حديث عن آفة الغش وأشكالها في مجتمعنا على خلفية الزلزال السياسي
شغل ما سمي مؤخرا بالزلزال السياسي في بلادنا الرأي العام الوطني على إثر إعفاء المؤسسة الملكية مجموعة من الوزراء الحاليين والسابقين وكبار الموظفين نتيجة تقارير رفعت إليها تتعلق بما سمي مشروع منارة الحسيمة . و لا شك أن إجراء الإعفاء جاء نتيجة تقصير في القيام بالواجب على الوجه المطلوب . وإذا كان بلاغ القصر الملكي نزّه الذين أعفوا من مهامهم عن الاختلاس ، فإنه أدانهم بالتقصير، وحمّلهم مسؤولية تأخر تنفيذ ذلك المشروع وهو تأخير كان سببا في حراك جهة الريف . ولقد خاض الرأي العام الوطني في موضوع هذا الإعفاء من منطلقات وقناعات ووجهات نظر مختلفة دون التفكير في الخوض فيه من الناحية الشرعية.
ومن المعلوم أن التقصير يدخل حسب شرعنا في دائرة آفة الغش التي تضم العديد من الممارسات المنحرفة . والغش لغة مأخوذ من الغشش ، وهو كل مشوب بالكدر ، وشرعا هو خلط الجيد بالرديء. ويحصل الغش في الأمور المادية والأمور المعنوية على حد سواء .
ولما كان دين الإسلام هو الدين الحق كما جاء في قوله تعالى : (( إن الدين عند الله الإسلام ))، ولا يقبل غيره بديلا عنه كما جاء في قوله تعالى : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ، وكان للدين ركنان عبادات، ومعاملات وبينهما علاقة جدلية بحيث يؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به ، فإنه لا يستقيم أحدهما دون الآخر ، ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفسر صحابته عن المفلس ، فقالوا : "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة ، وصيام ، وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطي هذا من حسناته ، ويعطي هذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار " فهذا الحديث يؤكد الترابط الوثيق بين العبادات والمعاملات، ذلك إن الإفلاس حسب الحديث يكون في العبادات بسبب التقصير في المعاملات . وبسبب هذا الترابط الوثيق بين المظهر الشعائري للدين الإسلامي والمظهر التعاملي شاعت عبارة " الدين المعاملة " وهي مجرد قولة لم تصدر عن الرسول عليه السلام كما يظن البعض إلا أنه يوجد في كلامه ما يجعلها قولة صحيحة ،وذلك حين يقول عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة " فقالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". ومعلوم أن النصح لغة هو الخلو من الشوائب ، ويقال نصح العسل إذا خلّصه من شوائبه . وقوله صلى الله عليه وسلم :" الدين النصيحة " يعني تخليص مظهريه الشعائري والتعاملي من الشوائب . وحين يختل أحد المظهرين كما هو الشأن بالنسبة للمفلس الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق الأمر بشائبة تشوب الدين .
ومن المعلوم أن نقيض النصح هو الغش ، وهذا يعني أن الدين الإسلامي باعتباره نصحا أو نصيحة منزه عن الغش أو عما يشوبه عبادة ومعاملة .ومعلوم أن النصح لله عز وجل ولكتابه ورسوله عليه الصلاة والسلام إنما هو تلقي القرآن والسنة والتزام ما فيهما من أوامر ونواه وتبليغهما . أما النصح لأئمة المسلمين وهم علماؤهم وأمراؤهم لأنهم أولو الأمر فيهم حيث يقوم العلماء بالتوجيه والأمراء بالتدبير، فيكون النصح باتباع أهل العلم بكتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبإعانة أهل السلطان على أداء مهامهم . وأما النصح لعامة المسلمين، فيكون بردهم إلى شرع الله عز وجل كتابا وسنة أمرا ونهيا في عباداتهم ومعاملاتهم .
ومقابل دعوة الإسلام إلى النصح يحذر شديد التحذير من الغش، ويتوعد الغاش بالويل والثبور وعواقب الأمور ، ومن ذلك تحذير الله عز وجل المطففين وهم الذين يمارسون نوعا من الغش يتعلق بنقص المقدار في الموزون أو المكيل حيث يقول جل شأنه : (( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم )). وإذا كان سبب نزول هذه الآية هو ذم التطفيف زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن التطفيف في الإسلام مذموم في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة لأن العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم لا بسبب نزوله . وما ينسحب على التطفيف وهو الغش في المكيال والميزان ينسحب أيضا على التطفيف في كل المعاملات المادية والمعنوية . ولقد تقدم ذكر كلمة " ويل " في الآية الكريمة للدلالة على جسامة جرم غش التطفيف، وختمت بشديد الوعيد من خلال تذكير المطففين بيوم البعث وهو يوم مساءلة ومحاسبة .وعلى غرار وعيد القرآن يأتي وعيد الحديث إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " . ومعلوم أن الرعية كما عرفها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته " تتراوح بين أمة مسؤول عنها الأمير وبين أسرة مسؤول عنها الزوج والزوجة أو خدمة مسؤول عنها الخادم . و هكذا تتنوع الرعية بتنوع الرعاة وبتنوع مسؤولياتهم . ويكون حجم جرم الغش حسب نوع الرعية ، فالغاش للأمة أعظم جرما من الغاش لرعية دونها ، والعقوبة الأخروية تكون على قدر حجم جرم الغش وما يترتب عنه من مضار وخسائر . ومن شديد الوعيد أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : " من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا " إنها براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين يحاربون الأمة الإسلامية من المحسوبين على المسلمين ، والذين يغشونها . ويستوي الجرمان في الشناعة :القتل والغش بانسحاب حكم براءة الرسول على من يرتكبهما ،ويؤكد هذا حكم الله عز وجل في قوله تعالى : (( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا )) فجرم القتل في هذه الآية يساوي جرم الفساد ، والغش نوع من أنواع الفساد . وغالبا ما ندين ونشجب من يحمل علينا السلاح عندما تطالعنا وسائل الإعلام بتفكيك العصابات الإجرامية المسلحة التي تخطط للقيام بأعمال إرهابية عدوانية ،ونصفق لقوات الأمن التي تفككها ،ولكننا نغفل كل الغفلة عن جرائم الغش التي تضبط ونمر على ذكرها مرور الكرام ،علما بأن هذه الجرائم تفوق أحيانا جرائم القتل باعتبار ما تخلفه من خسائر تعاني منها الأمة كثيرا .
ومن أشكال جرائم الغش غش الرعية للرعاة، وذلك بالكذب في مدحهم بما ليس فيهم والإطراء عليهم وحمدهم بما لم يفعلوا محاباة وتملقا ، وكان الأجدر بالرعية أن تنصح الرعاة بالصدق في وصفهم عوض غشهم والكذب عليهم. ومقابل غش الرعية يغشها الرعاة بدورهم بالتقصير في أداء الواجب .
ومن أشكال الغش غش الآباء للأبناء وقد ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال : " كم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه ، وإعانته على شهواته ، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه ، وأنه يرحمه وقد ظلمه ، ففاته انتفاعه بولده ، وفوّت عليه حظه في الدنيا والآخرة ، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء " وهذا النوع من الغش لا يبالي به الآباء ولا يكاد يخطر لهم على بال مع أن ما يترتب عنه من مفاسد يلحق أكبر ضرر بالأمة ، وهو غش يصيب الأبناء وهم رأس المال البشري الذي لا عوض عنه.
ومن أشكال الغش أيضا تواطؤ المسؤولين أوالرؤساء مع المرؤوسين حيث يتملق هؤلاء أولئك ويحابونهم ، فيسكتون عن تقصيرهم وإخلالهم بواجباتهم طمعا في تعويضات أو ترقيات أو امتيازات أو مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة فيصير الغش عملة متداولة بينهم حيث يشهد المرؤوسون للرؤساء بالاستقامة والنزاهة وهم فاسدون مفسدون كما يشهد الرؤساء للمرؤوسين بالجدية والانضباط ، وكل ذلك زور وبهتان يكذبه واقع الحال حيث يستغل هؤلاء وهؤلاء مراكب الدولة المخصصة للصالح العام لأغراضهم الخاصة، فتقل أبناءهم إلى المدارس وأزواجهم إلى الأسواق وغيرها ،وتستخدم للتنزه، ويستغلون وقود الدولة فيصبونه في خزانات سياراتهم الخاصة ، ويستغلون أوقات العمل لقضاء حاجياتهم الخاصة ، ويستغلون كل المرافق العامة لأغراضهم الخاصة . ومن هؤلاء من يتقاضى أجرا على عمل لا يزاوله أصلا، وهؤلاء هم ما يعرف بالأشباح . ومن هؤلاء من يقضي معظم وقته خارج الوطن وهو محسوب على وظائف ومهام داخل الوطن ويتقاضى عنها أجرا ومرتبا شهريا زيادة على تعويضات أخرى . ومنهم من يتصيد الخرجات والأسفار بذريعة حضور اللقاءات والمؤتمرات والتكوينات ، فيكلف ميزانية الدولة مصاريف باهظة حيث يركب الدرجة الممتازة على متن الطائرات والقطارات ، وينزل بأفخم الفنادق ذات النجوم الخمس ، ويصيب ألذ الوجبات، كل ذلك على حساب مال الأمة ، ولا يقدم من الخدمة ما يعدل تلك المصاريف الباهظة ، وكل ذلك من جرائم الغش التي تبرأ ذمة المسلمين ممن يرتكبها في حقهم ، ويشملهم الويل الذي توعد به الله عز وجل المطففين ،علما بأن التطفيف لا يقتصرعلى المكيال بل يشمل كل أنواع التطفيف مما ذكرنا .
ومن أشكال الغش أيضا غش مختلف المعاملات المادية والمالية في البيوع ويكون بطرق شتى بغرض تحصيل المال الحرام أو السحت بالكذب والتزوير والتطفيف وكتمان عيوب السلع ، وبخس أثمنتها ، وخلط جيدها برديئها إلى غير ذلك من أنواع الغش التي لم تكن من قبل وصار الناس يتفننون ويتنافسون فيها . ولقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما روى أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صبرة طعام ، فأدخل يده فيها ، فأصابت أصابعه بللا، فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله ، قال : أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ من غش فليس منا "
ومن أشكال الغش أيضا ما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس ، فيزينون للناس السلع والمقتنيات الرديئة والفاسدة ، ويورطونهم في اقتنائها ، وقد قال ابن تيمية رحمه الله : " الغش إنما يدخل البيوع بكتمان العيوب " .
ومن أشكال الغش كذلك غش تعلم العلم ،وهو من أخطر أنواع الغش حيث يغش المتعلمون في الامتحانات ويحصلون على شهادات لا يستحقونها ، ويحصلون بموجبها على وظائف ومناصب غير مستحقة . ومن طلاب العلم من يستأجر من ينوب عنه في اجتياز الامتحانات ، أو يعد له البحوث والدراسات والرسائل فيحصل بها على درجات علمية ومناصب غير مستحقة ، ويكون كسبه منها سحتا ومالا حراما وغلولا يأتي به يوم القيامة .
ومن أشكال الغش أيضا غش ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو تعطيل فريضة النصح ، وهو أفظع أنواع الغش تعود فيه المسؤولية إلى العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ الذين لا ينكرون المنكر ولا يأمرون بمعروف خوفا من حكام أو مداهنة لهم أو تملقا ، فيستشري المنكر في الأمة . ويكون هؤلاء العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ هم شرار المطففين ، يستوفون حين يستفيدون معنويا من مكانة تبوأهم إياها الأمة ، ويخسرون حين يقصّرون في فريضة النصح لها وكأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وفي الأخير لا بد ونحن نخوض في موضوع ما سمي الزلزال السياسي في بلادنا ، ونعتبر إعفاء الوزراء وكبار الموظفين بسبب تقصيرهم في واجبهم مؤشرا على غشهم ألا يشغلنا ذلك عما يمكن أن نقع فيه من غش دون وعي به أو عن سبق إصرارمنا . ولا يجب أن نكون في وضعية الجمل الذي يرى أسنمة غيره، ولا يرى سنامه كما يقول المثل المشهور . وقد يكون من يدين غش غيره أغش منه . ومن كشف مساوىء الغير هتك الله عز وجل سترا عن مساوئه .
وسوم: العدد 744