الفصل بين الدين والسياسة والكيل بمكيالين
منذ ظهور بوادر نجاح الثورة التونسية بالإطاحة بالنظام القديم تفاقم عدد المتجرّئين على الثوابت الدينية والأخلاقية باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ذلك مضمون ما جاء في مقال الرد على مقال د هشام قريسة "هل الإفتاء خطة علمية أم سياسية" (الصباح 1 أكتوبر) للأستاذ محمد العيد الأدب. في تقديري، لم يرق المقال إلى طرح وبلورة ردود علمية دقيقة تؤيّد وجهة نظر الكاتب. بل جاء المقال ليشرّع لسياسات وممارسات عفا عنها الزمن. حيث كان استهلال المقال بما يلي : "إنّ ما تعيشه اليوم تونس منذ خطاب السيد رئيس الجمهورية يوم 13/08/2017 هو إعادة أمينة لتاريخ تونس منذ 13/08/1956. فجيوب الرّدّة وحملات التكفير والتهجين التي تلقّاها حينذاك المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة من مشايخ الزيتونة وغيرهم والردود السلبية التي تهاطلت على تونس غربا وشرقا خصوصا من مؤسسة الأزهر تؤكّد أنّه حان الوقت بأن نفكّر جدّيا بإبعاد الدين عن الشأن العام ونترك الإسلام كدين تسامح ومحبّة بعيدا عن المهاترات السياسية والسياسوية التي لن ترجع إلاّ بالوبال على الدين نفسه وعلى المسلمين كافّة في جميع أمصار العالم". ومن دلالات هذا الخطاب أنّ صاحبه لم يستوعب التغيّرات والتحوّلات الجذرية التي حدثت في المجتمع التونسي بعد الثورة وقطعت مع ممارسات الماضي البغيض. بل إنّه قفز عليها وتجاهلها عن قصد ليبقى حنينه إلى الماضي وهّاجا. ذلك أنّ الأستاذ لايزال يخاطب النّاس بعقلية ولغة مرحلة الاستبداد والاستعباد ولا يتحرّج في استعمال عبارات التمجيد المبالغ فيه من قبيل "المجاهد الأكبر" ونحوها. فعبارات "المجاهد الأكبر" و"قائد التحوّل المبارك" و"حامي الحمى والدين" (ومثيلاتها) ليست درجات علمية ننادي بها من نخاطبهم. بل هي كلمات مفاتيح تحيل على أنواع من الاستكانة والتذلّل من جهة وعلى صنوف من التسلّط بدون وجه حق من جهة أخرى.فكيف يمكن لهكذا خطاب، بعد أن وقع استئصاله بفضل الثورة، أن يحاول البروز من جديد لغاية إقناع النّاس ؟؟؟ وهل مازال ثمّة من يقتنع به ؟ !
لقد جاء في المقال أنّه قد "حان الوقت بأن نفكّر جدّيا بإبعاد الدين عن الشأن العام ونترك الإسلام كدين تسامح ومحبّة بعيدا عن المهاترات السياسية والسياسوية التي ترجع بالوبال على الدين نفسه وعلى المسلمين كافة في أنحاء العالم". المؤكد أنّنا لو أجرينا تحقيقا جدّيّا لوجدنا أنّ نسبة 99.99 % (وهي النسبة التي يفوز بها المستبدون في العالم العربي) من الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة وعن الشأن العام إنّما هم من الذين يستعملون في خطابهم كلمات "المجاهد الأكبر" و"قائد التحوّل المبارك" و"القائد الملهم" و"الزّعيم الأوحد". ومن الذين يعشقون الاستبداد ويعشقون العيش في ظلّه ويستميتون في الدفاع عنه وعن منظومته. وللتذكير في هذا الصدد فإنّ الإسلام جاء بالأساس لاقتلاع الاستبداد من الأرض وفق ما جاء على لسان ربعي ابن عامر وهو يخاطب رستم قائد الفرس : "لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". فالذين ينادون بفصل الدين عن السياسة إنّما هم يعبّرون بالأساس عن أنفسهم التي تأبى إلاّ أن تعيش تحت سقف الاستبداد والاستعباد.
كما ورد في المقال " فإنّ عديد المجتهدين أمثال المرحوم الطاهر الحداد والزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قاموا بعديد المحاولات لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل. لكن كلّها باءت بالفشل باعتبار التكلّس الذي أصاب الفكر العربي الإسلامي وتمسّك معظم الفقهاء بمكانة المرأة الدونية في الإسلام وعدم رشدها الأزلي الذي أرادوه لها". وهنا يصرّ صاحب المقال على رمي الفقهاء الذين ينادون بتطبيق الشريعة بالجمود والتكلّس الفكري. في حين يضفي صفة المجتهد على بورقيبة. وهو ما يضع الكاتب مجدّدا في تناقض صارخ وصريح ! فهو من جهة يدعو إلى فصل الدين عن السياسة ومن جهة أخرى يضفي صفة المجتهد على السياسي بورقيبة ويبرّر تدخّله في الشأن الديني. أفلا يعتبر ذلك ازدواجا في الخطاب وكيلا بمكيالين ؟!
وورد في المقال أيضا : "إن من أهم الحجج التي يتمسك بها دعاة المنزلة الدونية للمرأة هو أننا في حضور آية قرآنية صريحة " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" متناسين عديد الآيات الصريحة الأخرى التي لا تقل صراحة ووضوحا عن هذه الآية : "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" و "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". إن هذه الآيات نزلت في ظرف تاريخي معين ولم يصبح بالإمكان القيام بتنفيذها باعتبار التقدم الحاصل على مر العصور وبناء كل المعطيات الاخلاقية والاجتماعية التي أصبح عليها العالم العربي والإسلامي قاطبة" والمعنى المستخلص من وراء السّطور أنّ الإسلام نزل في بيئة متخلّفة ولا يصلح إلاّ لهذه البيئة التي لا تستطيع أن تنتج فكرا وتشريعا وقوانين. فإذا ما أصبحت هذه البيئة قادرة على وضع تشريع خاص بها فإنّها لن تعود عندئذ محتاجة إلى التشريع الإسلامي الذي لا يواكب العصر ولا يتأقلم مع التقدّم الحاصل في كل المجالات وفق رأي الكاتب !!!
ليس هذا فقط بل جاء في ذات المقال "فكيف نستطيع أن نهضم ونتقبّل الموت السريري لمثل هذه الآيات الصريحة (آيات حدّ السرقة وآيات حدّ الزنا) ولا نتقبّل الأمربالنسبة لآيات الميراث؟ فمن وجهة نظر الكاتب، مادام حد السرقة قد تعطّل وحد الزنا قد تعطّل فلماذا لا نتسمّر في تعطيل العمل بآيات وأحكام الميراث ؟؟ والكاتب هنا يعبّر عن استيائه لما آلت إليه حالة النّاس حيث باتوا يتقبّلون تعطيل حد السرقة والزّنا ولا يتقبلون تعطيل العمل بآيات الميراث. والأصل في تصوّره أن يواصل الناس في تقبّل كل محاولة تهدف إلى تعطيل شرع الله. إني أستغرب أن لا يسعى الكاتب إلى رأب الصدع وجبر الكسر والرجوع إلى الأصل، كما هي وظيفة كل المسلمين والمصلحين والمفكرين والمثقفين عبر الزمان والمكان، بل ينادي بكل حماس وبكل تعطش واندفاع إلى تعطيل شرع الله بالتدرّج !
إنّ هذا التهافت في آراء محمد العيد الأدب يعبّر عن التذبذب في طرح الأفطار الذي تعانيه بعض نخبنا في تونس وفي العالم العربي. فهم يقدّمون أنفسهم على أنهم متمسّكون بالإسلام ولكنّهم ينادون ويطالبون في ذات الوقت باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بهدم أركان الإسلام ركنا بعد ركن وبتعطيل آياته آية بعد آية وبتحييده وإخراجه من حياة النّاس بالتدرّج. ولعلّ خير ما يمكن أن نختم به هذا المقال ما صرّح به السيد حمّادي الجبالي رئيس الحكومة الأسبق لصحيفة الشرق الأوسط في ديسمبر 2012 من أنّ "نكبتنا في نخبتنا".
وسوم: العدد 742