إدلب، و عفرين، و الممرُّ إلى المتوسط
لا تتوانى أطراف معيّنة في قراءة الخارطة السياسية، بطريقة فيها كثيرٌ من الانحراف عن الموضوعية، لدرجة أنّهم قد أصيبوا بحولٍ في الرؤية، و بات بعض المتخندقين منهم في معسكر خصوم النظام، يروجون لرؤية النظام أكثر من متحدثيه و محلليه السياسيين.
فلمّا كان الرهان على دخول تركيا إلى إدلب، ما فتئوا ينفون أن تطأها أقدام الجنود الأتراك، و أنّهم لن يعودوا غير محمولين على عربات جيشهم، الذي لن تكون رحلته سعيدة إلى كروم زيتونها، ثمّ لمّا وقع اتفاق أستانة " 6 "، و شرعت القوات التركية في دراسة خارطة المواقع، التي سيكون فيها تموضعها، ثم الشروع في تحصينها، بدءًا من جيب عفرين كمرحلة أولى، و انتقالاً إلى ريف حلب الغربي كمرحلة ثانية، ثم الشريط الحدودي وصولاً إلى مشارف اللاذقية مع إدلب كمرحلة ثالثة، ليعقبها بعد ذلك الولوج في عمق إدلب، من خلال تمركزها في مطاري تفتناز و أبو الضهور كمرحلة رابعة.
أخذ أولئك يقولون أمورًا من نوع آخر، و ذلك أنّ تركيا ليست جادة في الاحتفاظ بإدلب، و أنّها ستجعل منها سلّة تقايض بها منطقة عفرين، معقل الوحدات المنبثقة عن حزب العمال الكردستاني، الذي لا تفكر تركيا بغيره، في يقظتها و أحلامها.
إنّ الذي يتابع مجريات الأمور، و توالي التصريحات على لسان المسؤولين الأتراك، ليدرك أنّ يوم السبت: 7/ 10/ 2017، غدا حدثًا مفصليًا في تاريخ سورية، ففيه تمّ القضاء على المخطط القسدي في الوصول إلى الأبيض المتوسط، و فيه رسمت نهايات مشروع الإمارة لتنظيم القاعدة في سورية، و في بلاد الشام عمومًا، و فيه أعطي الضوء الأخضر لتركيا لوضع بصماتها في شكل الحل المستقبلي لسورية، بالتشارك مع أطراف الحل الآخرين.
فمن غير المعقول أن تتموضع تركيا في " 1840 كم2 " في شمال حلب، و في " 7000كم2" في منطقة خفض التصعيد الرابعة ( 6100 كم2 مساحة إدلب + 900كم2 مساحة أجزاء من أرياف حلب، و حماة، و اللاذقية )، ثمّ تغادرها في غضون أشهر، أو تستبدل منطقة عفرين بها.
يبدو أنّ أنظار السوريين ستبقى لمُدَد طويلة آلفة رؤية الجندي التركي، و هناك من يراهن على أنّها لن تقلّ عن مدة وجود قوات الردع السورية في لبنان، التي دخلتها لمهمة مؤقتة دامت " 29 " سنة.
و في غالب الظن أنّ الأمر لن يقلّ عن عشر سنوات، و ذلك أنّ الحروب الأهلية عندما تضع أوزراها، لا تنعم البلد باستقرار نسبي قبل تشكيل ثلاث حكومات فيها، أي بمعدل: عشر سنوات بالحدّ الأدنى، و هي المدة التي لن يطلب فيها من القوات الأجنبية " و منها تركيا " مغادرة الأراضي السورية.
و ذلك أنّ تركيا ستستثمر فيها كثيرًا، و لن تترك نتائج ذلك لتمنيّات طائفة من هواة التنجيم السياسي، أو الذين ينقادون بالعواطف حين اتخاذ المواقف، و لاسيّما أنّ الشواهد تشي بما يعزز هذه القناعة.
فها هي في مناطق: جرابلس، و الباب، و الراعي، و إعزاز، قد بسطت نفوذها خدماتيًا بكلّ تفاصيل الأمر، ثم أمنيًا حيث قامت خلال اليومين الماضيين بتخريج " 5500 " شرطي، بعد إخضاعهم لبرنامج تدريبيّ في " 6 " أكاديميات أمنية تركية، ثم تعليميًا حيث اعتمدت اللغة التركية كلغة أجنبية ثانية إلى جانب الإنكليزية، بدلاً من الفرنسية " بواقع ساعتين في الابتدائية و الإعدادية، و ثلاث في الثانوية " في عموم مدارس منطقة الباب، لتنضمّ إليها لاحقًا مدارس المناطق الأخرى.
هذا إلى جانب أن معبر باب الهوى في إدلب يمثل الشريان البريّ للتصدير من عمق أوروبا مرورًا بتركيا إلى الخليج، و كان يحلو لكثير من عناصر جمارك النظام تسميته بـ " باب الذهب ".
حتى إنّ مسار الطريق الروماني القديم، الذي كان يربط محافظة حلب مع مناطق شمال إدلب، مع إنطاكيا، بطول " 45 " كم، لم يجدّ المهندسون وقتها غنى عن مروره بـ " باب الهوى ".
و عليه فإنّ القراءة المعقولة للمشهد السوريّ، بحاجة إلى كثيرٍ من الدقّة، و الموضوعية، و الواقعية، و من الانصاف أن يحترم فريقٌ من الكتبة و المحللين عقول المتابعين و المشاهدين.
وسوم: العدد 744