تركيا والورقة السورية الأخيرة
اعتمد التكتيك التركي في سورية على سياسة خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام، وذلك من منطلق حساسية الوضع السوري الذي تداخل بقوة مع نظيره التركي، منذ اليوم الأول للثورة، وكان على تركيا كدولة أن تتصرّف بتوازنٍ محسوب، كي لا يرتمي ثقل الحمل السوري على ظهرها لوحدها.
وتبدو تركيا حتى الآن وقد امتصّت الصدمات القوية، ولم تنكسر أمام الموجات الكبيرة، وخصوصا قضية اللاجئين، ولكن في أكثر من محطة، في العامين الأخيرين، كانت النهاياتٍ ذات أثر سلبي. ومن هنا، يبدو التوجه التركي الجديد تجاه معركة الرّقة بمثابة الورقة الثمينة الأخيرة التي يلعبها الرئيس، رجب طيب أردوغان، على الأرض السورية، وقد أعلن صراحة أن تركيا مستعدة لأن ترسل جيشها إلى الرقة للقضاء على "داعش"، ولكنه، في الوقت ذاته، يريد إطلاق يده في توجيه ضربةٍ قاصمة لمليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) التي سبقته ميدانيا، وباتت تتحكّم بمفتاح معركة الرقة، من خلال التقدّم الكبير الذي أحرزته في انتزاع القسم الأكبر من مدينة الطبقة من يد "داعش".
زيارتا أردوغان إلى روسيا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة، على جدول أعمالهما هذه النقطة على وجه التحديد، وتهمّه موسكو كما واشنطن، على الرغم من تباعد المسافة بين العاصمتين حيال ما يجري ميدانيا على صعيد تحرير الرّقة، ذلك أن الروس ليسوا منخرطين في هذه العملية التي يتولاها الأميركيون مباشرة، وتفيد المؤشرات كافة بأن أردوغان متشوّقٌ إلى خوض المعركة بقوة، آخذا في حسابه أنها ستسجل له إنجازاً في الخارج والداخل، في بداية عهده الجديد، بعد الاستفتاء على تعديل الدستور وإقرار النظام الرئاسي.
مشكلة أردوغان الأساسية هي مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو يعوّل، حتى الآن، على تفهم أميركي لموقف تركيا منها، لكن المؤشرات لا توحي بذلك، فواشنطن سبق أن اختارتها حليفاً موثوقاً يمكن الاعتماد عليه في الحرب ضد "داعش"، الأمر الذي يفسّر سبب مسارعتها، في الأيام الأخيرة، للعب دور قوة فصل، حين وجهت تركيا ضربات لها في المناطق الحدودية القريبة من القامشلي، ولكن نتيجة هذه المواجهة السريعة جاءت لتؤكد أنّ التعاطي التركي، طوال العام الأخير، مع مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي لم يُضعفها، بل هي استثمرته لصالحها، وبدت بعد كل ضربةٍ أقوى مما كانت عليه.
مؤكّد أن أنقرة لا تتصرف على نحو عشوائي، وتعمل وفق خطة مدروسة، ولكن النتائج صبّت، حتى الآن، لصالح هذه المليشيات التي اكتسبت شرعيةً أميركية، من خلال التدخل الأميركي، لحمايتها منذ منبج وحتى الآن في الشريط الحدودي من القامشلي وحتى عفرين. وإذا بقي رد الفعل التركي عند هذا المستوى، فسوف تتغير المعادلة كليا في الوقت القريب، ولن يكون في وسع تركيا منع إقامة الكانتون الكردي السوري تحت راية حزب الاتحاد الديمقراطي فرع حزب العمال الكردستاني الذي بات يمتلك جيشا متمرّسا في القتال.
تتحمل فصائل المعارضة السورية المسلحة مسؤوليةً كبيرةً عن تحول الاهتمام الأميركي نحو حزب الاتحاد الديمقراطي، ولا يمكن أن يلوم المرء الولايات المتحدة على تمسّكها بالمليشيات الكردية حليفاً، لأنها لم توفر وسيلةً للبحث عن طرفٍ سوريٍّ مسلح ومعارض، تستطيع العمل معه، وهناك أمثلة كثيرة، وعدا عن أن بعض هذه الفصائل معادية لأميركا مثل جبهة النصرة، فإنها بلا خريطة طريق واضحة، وتحولت، في أغلبها، إلى أمراء حربٍ يقتلون بعضهم في معارك عبثية، وتركوا الجزيرة السورية لحزب الاتحاد الديمقراطي.
يستطيع الأتراك تصحيح المعادلة عن طريق لعب أوراق أخرى من داخل سورية، من خلال بناء تحالف قوي ومدروس في الجزيرة السورية مع المتضرّرين من مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، وهناك مصلحةٌ لأطرافٍ عربيةٍ وكرديةٍ في ذلك.
وسوم: العدد 719