عندما يُصبح رفض العلمانية جريمة

(أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون) كانت طهارة الأخلاق من الرذائل، هي التهمة التي رشق بها القومُ لوطا عليه السلام، هي جريمة في عقليتهم وحدهم، فما مِن ذي عقل وفطرة سليمة يسمع بالتهمة ومسوِّغِها إلا وينتصر لنبي الله لوط.

كثيرا ما ينطَوي الاتِّهام على تبرِئة ساحة المُتَّهم، فتنقلب المذَمَّة إلى مَحْمَدة، وهو الأمر الذي اتضح لي وللكثيرين غيري في تصريحات السفير الإماراتي

لدى واشنطن يوسف العتيبة ضد قطر، خلال لقائه مع قناة «بي بي إس» الأمريكية، التي أنصف فيها قطر من حيث لا يدري. ذكر العتيبة خلال التصريحات التي نشرت السفارة الإماراتية في أمريكا مقاطع منها، أن ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين للشرق الأوسط، بعد عشر سنوات هو حكومات علمانية مستقرة ومزدهرة، وذلك يتعارض مع ما تريده دولة قطر بحسب قوله. إذن رفض النظام العلماني هو جريمة اقترفتها الدوحة بحسب هذه النظرة، لكنها تهمة تزيد من الرصيد الأخلاقي لدولة قطر، التي ترفض فكرة دخيلة على المجتمع العربي، لا تتفق وهويته الثقافية المستمدة من تاريخه الطويل في ظل الحضارة الإسلامية.

هل تخطئ قطر إذ لا تقبل بأنظمة علمانية؟

ولا أتكلم هنا بلسان الشريعة التي تتصادم معها العلمانية جُملة وتفصيلا، فبعض قومنا ينبذ فكرة هيمنة المنهج الإسلامي على مناحي الحياة، ولن يجدي معه الخطاب الديني. إنما أتحدث من منظور علم الاجتماع وقوانين النهضة، وهو قطعا مجال مقبول لدى أصحاب التوجهات المختلفة، لا سيّما وأن رجاله البارزين معظمهم من الغرب. لا نستطيع إنكار حقيقة أن الحضارة الغربية هي التي تقود العالم الحالي، وأننا قد تخلّفنا عن الغرب بمسافات شاسعة، لكننا بدلا من الاستفادة من إنتاجهم الحضاري، اتَّجهنا إلى استيراد أفكار كانت نتاج حالة تاريخية لها ظروفها الاجتماعية والسياسية، فحاولنا زراعة العلمانية في تربة ليست لها. ولنا أن نتساءل: لماذا فشل المشروع العلماني بعد عُقود طويلة من التوغُّل العلماني في بلادنا؟ لماذا لم يحقق نهضة اقتصادية مع أنه قد تبنَّته أنظمة عربية؟ وماذا قدّم العلمانيون للأُمة؟ هل قضوا على البطالة والجوع والفقر والمرض؟ ماذا قدموا في مجال البيئة والصحة؟ هل تمكنوا من تطوير التعليم؟ هل تمكنوا من تطوير الصناعات الثقيلة والخفيفة؟ ماذا قدموا للناس؟

لا شيء على الحقيقة سوى التنظير والمعارك الفكرية التي خاضوها ضد الفكرة الإسلامية، فلا هم قدموا شيئا، ولا هم أبقوا على الهوية الإسلامية.

نعم نعترف بأن العلمانية غزت أمتنا وهي في حالة من الضعف والتشرذم، لكن هذا حال الأمة على مرّ التاريخ، تضعُف لكن الهوية الإسلامية تكفل للمسلمين العودة والالتفاف حول الراية مرة أخرى والخروج من المأزق.

ولكن لماذا فشل المشروع العلماني؟

وفقًا لقوانين علم الاجتماع، فإن أي مشروع نهضوي لابد له من أربعة عوامل أو مُقومات، نذكر كلا منها ثم نعرِض عليها المشروع العلماني لندرك أسباب فشله:

*أول العوامل الفكرة المركزية، وهي كما يُبسِّطها الدكتور جاسم سلطان «مجموعة من المُسلّمات والعقائد التي يُبنى عليها نظام القيم، ويصطبغ بها نظام المجتمع». والعقيدة الدينية هي دائما الفكرة الأصيلة التي تتولد عنها الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، وهذا ما أكّد عليه أرنولد توينبي، حيث اعتبرها في كتابه «مختصر دراسة التاريخ» جزءًا من نظام الاستيلاد الحضاري، وهو ما أكد عليه كذلك مالك بن نبي في كتابه «شروط النهضة». ومع ذلك فقد رأى علماء الاجتماع أن هذه الفكرة المركزية لابد أن تتوافق مع القِيم المُترسِّخة في وجدان المجتمع التي شكّلت هويته الثقافية. إذن القانون هنا، هو أن أي فكرة مركزية تتعارض مع الهوية الثقافية للمجتمع تبوء بالفشل. كما أنه يلزم أن تكون هذه الفكرة مُتجسِّدة في عقيدة واضحة تصبغ مجالات المجتمع، وقادرة على التعامل مع مستجدات العصر ومتغيراته. ولذا فشل المشروع العلماني، لأنه اعتمد فصل الدين عن الدولة أو الحياة، وهو الأمر الذي تعارض مع الهوية الثقافية المُتجذِّرة في المجتمع.

*ثاني هذه المقومات هو الفكرة المُحفّزة، وهي الفكرة التي تنطلق من الفكرة المركزية وتتعلق بواقع الناس وتتّجه إلى دوافعهم الفطرية، فهي فكرة دافعة يلتفُّ حولها الناس. ولمزيد من التوضيح، جاءت رسالة الإسلام مُتمحْورة حول فكرة مركزية واحدة وهي تحقيق العبودية لله وحده، ثم تتضح الفكرة الدافعة المحفزة في الوعود بإصلاح الدنيا عن طريق الدين، كما في حديث الصحابي ربعي بن عامر أمام قائد الفرس: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد» فهذه فكرة مركزية، ثم يقول «ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة»، فكانت تلك العبارات بما تتضمّن من معانٍ ودلالات، بمثابة فكرة مُحفّزة. وفي المثال الصهيوني كانت الفكرة المُحفّزة هي الاجتماع في فلسطين أرض الميعاد، وفي المثال الشيوعي كانت رفع شعار «نريد خبزا». فإذا نظرنا إلى الفكرة المُحفزة في المشروع العلماني، وهي النهوض، يظهر فشلهم في تجميع الناس حول هذه الفكرة، لأن النموذج العلماني لم ينتج سوى أفراد يلهثون وراء لقمة العيش، يئِنّون بين سطوة الجوع وسطوة القهر والقمع، فبمثل هؤلاء لا تقام نهضة ولا تُشيد حضارة.

*ثالث هذه المقومات هو القيم والثقافة المنبثقة كذلك من الفكرة المركزية، ويتحرك في ظلالها المجتمع بأسره، فتلك القيم تُمثّل ثقافة راسخة تضبط سلوكهم وتُنظّم علاقاتهم، وهي كما يرى مالك بن نبي مجموعة من الصفات والقيم الاجتماعية يتلقَّاها الفرد منذ ولادته، وتُمثّل المناخ الذي تتشكل فيه شخصية الفرد. فإذا نظرنا إلى المشروع العلماني نرى أنه يعتمد القيم الغربية، لكنه في الوقت نفسه لم يستفد من القيم الإيجابية لدى الغرب، وركز على استيراد الجانب السلبي الذي لا يتوافق مع المجتمع العربي المسلم، فمن ذلك استيراد قيمة الحرية بمفهومها الغربي، الذي يعني في كثير من مفرداته التفسّخ الأخلاقي.

*رابع هذه المقومات اللازمة لأي مشروع نهضوي هو الإنتاجية، التي تُعتبر نتيجة طبيعية للمقومات الثلاثة السابقة، وتُسمّى في الفكر الإسلامي بـ«عمارة الأرض». وكانت النتيجة الطبيعية كذلك للفشل العلماني في المُقومات الثلاثة المذكورة، الفشل الذريع في الإنتاج، فلم يقدم العلمانيون أي حلول عملية لنهوض الدول، فما زالت البلدان العربية – حتى التي تتبنّى العلمانية- تعيش على الاستهلاك، ولا تجد لنفسها موضعا بين الدول. لهذا فشل المشروع العلماني، ولهذا سيستمر في الفشل، ولهذا يعتبر تصريح السفير الإماراتي برفض قطر للأنظمة العلمانية تزكية لها لا العكس.

وسوم: العدد 736