حق الرأي العام في صنع السياسات العامة

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 هل هناك توافق بين صنع السياسة العامة ومطالـب الرأي العام؟ وإلى أي حد يفعل المسؤولون ما يريده الرأي العام؟ في الواقع، تعد العلاقة بين الرأي العام والسياسة العامة أحد المحاور الرئيسية للعديد من النقاشات الأكاديمية، خاصة تلك المتعلقة بدراسة مدى استجابة الحكومات الديمقراطية لخيارات الشعوب والمجتمعات.

 بلا شك يعد صنع وتنفيذ السياسة العامة من الوظائف الأساسية للحكومة، حيث تمنح هذه الأخيرة وبمجرد انتخابها وتشكيلها، سلطة ومسؤولية اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير وإدارة الشأن العام، مما يؤدي إلى التأثير على الرأي العام، وعلى حياة الأفراد والمجتمعات من خلال ثلاثة محاور رئيسة، هي: التأثير في سلم الأجور والرواتب، وفرص العمل المتوفرة للمواطنين. والتأثير في توفير الخدمات العامة، وسهولة الوصول إليها، سواء تعلق الأمر بالصحة والتعليم، والخدمات المالية، وسائل النقل والسكن. الخ، بالإضافة إلى نوعية الخدمات المقدمة. والتأثير في نوعية الحياة الاجتماعية للمجتمع والأفراد، من خلال اتخاذ قرارات وسياسات تخص التخطيط العمراني، وحماية البيئة، وتخفيض معدل الجريمة وغيرها.

 لكن السؤال الأهم هنا؛ هو ماذا يقصد بالسياسة العامة؟ وماذا يقصد بالرأي العام؟ وكيف يمكن استطلاع الرأي العام أو قياس الرأي العام؟ وما هي أدواته؟ وفي أي مرحلة من مراحل صنع السياسات العامة يمكن أن نستقي رأي الشعب؟ وكيف يمكن أن نأخذ بنظر الاعتبار تلك الآراء لتكون جزء من سياسات الدولة وقراراتها؟

 هناك أكثر من تعريف لـ "السياسة العامة" ومنها أن السياسة العامة تعني: "مختلف النشاطات الحكومية الهادفة التي لها تأثير مباشر على حياة الأفراد". وفي تعريف ثان تعني السياسةُ العامة أنها "برنامجُ عملٍ حكوميّ يحتوي على مجموعةٍ من القواعد، والتي تلتزمُ الحكومة بتطبيقها في المجتمع" وفي تعريف ثالث تعني السياسة العامة أنها "مجموعة الحلول والقرارات التي تطرح في سياق التفاعل بين المؤسسات الرسمية للنظام السياسي، وغير الرسمية (الأحزاب السياسية، وجماعات المصالح، والقطاع الخاص والإعلام. الخ)، تصاغ وتحول إلى برامج سياسية هادفة موجهة لمعالجة مختلف المشاكل الحكومية ".

 وتمر عملية "صنع السياسات العامة" بعدة مراحل متتالية، وهي: مرحلة التعرف على المشكلة وإدراجها في جدول أعمال مختلف الأجهزة الحكومية. ومرحلة صياغة ووضع البدائل اللازمة للعمل، واختيار البديل الأنسب. ومرحلة العمل على إكساب القرار المتخذ الشرعية اللازمة حتى يتخذ الصفة الدستورية القانونية. ومرحلة رصد الميزانية الكافية لتنفيذ القرار المتخذ. ومرحلة تقييم النتائج المترتبة عن القرارات والبدائل المطبقة، ومن تم إعادة النظر في بعضها والانتقال إلى دورة جديدة من الحاجيات وردود الأفعال.

 ولا يختلف الأمر في تعريف "الرأي العام " فهناك أكثر من تعريف له، حيث يعني "الرأي" لغة: العقل والتدبر والتأمل. ويعني "العام" لغة: جمع العامة خلاف الخاصة. ومنه يشير "مفهوم الرأي العام" إلى الجماعة وما تعلق برأيها العام بشموليته. وفي الاصطلاح يعني "الرأي العام" الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية في فترة معينة بالنسبة لقضية معينة أو أكثر، يحتدم حولها الجدل والنقاش، وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية الأساسية مسا مباشرا.

 ومن مظاهر الرأي العام ما تكون إيجابية مثل الانتخابات، والمظاهرات، والندوات والاجتماعات واللقاءات العامة، واستخدام أجهزة الإعلام للتعبير عن الرأي العام، وبرقيات ورسائل التأييد والمعارضة وغيرها. ومن مظاهر العام ما تكون سلبية مثل المقاطعة، والاعتداءات على المؤسسات والأشخاص، وقطع الطرق، والإضراب عن العمل والاعتصام وغيرها.

 ويقصد بـ " استطلاع الرأي العام" أو "قياس الرأي العام" هو الوقوف على اتجاهات الرأي العام إزاء قضية ما يدور حولها الجدل والنقاش ذات صلة بمصالح المواطنين. وعليه فان استطلاع الرأي هو دراسة علمية يتم إجراؤها بشكل منهجي، وتهدف إلى معرفة آراء المواطنين اتجاه إحدى القضايا الهامة، أو أحد الأحداث المطروحة على الساحة، وتفيد نتائجها كل المهتمين من إعلاميين وباحثين ومسئولين، وتساعدهم في عملية اتخاذ القرارات وصياغة البرامج وتحديد الأهداف، كما أنها توفر كما ضخما من المعلومات في مختلف المجالات.

 ومن الأدوات المستخدمة في عملية استطلاع أو قياس الرأي العام هي استطلاع الرأي بالهاتف: يتميز هذا الأسلوب بالسرعة والآنية في الوصول إلى المعلومة، وقلة الوقت والمباشر والفورية في استطلاع الرأي، لكنه يبقى محدود ولا يؤمن تغطية شاملة للاستطلاع. واستطلاع الرأي بالنماذج المكتوبة: والتي تسلم باليد، أو البريد أو الفاكس، والتي تعطي كامل الوقت للمستطلعين وحرية كبيرة في إبداء الرأي، لكنها تتماشى مع عينة المتعلمين فقط. واستطلاع الرأي الالكتروني وعبر الانترنت: هذا الأسلوب من مزاياه انه يصل إلى شرائح واسعة من المستطلعين في أي بقعة من العالم، بسرعة كبيرة في أي وقت، وبأقل تكلفة ويمكن إعادة الاستطلاع بشكل دوري. واستطلاع الرأي المباشر: وهو الأسلوب الذي يتيح تغطية النقائص والسلبيات في الأساليب الأخرى، بحيث يمكن استطلاع رأي المرضى والمسنين والأميين بشكل مباشر واخذ رأي البعض في القضايا الحساسة التي يصعب اخذ الآراء بخصوصها بالأساليب الأخرى. ويمكن لهذه الأساليب أن تشكل وحدة متكاملة، تساهم في تامين استطلاع آراء ناجحة ومثمرة.

 بناء على ما تقدم، فما أهمية الرأي العام في رسم وصنع السياسات العامة، ومدى تأثيرها على متخذي القرارات الحكومية؟

 يرى التيار الأول أن تأثير الرأي العام على رسم أو صنع السياسة العامة عادة ما يكون محدودا، وقد بلور أنصار هذا التيار عـدة نظريـات، كـان مـن أبرزهـا نظريـات عـدم الاستجابة. وقد توصـلت هـذه النظريـات إلـى أن استطلاعات الرأي العام تمارس تأثيراً محدوداً على صانعي القـرار، وأن النخبـة الـسياسية قادرة على تغيير الرأي العام لكي يتوافق مع سياساتها المفضلة، أكثر مـن تغييـر سياسـتها لتتوافق مع تفضيلات الرأي العام.

 ومن ثم، يـرى أصـحاب هذا التيار أنه لا ضرورة لقياس الرأي العام، في النظم الديمقراطية خاصةً وأن هناك مؤسسات نيابية منتخبة، هي صاحبة الحق في تمثيل الناخبين والتعبير عن آرائهم، وتقدير احتياجاتهم ومصالحهم. ولـذلك، فلا يمكن أن تحل استطلاعات الرأي العام محل الاختيارات التي يتبناها نواب الشعب، فضلا عن وجود مؤسسة إعلامية يمثل التعبير عن الرأي العام جوهر وظيفتها.

وبالنسبة للنظم السلطوية فإن معارضة إجراء استطلاعات الرأي العام، ناهيـك عـن الاستجابة لمطالبه تنبع من منطلق الرغبة في الحفاظ على الاستقرار والوضع الحالي، الـذي تهدد قياسات الرأي العام مرتكزاته الأساسية، وعادةً ما تكتفي السلطة في هذه النظم بأن توكل للأجهزة الأمنية والسرية للدولة، وأجهزة الحزب الحاكم مهمة رفع تقارير سرية لها عن حالة الرأي العام.

 ويرى التيار الثاني أن للرأي العام دور مؤثر في دعـم متخذي القرار وصانعي السياسات العامة. وهذا التيار يؤكد أن استطلاعات الرأي العام هي بمثابة استفتاء مستمر على سياسات الحكومة، وتعبير صادق عـن الإرادة الـشعبية، وهـى الوسيلة التي تتيح للأغلبية الصامتة أن تعبر عن آرائها، وأن تطرح أولوياتها، وأن تؤثر في السياسات العامة. ومن ثم، فإن نتائج اسـتطلاعات الرأي العام تخلق قيوداً على صانعي السياسات العامة، كما تمثل مصدر ضغط على متخذي القرار من أجل الاستجابة لمطالب المواطنين.

 وهناك رأي نتبناه مفادها: أن للرأي العام حق في رسم وصنع السياسات العامة للدولة، وفي دعم متخذي القرار، وهذا الحق لا يقتصر على مراجعة آراء المجالس المنتخبة من طرف الشعب، بل من خلال مراجعة الشعب نفسه، وبشكل مباشر، ومن وسائل المراجعة المباشرة هي عملية استطلاع آراء الناس دون توسط أحد.

 مما سبق يتبين لنا الآتي:

- تعد "السياسة العامة" من وظائف الدولة الأساسية، وهي من أشد الوظائف الحكومية تعقيدا وأكثرها أهمية، نظر لخضوع هذه العملية إلى مجموعة من المراحل المترابطة، التي ينتج عنها مراحل أخرى من الحاجيات وردود الأفعال.

- يعد "الرأي العام" ظاهرة معنوية في المجتمعات الحديثة، وقياسه من المسائل الحيوية والأساسية في الأنظمة الديمقراطية، وهو جزء من الأنظمة التمثيلية المباشرة التي لا غنى عنها للتعرف على رأي الشعوب والمجتمعات في السياسات والقرارات التي تنوي الحكومات أخذها في المستقبل أو في معرفة آثار تلك السياسات والقرارات والخدمات التي أخذتها في الماضي.

- يستطيع الرأي العام التأثير في السياسات الحكومية من خلال العديد من الآليات، التي تعبر عن توجهاته وأولوياته من بينها: الأحزاب السياسية، الجماعات الضاغطة، جماعات المصالح والإعلام. الخ، إضافة إلى استعمال آلية الانتخابات للضغط على صناع القرار وإجبارهم على تغيير سياساتهم أو تبني سياسات يفضلها الجمهور الناخب.

- لابد من الاهتمام بدراسة وقياس توجهات الرأي العام في شتى المجالات (السياسية، والاقتصادية والاجتماعية) وتطوير برامج قياس وإحصاء، بإشراف مؤسسات بحثية مستقلة، تعمل وبشكل دوري على تكوين خبراء وباحثين في قياس وتحليل هذه التوجهات، وتوفير المعطيات والإحصاءات المتعلقة ببيئة القرار المتخذ بصفة قبلية وبعدية.

- من الضروري إبداء التجاوب الحكومي الكافي مع استطلاعات الرأي العام، لأنها تعمل على خلق ثقافة التوافق السياسي بدلا من ثقافة المواجهة والصراع.