عَرَبٌ بلا عَرَبيَّة! (لسانُ العَيْنِ شَرْذَمَنا!)
رُؤى ثقافيّة 280
ألا أحدِّثكم عن ثقافة البناء والهدم التي نعيشها في واقعنا العربي؛ فتجعل العربيَّ، طفلًا أو راشدًا، لا يدري إلى أين تسير سفينةُ نوحٍ بثقافتنا المتخبِّطة في طوفان المتناقضات من المحيط إلى الخليج؟!
إليكم هذا الخبر القديم، الذي أحتفظ به منذ سنوات ضمن تقميشات من طرائف الأخبار: «تدخل اللهجات المحليَّة السعوديَّة المحكيَّة برمجيَّات الحاسب الآلي العالميَّة في مطلع عام 2008م. وقال مدير عام شركة مايكروسوفت السعوديَّة: إن هناك تعاونًا بين شركته ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتطوير تقنيات استخدام اللهجات السعوديَّة في البرمجيَّات الإلكترونيَّة، موضحًا أنه سيكون بمقدور أيِّ مواطن ينتمي لأيِّ لهجةٍ كانت أن يفرغ حديثه الصوتي إلى نصوص مكتوبة من خلال تقنية «فويس ريكوجنشن»، متوقعًا الانتهاء من تركيب اللهجات وبدء استخدامها خلال بداية العام القادم 2008م.»(1)
لقد قرأت الموضوع حينها عِدَّة مرَّات في اندهاش، وقلَّبته على وجوهه، لفهم الهدف القومي أو الحضاري منه. وإنْ صحَّ التوقيت، فقد طُبِّق استخدام اللهجات السعوديَّة في البرمجيَّات الإلكترونيَّة. والطريف أن الخبر ذُيِّل بالآتي: «هذه هي المرَّة الأُولى التي نقوم فيها بإطلاق إصداراتنا باللغة العربيَّة والإنجليزيَّة معًا، وذلك لإدراكنا مدى أهميَّة اللغة العربيَّة للمستخدم في بلادنا والمنطقة.»
فأيُّ أهميَّة للغة العربيَّة أو لبلادنا والمنطقة هنا؟!
بل أيُّ لغة عربيَّة هذه، والمواطن صار ينتمي إلى لهجته وقبيلته منذ الطفولة، لترسيخ التشظِّي العربي؟! حتى بتنا نسمع اليوم- بعد سنوات من خبر العِقد الأول من القرن الحادي والعشرين- مخترَعًا آخَر قَبَليًّا جديدًا هو: «عرب الشَّمال»، في مقابل «عرب الجَنوب»، وقبله في القرن الماضي: «الدول المغاربيَّة» و«الدول المشارقيَّة»! وهكذا يستمر مسلسل التفتيت والشَّرذمة والانحدار.
ونحن الآن في طور أحدث من «لهوجة» العربيَّة حاسوبيًّا، بعد أن تحوَّلت العاميَّة إلى لغة مكتوبة صحفيًّا. ومن المعروف واقعيًّا وتاريخيًّا أنه ما أن تصير لهجةٌ مدوَّنةً حتى تستحيل إلى لغةٍ مستقلِّة، طال بها الزمان أو قصر! فاليوم لم تعد العاميَّة لسانًا منطوقًا أو شِعريًّا أو صحفيًّا، بل ترقَّت طرائفها مؤخَّرًا إلى مشروعات، منها، على سبيل النموذج: «ويكيبيديا مصري»، بالعامِّيَّة المصريَّة على موسوعة «الوكيبيديا»، لتقرأ فيها حول (برتراند راسل)، مثلًا:
«بعد ما راسل خلَّص من كتابه عن فلسفة «ليبنيز» سنة 1900 بدأ مشروعه الكبير في المنطق والرياضيات... والكتاب ده كتبه مع صاحبه الرياضي والفيلسوف الفريد نورث وايتهيد وده كان أستاذه قبل كده. وفي سنة 1910 و1912 و1913 نشر التلت مجلدات بتوع كتاب قواعد الرياضيات بعنوان لاتيني Principia Mathematica. من وقت نشر مجلدات «قواعد الفلسفه» وجهة راسل الفلسفيه بقت معظمها تحليليه وأفكاره بقت من مصادر الإلهام للحركه التحليليه في الفلسفه Analytic Movement in philosophy، لكن شويه شويه ابتدى راسل يبعد عن المدرسه التحليلية ويهتم بـ«الأتوميه المنطقيه» Logical Atomism. معظم كتابات راسل في عشرينات وأوائل تلاتينات القرن العشرين بقت متوجهه للقراء العاديين بلغه سهله مفهومه، وراجت شوية كتب من كتبه دول بين الناس... ومع الكتب العلميه المبسطه دي ألف كتب تنويريه في السياسه والمجتمع والتعليم والثقافه والدين وغيره. زي «ما هو إيماني» (1925) و«الزواج والأخلاق» (1929) و«مستقبل العلم» (1931) و«التعليم والنظام الإجتماعي» (1932). كل الكتب دي كات قويه وبيشع منها ذكاء. وراجت شوية كتب من كتبه دول بين الناس...».(2)
وعلى هذا النحو من لغة «العَين» الجديدة، معتذِرًا إلى القرَّاء المحترمين عن نقلها بأخطائها الإملائيَّة، إلى عاميَّتها الشوارعيَّة، شاهدة على المستنقع اللغوي المعاصر. وإنْ كانت ذكَّرتني- والحقُّ يقال- بشرح مدرِّسينا في المراحل التعليميِّة كلِّها؛ فهكذا كانوا يشرحون لنا، حتى مقرَّرات اللغة العربيَّة. لكن من حسن طالعنا اليوم، نحن العرب، أن طرائق تعليمنا القديمة بالعاميَّة أصبحت حيَّة على الشبكة «العنكبوتية!»؛ كي نستغلَّ هذه التقنية التي صنعها «الكُفَّار» أحسن استغلال لترسيخ إيماننا، وعلومنا وجهلنا، وثقافاتنا وجاهليَّاتنا، ولهجاتنا وقبليَّاتنا، ولكي تغدو العربيَّة الفصحى عمَّا قريب كاللغة المهريَّة، لا يفهمها إلا ثُلَّة قليلة، وإنْ قيل إن جذورها عربية!(3) وما هو قادم أنكى وأمرُّ، بإذن الله!
ما من حضارة قامت على غير لغة قوميَّة. لكن العرب- بخفَّةٍ معهودة- يظنُّون الحضارة أن يُحاكوا كالسعادين، والحداثة أن يستهلكوا ما أنتجه الآخرون. على أن خطورة العاميَّات لا تكمن في فساد اللسان، ولا في تفريق الأُمَّة فوق ما فرقته السياسة، ولا في ضياع الهويَّة وشتات الثقافة فحسب، بل- إلى ذلك- في حمولات تلك اللغة اجتماعيًّا. ذلك أنَّ شِبْه جزيرة العرب، بصفة خاصَّة، لم تَرِث عاميَّاتها إلَّا في غضون قرون من العزلة والتخلُّف، مع ما ورثت من جهلٍ ومرضٍ وعاداتٍ وتقاليد بالية منكرة، رتعت فيها منذ انتقال العاصمة الإسلاميّة من (المدينة المنورة) إلى (دمشق) ثمَّ (بغداد). ولم تكن العواصم الإسلاميَّة تُعِيْر الجزيرة العربيَّة اهتمامًا يُذكَر؛ فعاشت في ظلامها القديم، وضلالها العتيق، بل انحطَّت عنهما أَدْرَاكًا عميقة. ولم تَقُم لهذه الديار قائمة- قبل العهد السعودي الحديث- منذ أكثر من أربع مئة عام وألف.(4) أفنعيدها جاهليَّةً جذعةً، لنستبدل الذي هو أدنَى بالذي هو خير؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) https://goo.gl/rtkcZt
(3) قبيلة المهرة قبيلة يمانيَّة عريقة معروفة، لكن لغتها غير معروفة. وأشكَّ في أن المهريَّة عربيَّة أصلًا، أو حتى ساميَّة. ولعلَّها متشكِّلة بمزيج من آثار أجنبيَّة، أفريقيَّة أو آسيويَّة، مع بعض العربيَّة، نتيجة هجراتٍ واختلاطٍ لغوي. ومن الجهل لدَى بعض الناس تصوير الحِمْيَريَّة كأنها لغة أخرى غير العربيَّة. وهي لغة نجِد آثارها في بعض لهجات جَنوب الجزيرة إلى اليوم، كلهجات جبال (فَيْفاء)، و(بني مالك)، و(الرَّيث). نعم، في الحِمْيَريَّة اختلاف عن العربيَّة السائدة والمدوَّنة، غير أن بوسع من سمعها بتمعُّن أن يفهمها؛ كيف لا وهي أصل العربيَّة الأمّ، بحسب الرواية الإسماعيليَّة المعروفة! بل إننا حين نستقرئ أقدم اللغات الساميَّة، كـ(الأكديَّة) و(العبرانيَّة)، نلمح- وإنْ لم نكن علماء في الساميَّات- علاقة تلك اللغات بالعربيَّة. أمَّا المهريَّة، فتبدو بعيدة عن العربيَّة جِدًّا، وعن الساميَّة الأولى. لذلك فهي نسيج وحدها، ولا يمكن أن تُعَدَّ للعربيَّة لا في أصلٍ ولا في فرع، ولا صلة لها بالحِمْيَريَّة. دليل ذلك أنك لو استقرأت بعض النقوش الحِمْيَريَّة القديمة نفسها، لوقفت على علاقتها بالعربيَّة كما نعرفها. وهو ما لن تجده في المهريَّة. بيد أن عامَّة الناس ينسبون ما لم يفهموا من لغات العرب إلى الحِمْيَريَّة، هكذا اعتباطًا، كما ينسبون ما لا يعقلون إلى عالم الجن والعفاريت!
(4) في هذا الصدد يشير (بِدْول، روبن، (1989)، الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية، ترجمة: عبدالله آدم نصيف (الرياض: ؟)، 12- 13) إلى أن الدولة العثمانيَّة لم تُوْلِ اهتمامًا لأحوال الجزيرة، وإنَّما كان يعنيها الولاء للباب العالي، ولم تُظهِر اهتمامًا حتى بالحجاز، لولا حادثة وقعت في عام 1757م، ذهب ضحيتها عشرون ألف حاج، إثر عمليَّة سلبٍ ونهبٍ قام بها البدو على قافلتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «عَرَبٌ بلا عَرَبيَّة! (لسانُ العَيْنِ شَرْذَمَنا!)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الخميس 26 أكتوبر 2017، ص16].
وسوم: العدد 744