حول الأعلام والرايات، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ

لا شك أن الراية الخضراء التي اتخذها الإخوان والتي اتخذتها حماس وغيرهم ليست من "الأدنى"، كيف يكون ذلك وهي تحمل شهادة الإسلام، وقد اُتخذت رايةً حركيّة لا راية للدولة الإسلامية الجامعة، وهي من هذا الباب (الخاص) مشروعة لا باطلة، ولكنّ الأعلام الوطنية التي رسمها مستعمر سكّير في لحظة تاريخية ساخرة (مصدر 1) هي من "الأدنى" الذي يُصرّ مخدوعون -ومعهم مخادعون- على استبدالها بالخير، وهو اللواء الأبيض ومعه الراية السوداء، مما لا يمكن لمخلص أن يُشكك في أنهما لواء وراية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن حاجج في مستوى التأسّي والاتباع للنبي في رفعهما، وهو الذي لا يَنطِقُ عَنِ الهوى، "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ".

كنت قد أصغيت باهتمام واحترام لأخ فاضل وهو يتحدث عن فتح مكة، ضمن دروسه الرمضانية الطيبة، وعرج –خلال درسين منها- على عدم مشروعية-وجوب الراية السوداء واللواء الأبيض، على الرغم من أنه ذكر الحديث الصحيح الذي يبيّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفعها.

وما فهمته من أخينا – الذي أظن به خيرا في تحرّي العلم الشرعي- أنه لم ينكر جواز رفعهما، ولكنه استنكر اعتبار ذلك حكما شرعيا (ولا حتى اعتبره رأيا شرعيا-ولو خالفه), معتبرا أن ذلك من الإدارة (المباحة) لا من التشريع (المُلزم)، دون أن يبين سبب ذلك الاعتبار، ثم ذكر أن هنالك رايات أخرى للرسول أو عقدها الرسول، أو رفعتها الدول الإسلامية تاريخيا (موحيا كأنها ظلت ملونة غير السوداء والبيضاء)، وأضاف أننالم نسمع أن عالما أنكر-عبر التاريخ- على تلك الدول رفع تلك الرايات. وسكت أخونا عن أي موقف أو إشارة (استوجبها السياق) حول مشروعية الأعلام الوطنية! ولم يتناول درجة صحة الأحاديث التي ذكرت الرايات ذات الألوان الأخرى (مما استوجبته الموضوعية ومصداقية النقل)، مع أنه ذكر أن حديث كتابة الشهادتين على الراية واهٍ (شديد الضعف).

في هذا التبيان أريد توضيح عدد من النقاط –عبر مصادر غير حزبية في الغالب- حتى لا تكون ثمة شحنة سلبية تسبب تنافرا نفسيا عند البعض في تلقي الخير والعلم الشرعي:

1)     لا مراء في صحة أحاديث الراية السوداء واللواء الأبيض من مثل حديث: كَانَتْ رَايَاتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَوْدَاءَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم). وهناك روايات في البخاري وغيره تناولها وخرّجها وبيّن درجة صحتها بحث رصين بعنوان "التحقيق العلمي والتخريج الحديثي في أوصاف رايات النبي صلى الله عليه وسلم ولوائه من كتب السنة" على صفحة جمعية دار الحديث الزيتونية (مصدر 2).

2)     لا مراء في جواز رفع راية "فئوية أو حركية" خضراء أو صفراء أو حمراء، تخص فئة أو حركة أو قبيلة، تحت سلطان الإسلام وتقاتل في سبيله أو تحت ظل الخلافة، وهذا ما لم ننكره من قبل (على أن لا تحمل رمزية استعمارية)، كما أوردت في مقال سابق لي تحت عنوان "حرب الأعلام والرايات جولة في صدام الحضارات " (مصدر 3).

3)     ثبت في التاريخ أن الدولة الإسلامية على اختلاف مراحلها وبغض النظر عن مدى مشروعية سلاطينها رفعت اللواء الأبيض والراية السوداء (مصدر 4)، فالأمويين رفعوا الأبيض والعباسيون الأسود، والفاطميون الأبيض وهكذا... وكان ذلك الغالب وإن رُفعت رايات أخرى كذلك.

4)     صحيح أن ثمة من شكك في صحة الرواية التي تحدثت عن كتابة الشهادتين على الراية واللواء لاختلاط عند الراوي (حيان بن عبد الله) إلا أن ثمة من جعله من الثقات (انظر مصدر 7)، وحسّن نقله، وقد روى له البخاري في الصحيح (تهذيب الكمال في أسماء الرجال 2 / 79). فلا يُنكر على من تبنى تلك الرواية شرعيا، أو تبنّى –إداريا- كتابة الشهادتين كرمز إسلامي خالص على الراية واللواء.

وهنا إشارات توضيحية مختصرة مستندة إلى المصادر المذكورة ضمنها:

1)     إن افعال الرسول صلى الله عليه وسلم التشريعية هي للتأسّي، ويستدل على ذلك بالقرائن، فمداومة رفعه للراية السوداء واللواء الأبيض فيه قرينة على التشريع لا على مجرد الإباحة. أما اعتبار حكم الراية أنه عدم الجوب وليس للتأسّي (بل من باب "الإدارة") فهو رأي غريب عن السياق، وإن صح(!) فهو لا يُخرج ذلك الاستنباط الشرعي (مشروعية الراية واللواء) عن كونه رأيا شرعيا ملزما بحق من استنبطه، ولا يليق بمخلص أن يستنكره سياسيا، وإن ناقشه فقهيا، خصوصا في ظل صراع الرمزية الإسلامية في مقابل الرمزية الاستعمارية (مصدر 3).

2)     ولعل هذا التشريع يزداد تأكيدا في أحاديث أصحاب الرايات السوداء التي تقدم من المشرق، فهي تحمل مدح تلك الرايات وأصحابها: "إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي"(سنن إبن ماجة)، وأذكر هذا الحديث هنا من باب الاستئناس، وللإشارة على أن وصف الرايات لم يقتصر على أحاديث الفعل، بل وردت قولا، وإن كنت لا أجزم بصحة هذا الحديث (وقد شكك بصحته علماء)، ولكني أنقل ما ذكره موقع إسلام ويب "الحديث الذي فيه ذكر الرايات السود حديث صحيح أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم في المستدرك"، وقال الألباني: الحديث صحيح المعنى دون قوله: فإن فيها خليفة الله المهدي (مصدر 6).

3)     هناك تضعيف لأحاديث ذكرت الألوان الأخرى –الصفراء والحمراء- (انظر بالتفصيل مصدر رقم 2) مثلا انظر بنود (ما روي في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد للأنصار رايات صفراء ولا يثبت من جهة الاسناد- ما روي في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد راية حمراء لبني سليم ولا يثبت من جهة الاسناد- ما روي أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم لواء أغبر ولا يصحّ).

وإن ثبتت هذه عند البعض أو ثبتت روايات أخرى في هذا السياق، فهي تؤكد مشروعية حمل رايات ذات ألوان أخرى (غير الأسود والأبيض) تكون خاصة لكتيبة أو قبيلة أو فصيل، لا أن تكون بديلا عن الراية السوداء.

4)     إن الخلافة الراشدة ما كانت لتسبدل راية حملها الرسول، أو لواء عقده، وفيها الصحابة الذين تأسوا به في كل شيء من شدة حبه، حتى في طأطأة الرأس من تحت شجرة طأطأ الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه عندها، وقبّلوا الحجر الأسود لا لشيء إلا أنهم رأوا الرسول يقبله (كما ورد عن عمر رضي الله عنه). وقد قال الباحث صالح ابن قربة (مصدر 4): فالذي لا جدال فيه، أن الخلفاء الراشدين قد استعملوا نفس الرايات عند خوض المعارك، سواء داخل الجزيرة العربية أو خارجها... وهكذا عندما اقترب خالد بن الوليد من دمشق عند ثنية العقاب نشر راية سوداء كانت للرسول (مصدر 4)... وقد حمل أسامة اللواء الأبيض في عهد أبي بكر، ووردت الراية السوداء في معركة القادسية، وكانت راية الرسول السوداء مع عمرو بن العاص (مصدر 2)... "وكان لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه, راية سوداء تسمى الجموح" (مصدر 5).

5)     إن التاريخ ليس مصدرا للتشريع، وإنما هو شاهد ومحل عبرة، ومع ذلك فقد تحدثت المصادر التاريخية (مصدر 4) عن رفع الراية السوداء أو اللواء الأبيض للأمويين والعباسيين والفاطميين وذُكرت للأيوبيين في مصر، وربما رُفعت مع رايات بألوان أخرى في بعض الأحيان... وفي الأندلس كانت الراية بيضاء (مصدر 5)، وذكر الباحث صالح ابن قربة: وقد استمر اللون الأبيض فيما بعد شعار الموحدين في المغرب والأندلس (مصدر 4)... وقد نقل عن ابن خلدون في وصف راية الفاطميين "فاتخذوا الرايات بيضا وسُمّوا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين"... وأضاف: "طبقا لما ذكره ابن خلدون في نصه السابق، كانت راية الفاطميين بيضاء" (مصدر 4)... وهكذا كانت الرايات السوداء حاضرة مع اللواء الأبيض على مدار التاريخ، إلا أن الدولة العثمانية رفعت الراية الحمراء ويُظن أنها مع الراية السوداء (هذه النقطة الأخيرة –العثمانية- غير موثقة هنا). وقد عاينتُ الراية السوادء واللواء الأبيض ممهورين بالشهادتين في أحد مساجد اسطنبول التاريخية كزخرفين فوق المحراب يمينا وشمالا.

6)     لئن لم يردنا أن العلماء قد أنكروا على دولة معينة رفع راية غير السوداء (مع أن التاريخ شاهد على أن غالبية الدول رفعت السوداء والبيضاء)، فلعله من باب وجود شُبهة دليل في جواز رفع الرايات الأخرى، أو من باب الصمت (غير المبرر) على السلطان، وقد رضخ العلماء على جعل الخلافة ملكاً عاضاً... فصمت العلماء في مرحلة تاريخية لا يشرع الخطأ.

7)     وهناك نقل تاريخي حول كتابة الشهادتين على الراية واللواء، وقد وصف الباحث صالح ابن قربة الراية السوداء عند العباسيين بالقول: "استنادا إلى الوثائق التاريخية والأثرية التي بين أيدينا، كانت عليها باللون الأبيض وتتألف من الشهادتين في شريط زخرفي أو شريطين أو أكثر، نفذت جميعها بأسلوب الخط الكوفي البسيط ذي الحروف المتقنة الأطراف (مصدر 4). وأضاف رأيا: "نعتقد بأن شهادة التوحيد لا بد وأنها كانت تتصدر الرايات الفاطمية وألويتهم".

8)     لا صحة لقول من ادعى أن الراية واللواء استخدمت في الحرب فقط، فقد روي أنه عند دخول الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب حلف أنصاري أنه لا يدخلها إلا واللواء مرفوعا أمامه، فنزع عمامته ونشرها على رمحه وسار به أمام موكب الرسول (مصدر 2 ومصدر 4). ورُوي أن أسامة غرس لواء الرسول أمام المسجد.

وفي الختام، وإذ أشكر أخانا الفاضل أنه دفعني لاستثمار هذا الوقت في هذا الخير، أعتب عليه أنه كان يتوجب عليه (على فرض صحة ما وصل إليه) وقد أنكر مشروعية حكم الراية السوداء واللواء الأبيض الواردين عن النبي، رغم ما تحملان من رمزية وحدوية وتوحيدية، أن لا يقف عند ذلك الحد، ويصمت عن أعلام الباطل، بل توجب عليه -وقد اقتحم هذا المجال (الحاضر سياسيا) وأقحمه في دروس السيرة- أن يستنكر -من باب أولى- رفع الأعلام الوطنية التي خطها سايكس بما تضمنته من تعبير عن الاستعمار والفرقة: فكيف يستقيم أن يستنكر مشروعية راية النبي ثم لا يستنكر مشروعية رفع راية سايكس؟! وهذا المعني هو ما ركزت عليه في مقالي السابق.

وكنت أتمنى عليه أن يذكر أن أحد معاني الكتيبة الخضراء في فتح مكة أنها وصفت بالخضراء لشدة السواد كما ثبت، (لما فيها من رايات سوداء وفي تفسير آخر من سواد الدروع)، لا أن يترك الانطباع أنه رايات خضراء (مع أنه لم يذكر ذلك نصا)، وأعتب عليه أنه إذ ذكر رأيا في تضعيف حديث كتابة الشهادتين على الراية، أن يذكر تضعيف أحاديث الألوان الأخرى للرايات (كما أوردت أعلاه). ولا أظنه بعد ذلك إلا وقّافا عند الحق وملتزما الرأي الراجح وتاركا المرجوح.

وأدعو الله لنا جميعا أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

المصادر

1)       مقطع فيديو - اعلام الاستقلال اعلام رسمها مارك سايكس – مقتطع من وثائقي لقناة الجزيرة 

2)     "التحقيق العلمي والتخريج الحديثي في أوصاف رايات النبي صلى الله عليه وسلم ولوائه من كتب السنة" على صفحة جمعية دار الحديث الزيتونية على الرابط

https://www.facebook.com/notes/%D8%AC%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D8%AA%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B5%D8%A7%D9%81-%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%B5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85-%D9%88%D9%84%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%87-%D9%85/289534024449870/

3)     ماهر الجعبري، "حرب الأعلام والرايات جولة في صدام الحضارات " (المصدر الوحيد هنا مما يمكن اعتباره حزبيا!)، رابط: http://www.pal-tahrir.info/article/7991-

5)     شكري شيخاني، "الرايات والأعلام" موقع دنيا الوطن - رابط

https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/10591.html

6)      فتوى "أصحاب الرايات السود"-رقمالفتوى: 27618، موقعإسلامويب – رابط

7)     موسوعة الحديث - معلومات عن الراوي - حيان بن عبيد الله بن حيان

http://hadith.islam-db.com/narrators/16050/%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D8%A8%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A7%D8%AC-%D8%A8%D9%86-%D8%B2%D9%8A%D8%AF

وسوم: العدد 725