا إلى بلادهم سفراء للعلم والحضارة، يُبلِّغون دعوة الإسلام على أصولها كما تعلموها ودرسوها. ويصبحون همزة الوصل بين مصر وأزهرها وبلادهم المترامية الأطراف.
أجل؛ إنه (الأزهــــر) الجامعة الإسلامية الأولى التي فتحت أبوابها على أوسع نطاق لتتلقى الطلاب من كل فج، ولتقدِّم لهم كل ما تستطيع من عون ورعاية، فتعنى كل العناية بهؤلاء الطلاب الوافدين من شتى الأقطار العربية والإسلامية، كما يقوم الأزهر بإيفاد كثير من خريجيه للخارج للقيام بالدعوة الإسلامية ونشر الثقافة العربية في ربوع العالم الإسلامي، فلم يكن الأزهر معهداً علمياً فحسب؛ بلْ مؤسسة حضارية، ومصدر إشعاع فكرى وثقافي ومبعث حضارة إنسانية، وقلعة حصينة للعروبة والإسلام، وصار علماؤه ورثة الأنبياء بحق!
* * *
لكن؛ على الرغم من كل هذه النجاحات المتواصلة التي حققها الأزهـر الشريف؛ إلاَّ أنه لم يسلم من ألسنة الحاقدين، ولا من أقلام المرجفين-ففي الحقبة الأخيرة، وفي ظل أجواء بعينها- علا ضجيج السفهاء من الناس؛ الذين أصيبوا بمرض إشاعة أجواء الإرهاب الفكري، وإخوانهم الذين لم يستطيعوا الخروج من التابوهات التي صنعوها بأيديهم، وشنقوا أنفسهم بها- لكنَّ الله خيَّب مسعاهم، وأضلَّ أعمالهم، وجعل كيدهم في تضليل!
من أسف؛ ينسى هؤلاء المداهنون؛ أنه كان للأقباط رواق في رحاب الأزهر، يتلقون فيه العلوم المنطقية والشرعية والإسلامية، فالعشرات من مُثقفي القِبط درسوا بالأزهر، منهم: جندي إبراهيم شحاتة، وتادرس بن وهبة الطهطاوي، وإسكندر نظير، ووجيه القليوبي، فرنسيس العتر، وأولاد العسّال، وغيرهم.
وحتى زمن قريب كان الأقباط يدرسون بالأزهر، فميخائيل عبد السيد -صاحب صحيفة " الوطن" درس في الأزهر، ثم انتقل منه إلى مدرسة دار العلوم عندما أنشئت!
كذلك، الزعيم القبطي/ مكرم عبيد- درس بالأزهر الشريف، وهو صغير؛ فنال قِسطاً كبيراً، من العلوم الشرعية الإسلامية، وكان من أثر هذه التنشئة الأزهرية أن حفظ القرآن الكريم، وأتقن اللغة العربية، وكان من بُلغائها، وكان يستشهد بآيات القرآن الكريم في مرافعاته أمام القضاء.. فلم يخسر أيّ قضية، نتيجة ذلك!
ولأنَّ الأزهر كان فاتحاً أبوابه للجميع؛ فقد التحق به المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون؛ لدراسة علوم الشرع والدين واللغة العربية والفلسفة والمنطق، لمدة عامين(1910-1912م).
من أسف؛ ينسى هؤلاء المغرِضون؛ أنه عندما اختلف بطرس السادس -بطريرك الأقباط- مع الوالي العثماني/ إيواظ، وطلب إليه البطريرك أن يحتكما في الخلاف إلى علماء الأزهر الشريف. وبالفعل اجتمع العلماء، ثم خرجوا على الناس بقرارهم العادل، وهو أن البطريرك على حق، وأن الأمير ليس بصاحب حق!
من أسف؛ ينسى هؤلاء المرجِفون؛ شهادة الإمام/ محمد عبده؛ لوطنية الأقباط، عندما قال: "هل يقدر أحد أن يُشَكِّك في رسالة الأزهر، بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان؛ فكان يتسابق المسلمون والأقباط واليهود لنجدته، وبكل ما أوتوا من حولٍ وقوة"!
من أسف؛ ينسى هؤلاء المغفَّلون؛ سيرة الإمام/ المراغي- الذي رثاه مستر "دوبلس" –رئيس مجلس الكنائس بانجلترا- قائلاً: "إنَّ فقده يعد خسارةً فادحةً لعشاق الفضائل والمبادئ النبيلة، وأخلاق التسامح التي كان يتمتع بها مع مختلف أتباع الديانات .. وإنِّي لأجترئ في غيبة رئيس أساقفة كانتربرري على تقديم تعزيتي بصفة رسمية وقلبية إلى العالم بأسره، وإلى الجامع الأزهر معقل الثقافة العريق، وأرجو أن يظل العمل الذي قام به الفقيد متواصلاً يؤتي ثمره".
من أسف؛ ينسى هؤلاء المفترون؛ مقولة الشيخ/ محمد الفحّام -شيخ الأزهر الأسبق-: "أيها العرب جميعاً، أيها المسلمون والمسيحيون، إن رسالات السماء داعية وحدة؛ لأنها من وحي إلهٍ واحد، وداعية عقيدة التوحيد .. ولا مرجع للخلاف الطائفي بين أتباع الأديان السماوية".
من أسف؛ ينسى هؤلاء الجاحدون؛ جهود الشيخ/ مصطفى عبد الرازق- واهتمامه بالوحدة والأخوة الإنسانية؛ وقد أنشأ صالوناً ثقافياً، كان حافلاً بمختلف الأجناس والمعتقدات. ومن وفائه؛ أنه نصح صديقه الدكتور/ طه حسين عندما سافرا إلى روما للمشاركة في أحد المؤتمرات، قائلاً: فلنضع في برنامجنا أن نزور قبر المستشرق/ سانتلانا- ونضع عليه إكليلاً من الورد!
من أسف؛ ينسى هؤلاء الجاهلون؛ كتابات الإمام الدكتور/ أحمد الطيِّب -شيخ الأزهر- الداعية إلى التآخي والتراحم والتسامح؛ إذْ يقول: "إنَّ أواصر المحبة هي الحبل المتين الذي يربط الرسالات السماوية ببعضها، باعتبار أنها تنبع من مشكاة واحدة، وإنه بالرغم من اختلاف الشرائع بين جماعات المؤمنين, فإنَّ وحدة الدين تنشئ من علاقات المودة ما يشبه صلة الرحم, التي تربط بين المؤمنين جميعاً حيثما كانوا وكيفما كانت شرائعهم ورسالاتهم. وهذا هو واقع العالم الإسلامي الذي استوعب جميع أديان العالم المعروف, حيث التقي في محيطه الغربي بالأديان الإبراهيمية: اليهودية والمسيحية, والتقي في محيطه الشرقي بالهندوسية والبوذية, وقدَّم للتاريخ نماذج مضيئة للترابط الإنساني الذي ينبع من الأخوة الإنسانية الممزوجة بأخوة الإيمان, بلْ هذه هي تجربتي الشخصية في صعيد مصر, حيث عشنا كمسلمين قروناً متطاولة جنباً إلي جنب مع إخواننا المسيحيين الأقباط".
لقد نسيَ الأدعياء كل هذا، وهو ماثلٌ أمامهم، وشاهد على خيانة أعينهم، وما تخفي الصدور!
نسوا كل هذا، وهو واضحٌ وضوح الشمس في ضحاها.. فلماذا نسوه؟!
نسوه؛ لأنهم أرادوا أن يعيبوا، وأن يتقوَّلوا، وأن يكتموا الشهادة، وأن يغمطوا الحق، وينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الإغضاء عنها، لوْ أنهم أرادوها وتعمدوا ذِكرها ولمْ يتعمدوا نسيانها ... جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلوا.
الحقَّ أقـــول: سيظل "الأزهر" قلب مصر النابض، ومفخرة العرب والمسلمين في كل مكان، وملتقى السياح والزائرين ما بقيَ الليلُ والنهار.
هذا؛ ولا تزال الآمال معلقة على "الأزهر الشريف"، وعلى "شيخه الجليل" الذي يزيِّنه التواضع، وتتقطَّر منه الحكمة، والذي يراه الناسُ أباً عطوفاً، وقدوةً صالحة، كما يرون منصب "المشيخة" أرفع مكانةً وأجلّ قدراً من أيّ منصبٍ آخر!
فالدِّينُ وُجِدَ قبل وجود الأوطان، والأنبياء قبل الزعماء، والعلماء فوق الساسة .. والأزهر سيظلُّ حتى بعد هلاك الحكَّام ... وأبصِر فسوف يُبصِرون!
وسوم: العدد 718