النجاحات الإيرانية لا تعني أنها على حق

القسم الأول

1 – تبعية التشيّع لمركز التوجيه في إيران

 ابتداءً، لا بد لي أن أقول ما أظنه حقيقتين الأولى إن إيران ومهما حققت من نجاحات ميدانية في توسيع نطاق مجالها الحيوي، ومهما بلغ حجم تلك النجاحات وميادينها المختلفة، فإنها ليست على حق أبدا بل هي على باطل وتنفذ مشروعا لا يختلف عما عرفه العالم بداية قرون التوسع الاستعماري الأوربي على حساب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتتصرف كقوة غاشمة تنزع للعدوان والسيطرة والهيمنة، على الرغم من أن العلاقات الدولية في الوقت الحاضر لا تبنى على أساس الحق والباطل أو على أساسٍ أخلاقي، وإنما على أساس المصالح الاقتصادية والأمنية، حتى بين الدول المتكافئة في موازين القوة العسكرية والاقتصادية.

 يستوي في هذا الحكم قطبا الصراع الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق فهل بإمكاننا أن نقول إنهما على حق عندما أقاما صروحا شاهقة للتطور الاقتصادي وتأسيس قاعدة راسخة في مجال العلوم والتكنولوجيا، وتكريس مفهوم الديمقراطية على وفق رؤية كل منهما للديمقراطية والحديث العالي عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، بعد كسبهما الحرب العالمية الثانية ثم الانتقال إلى مرحلة الهيمنة على الشعوب ونهب ثرواتها، كما ينطبق على الدول المبتدئة أو حديثة النشوء، وحينذاك يكون لزاما علينا أن نوجد خطا فاصلا بين حق كل منهما في سلوكهما السياسي وعلاقاتهما مع الحلفاء والأعداء على حد سواء، وفيما إذا كان مفهوم الحق نسبيا وقابلا للتجزئة أم هو مفهوم معوّم ومن حق كل طرف أن يراه بعين مختلفة عن عيون الآخرين. وفي حال أقررنا أن النجاح دليل الحق، علينا حينذاك أن نعتبر أن انتصارات إسرائيل العسكرية في معظم حروبها مع العرب، وتفوقها التكنولوجي هو دليل حق أيضا، وهذا لا يصمد أمام الواقع الأخلاقي والقانوني على الإطلاق.

 بالمقابل لا بد لي أن أؤكّد أيضا الحقيقة الثانية وهي أن إيران حققت نجاحات ملموسة في نقل التكنولوجيا وخاصة في المجال العسكري إلى البلاد دون أن تتمكن من توطينها، يحصل كل ذلك على الرغم مما يقال عن عقوبات اقتصادية مزعومة مفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة وبدرجة أقل الاتحاد الأوربي، وهذا ليس دليلا على حنكة الزعامة الدينية أو قدرتها السياسية أو نضجها السياسي وقدرتها على إقامة دولة حديثة، بل يعود إلى الصراع الخفي والطافي بين مراكز الاستقطاب الدولية.  كما أنه يعكس طبيعة نشوء التشيّع في التاريخ الإسلامي، الذي أوجب طاعة ولي الأمر مهما كانت سياساته وتوجهاته، وأوجد طقوسا وتقاليد تفرض على الشيعي بصرف النظر عن انتمائه الوطني والقومي أو الجنسية التي يحملها، تبعية عمياء للمرجع الأعلى أو أي مرجع يقلده، ويفرض عليه سلوكا تبعيا يسلبه حريته الشخصية ويُفقده استقلاله في القرار، فضلا عن عقوبات دنيوية ليس آخرها تحريم زوجته عليه والاخراج من الملّة، وأخرى أخطر منها وهي أخروية تحرّم عليه الجنة، لأنه لا يعرف أو لا يعترف بإمام زمانه ولا يلتزم بواحد من أهم أصول المذهب، واستطاعت إيران بالتالي تحشيد كل الخبرات التي يمتلكها شيعة العالم لصالح تطورها التكنولوجي فضلا عن أنها بلد يمتلك ثروات كبيرة استطاع استغلال انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية ثمانينيات القرن الماضي لشراء كثير من الحلقات التقنية التي ما كان بإمكانه الحصول عليه من الخارج.  فلماذا استطاع النظام الإيراني فرض قبوله على المجتمع الدولي على الرغم من أنه يمتلك سجلا حافلا بالإرهاب والعبث بأمن الدول الأخرى؟ غالب الظن أن ذلك يعود إلى أن التشيّع اقتبس كثيرا من أصول معتقداته الدينية من اليهودية والمسيحية، مما جعله طرفا مقبولا للتحاور، وبعد ذلك استكمل التشيّع حلقاته السلوكية اللاحقة من الحركة الماسونية وعصابات المافيا في العلاقة داخل الحركة، وخاصة ما يتصل بطاعة الزعيم طاعة عمياء، ومن يخرج عن هذه الطاعة فعليه أن يتوقع الموت يأتيه من كل جانب، ولعل أبرز دليل على هذا الانقياد الشاذ ما شهدته جبهات الحرب العراقية الإيرانية عندما كانت قيادة البسيج "تشبهها مليشيا الحشد الشعبي" تدفع بعشرات الآلاف من عناصرها للتقدم إلى المجهول وكأنهم قطيع ماشية اندفعت إلى مرعى أخضر بعد مجاعة وقحط طويل، وليس فصائل مشاة ذاهبة إلى ساحة الحرب، بعد أن يتم تخديرهم بحزمة من تعبئة دينية وشعارات التعبئة الطائفية الحاقدة على الآخر.

 لعل من بين أكبر انجازات إيران بعد وصول الخميني إلى السلطة، ليس في بناء الدولة الحديثة اقتصاديا وتكنولوجيّا، بل كان في تشكيل منظمات وحركات مسلحة غارقة في تفسيرات دينية خرافية، وربطها بمكتب تم استحداثه من قبل الخميني نفسه، وهو مكتب حركات التحرر في العالم على الأقل من الناحية النظرية، غير أن الوطن العربي كان أول ساحة اختبار لقدرة إيران على تصدير ثورتها المنصوص عليها في دستورها من خلال هذا المكتب، مما يجعلنا نقول بلا تردد إن نشاط المكتب مركزّا على الوطن العربي حصراً، بدليل أن إيران تجاورها دول إسلامية فيها أقليات شيعية، بل إن جمهورية أذربيجان المستقلة عن الاتحاد السوفيتي جمهورية شيعية بصفة عامة ولكنها لا توالي ولاية الفقيه. 

 وتمت اناطة رئاسة المكتب المذكور بهاشمي رفسنجاني المقرب من الخميني والذي سيصبح ذا شأن في دولة الولي الفقيه فيما بعد، وفي الوقت نفسه كانت إيران ترفع شعارات ذات جاذبية عالية للشباب العربي الذي وضعتهم الزعامة الإيرانية محور اهتمامها ثم جعلت منهم قارورة اختباراتها الأولى للوصول إلى الآفاق البعيدة، إذ جعلت من القضية الفلسطينية ستارا لمشروعها التوسعي فراحت تزايد على أصحاب القضية الأصليين أنفسهم، فشقت المقاومة الفلسطينية وأنشأت حركات هنا وهناك تحت شعار الممانعة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فكان مولودها البكر حزب الله اللبناني الذي تحوّل مع الوقت إلى جرافة تمهد الطريق أمام إيران للدخول إلى مناطق ما كان بوسعها الدخول إليها إلا بواجهة عربية وشعارات براقة، كما أن إيران استغلت الحرب العراقية الإيرانية ووجود آلاف الأسرى العراقيين الخونة مع وجود عدد من المعممين الفارين من العراق، لتأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في تشرين الثاني 1982 وأناطت رئاسته بمحمود هاشمي شاهرودي، وهو شخص إيراني مولود في النجف كشأن مئات المعممين من أصول إيرانية ويصرون على الاحتفاظ بالجنسية الإيرانية مع أن بعضهم عاش في العراق لعشرات السنين كما هو حال علي السيستاني المرجع الأعلى لشيعة العالم، وتقلّب شاهرودي بعد فترة من رئاسة المجلس بمناصب رسمية رفيعة في بلاده منها رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وعندما سئل الخميني عن سبب تشكيل هذا المجلس وبالصورة المعلنة قال بأنه يريد الإشراف المباشر على المجلس وتحضيرات الثورة في العراق.

 ومن خلال استعراض الوقائع التي أفرزتها تجربة السنين السابقة يتأكد لنا أن إيران استغلت مصطلح "حركات التحرر" لتجييش الشيعة العرب، وشعاراتها البكائية عن مظلوميتهم وربطها بمظلومية الحسين، واستطاعت إيران التسلل إلى الساحة اللبنانية باستغلال هامش الديمقراطية في البلاد وتعقيدات التركيبة السياسية في بلد عاش حربا أهلية دموية، فتم توظيف قضية حقوق الشيعة السياسية والاجتماعية في جنوب لبنان في خطة التغلغل الناعم إلى الساحة اللبنانية، بالمقابل فإن إيران نجحت في توظيف المهارات التي يمتلكها اللبنانيون في شتى المجالات السياسية والحزبية والتدريب العسكري، لطرح مشروعها برداء عربي ومن خلال ذلك تسللت عناصر الحزب المذكور إلى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية واستطاعت تكوين شبكة علاقات مع قياداتها وعناصرها، وتم استقطاب بعضها بالمال من أجل إحداث انشقاقات في منظماتهم بل وإدخالها مع بعضها في صراعات دموية، وتحت هذه المظلة تحركت عناصر شيعية تمتلك خبرة سياسية عالية المناورة، وتمكنت من تجنيد المقاومة الفلسطينية لحماية التشكيلات الشيعية المسلحة من أية اعتراضات سياسية أو أمنية بحكم ما كانت المقاومة الفلسطينية تمتلكه من رصيد سياسي ومعنوي على المستويات الرسمية والشعبية والحزبية على امتداد الوطن العربي والعالم، بحيث لا يجرؤ أحد على التصادم معها وإلا سيتهم باتهامات أقلها التواطؤ مع إسرائيل.

د.نزار السامرائي  

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية