ما أحوج نساء هذا الزمان إلى نصيحة أمامة بنت الحارث زمن الجاهلية التي قدمتها هدية لبنتها ليلة زفت لزوجها
لا أظن أن تخبيب النساء على أزواجهن بلغ ما بلغه في هذا الزمان . ومعلوم أن تخبيب النساء هو إفسادهن على أزواجهن والتغرير بهن ومخادعتهن . ولقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين يخببون النساء على أزواجهن في الحديث المشهور : " ليس منا من خبب المرأة على زوجها " . وما أكثر الجهات التي تساهم اليوم في تخبيب الزيجات المسلمات على أزواجهن . وأول من يخببهن أوساطهن العائلية بدءا بالأمهات اللواتي ينصبن أنفسهن وصيات على البنات بعد زواجهن ، ويتخذن مكانة الآمرات الناهيات في بيوتهن إلى درجة أن تلك البيوت تبنى وتفرش على أذواقهن ، ويطبخ ويأكل ويشرب فيها ما يروقهن من طعام وشراب ، ويتحكمن في مواعيد الإنجاب ، وفي اختيار أسماء المواليد علما بأن وصاية الأمهات على البنات تبد منذ لحظة خطبتهن ، ويكون الصداق ، والجهاز ،وحفل الزفاف وكيفيته ومكانه وزمانه مما تقرره الأمهات الوصيات . وتدخل البنات المتزوجات بيوت الزوجية دخول الغازيات الفاتحات، وتبدأ من أول وهلة عملية استعباد الأزواج والتمادي في إهانتهم بكل أنواع الإهانات، ويل لمن ضاق ذرعا بالإهانة، وحدثته نفسه بالثورة والثأر لرجولته وكرامته . وعلى قدر خضوع الأزواج للزيجات حسب وصاية الأمهات الوصيات يجدون شيئا من الرفق في المعاملة من الزيجات والأمهات الوصيات الفضوليات والتي لا تعدو أن تكون تلك المعاملة نفاقا مكشوفا سرعا ن من يسقط قناعه ،فتصير الابتسامة المتكلفة الصفراء تكشيرا ، والمجاملة الكاذبة الخادعة سلاطة لسان منهن .وتمعن الأمهات الوصيات على البنات الزوجات في التحريض على إخضاع أزواجهن للامتحان والاختبار خصوصا فيما يمس موضوع رجولتهم وما يثير غيرتهم من أجل ترويضهم على الخنوع والخضوع، فيقبلون ما لا تقبله طباع الرجال من إهانة وإذلال . وأسلوب الترويض يكون بالتهديد بالفراق، والإحالة على المحاكم ،والحرمان من رؤية الأولاد ، وإنهاك الجيوب بالمصاريف والنفقات ، فضلا عن تشويه السمعات بالتشهير .
وتأتي بعد الأمهات في الوصاية على البنات المتزوجات القريبات من جدات وخالات وعمات وأخوات، وأحيانا جارات وصديقات أيضا . ولا تقف الوصاية على البنات المتزوجات في زماننا عند هذا الحد بل تتعدى ذلك إلى الجمعيات والمنظمات التي كثرت في هذا الزمان ،وصارت وصايتها على بيوت الزوجية أشد ، فوقع من تخريب هذه البيوت ما لم يعهد من قبل حتى صرنا نسمع بإدانة ما يسمى بالاغتصاب الزوجي ولا زال أمره يلفه الغموض إذ لا ندري ما المقصود منه على وجه الدقة ، وصار الدفاع عن بيوت بلا أزواج من خلال المطالبة برفع الإدانة عن الأمهات العازبات .
وأمام هذا الوضع الذي آلت إليه بيوت الزوجية في هذا الزمان، ارتأيت أن أقف عند وصية امرأة في جاهلية العرب لابنتها ليلة زفت إلى زوجها ، وهي أمامة بنت الحارث لأستنبط منها كيف تكون وصية الأمهات للبنات لا الوصاية عليهن . وفيما يلي نص الوصية التي يجب أن تدونها الزوجات في هذا الزمان بمداد من ذهب :
( أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ،ومعونة للعاقل. ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغني أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه ، ولكن النساء للرجال خلقن ، ولهن خلق الرجال .
أي بنية ، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ،وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه ،وقرين لم تألفيه ،فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا ، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا .
أي بنية ، احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرا وذكرا : الصحبة بالقناعة ، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة ، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع أنفه ،فلا تقع عيناه منك على قبيح ، ولا يشم منك إلا أطيب ريح . والكحل أحسن الحسن ،والماء أطيب الطيب المفقود ، والتعهد لوقت طعامه ، والهدوء عنه عند منامه ،فإن حرارة الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مغضبة ، والاحتفاظ ببيته وماله ، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله ، فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير ، والإرعاء على والعيال والحشم حسن التدبير ،ولا تفشي له سرا ولا تعصي له أمرا، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره ، وإن عصيت أمره أوغرت صدره ،ثم اتقي مع ذلك الفرح إن كان ترحا ،والاكتئاب عنده إن كان فرحا ، فإن الخصلة الأولى من التقصير ، والثانية من التكدير ، وكوني أشد ما تكونين له إعظاما ،يكن أشد ما يكون لك إكراما ،وأشد ما تكونين له موافقة ، يكن أطول ما يكون لك مرافقة . واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك ، وهواه على هواك ،فيما أحببت وكرهت ، والله يخيّر لك ).
وفيما يلي التعليق على هذه الوصية عسى أن تستفيد الزيجات منها وتتجنب بذلك وصاية الأوصياء عليهن أمهات وقريبات وصديقات وجمعيات وهيئات :
بداية لا بد من الإشارة إلى صيغة النداء " أي بنية " وما توحي به من صدق المحبة وشدة الشفقة ، وقد اقترن النداء القريب بالتصغير المحبب .
وبعد ذلك فصلت الأم في أمر حديثها مع بنتها التي حان وقت أن تزف إلى بيت الزوجية ، فهو حديث وصية لا حديث وصاية . ولم تر الأم الناصحة استغناء ابنتها العاقلة عن وصيتها مع أنها أشرفت على تربيتها، وهي على ثقة من حسن تربتها، ولكنها أرادت بنصيحتها التذكير الذي ينفع عند الغفلة ، والعون الذي يكون عند التعقل . وأول النصح حديث الأم عن ضرورة الزواج الذي لا غنى لرجل أو امرأة عنه ، ولو استغنت الأبناء والبنات عنه لكان الآباء والأمهات أغنى منهم عنه ، وفي هذا الكلام إشارة إلى أن البنات لا بد لهن من الرحيل عن الآباء والأمهات مع شدة حاجتهم إليهن ولا يعني ذلك الزهد فيهن ،بل يزوجن وهن قرة العين ومحبوبات عند الآباء والأمهات، لأن الزواج سنة الله عز وجل في الخلق . ولا يوجد أثمن من هذه النصيحة التي تقنع البنات بضرورة الزواج ، وتجعله أمرا محبوبا مرغوبا فيه في أعينهن . ويستمر نصح الأم العاقلة المتزنة المجربة من خلال المقارنة بين الوسط التي عاشت فيه البنت وتركته ليلة زفت إلى زوجها ، والوسط التي حلت به ، أما الوسط الذي تربت فيه فهو عبارة عن عش ، والعش يطلق على مأوى ضعاف الطير وألطفها ، وأما الوسط الذي انتقلت إليه فهو عبارة عن وكر ، والوكر يطلق على مأوى الطيور الكاسرة وأخشنها . وفي هذا تلميح إلى حياة الدلال التي تربت عليها البنت في بيت أهلها ، والذي لا يجب أن تستمر في بيت الزوجية ،لأنه لكل وسط ما يناسبه من التصرف والسلوك ،ذلك أن رقة الأبوين وعاطفتهما يكونان سببا في دلال البنات ، وحين تفتقد تلك الرقة وتلك العاطفة الأبوية، لا تعود محل إعراب لما كان ينتج عنهما من دلال . ونبهت الأم الناصحة بنتها إلى أن الزوج قرين غير مألوف لأنه بدوره خضع لتربية وسطه الذي نشأ فيه ،وله طباعه الخاصة به والمخالفة لطباع الزوجة ، وهو تنبيه ذكي لاختلاف الطباع الذي يقتضي تعايشا حتى تحصل الألفة ولا تحصل إلا بعد حين . وتنبه الأم الناصحة بنتها إلى سلطة الزوجية بقولها : " أصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا" ذلك أن هذه السلطة تقتضي من الزوجة قبول هذه السلطة ، والخضوع لمقتضياتها، وهي غير سلطة الأبوين ، والتحكم فيها غير تحكم الأبوين ، ويوجد في كل سلطة ما ليس في الأخرى من إيجابات وسلبات ، وبينهما تكافؤ ، و قد تجد الزوجة في سلطة الزوج من الإيجابيات ما لا تجده في سلطة الأبوين، والعكس صحيح أيضا . وتزود الأم العاقلة بنتها بالحل الأنسب للتعامل مع سلطة الزوج ،فتنصحها بأن تكون له أمة ليكون لها عبدا ، وقصدها أن طاعة الزوجة زوجها تجعل سلطته عليها في حكم المنعدمة ، ذلك أن خضوع الزوجين أحدهما للآخر يجعلهما في نفس المرتبة ، وعلى قدر خضوع الزوجة لزوجها يخضع لها، فيكون الخضوع بينهما خضوع مودة ومحبة . وعبارة " عبدا وشيكا " في نصيحة الأم العاقلة تدل على أن استجابة الزوج لخضوع زوجته له يكون أسرع .
وتنتقل الأم الناصحة الموصية إل سرد عشر خصال لتكون بنتها زوجة سعيدة في بيت زوجها بعد سعادتها في بيت أبويها ، وهذه الخصال هي كالآتي :
قناعة الزوجة بما يوفره لها الزوج، وكأن الأم تنبه ابنتها إلى أنها قد لا تجد في بيت زوجها ما كان متوفرا في بيت أبويها ، فتصدم بسبب ذلك ، لهذا أوصتها بالرضى عما يوجد في الوكر، وعدم التشوق لما كان في العش . والأم العاقلة لا تقصد الأمور المادية فقط ،بل تلمح إلى الأمور المعنوية ، فقد لا تجد الزوجة من الحنو والعطف في بيت الزوجية ما كانت تجده في بيت أبويها ، وعليها أن تقنع بما تجده من عاطفة في بيت الزوجية والتي لا ترقى إلى عاطفة الأبوين. وتنبه الأم العاقلة بنتها إلى أن حسن المعاشرة الزوجية قوامه السمع والطاعة لأن غيابهما يفضي إلى نشوز وسوء معاشرة . وإذا كان ثمن السمع والطاعة هو حسن المعاشرة فلا يضيران الزوجة وقد فازت بصفقة رابحة هي حسن المعاشرة. وتنبه الأم العاقلة بنتها إلى موضع عين زوجها ، وموضع أنفه وهي تريد ما تقع عليه حاستي بصر وشم الزوج من أحوال الزوجة، وهو يلتمس فيها الجمال ، والطيبوبة . ولا تقصد الأم العاقلة الجمال والطيبوبة الماديين فقط، بل المعنويين أيضا ، ذلك أن عين الزوج بقدر ما تقع على الهيئة المادية للزوجة تقع على هيئتها المعنوية ، وكما يكون القبح والجمال في الهيئة المادية، يكونان في الهيئة المعنوية أيضا ، وكذلك بقد من يشم الزوج المادي ، فإنه يشتم المعنوي أيضا ، وللمعنوي رائحة كرائحة المادي تطيب وتخبث . وتقترح الأم العاقلة على بنتها الزينة المادية، فتشير عليها بالكحل، ولكن خلف هذه الإشارة إشارة معنوية حيث تنبه بنتها إلى جمال العين المعنوي أيضا لأن العيون حمالة رسائل من خلال النظرات ، ومن الأزواج من يجيد قراءة وتأويل نظرات الزيجات ، وقد تجيد الزوجة تكحيل العين المادي، ولا توفق في الكحل المعنوي، وهو أهم من المادي وأجمل . وتنصح الأم العاقلة بنتها بالطهارة المادية بالماء ، ولكن خلف هذه النصيحة نصيحة بالطهر المعنوي، لهذا عبرت عن ذلك بقولها " أطيب الطيب المفقود " ذلك أن الماء لا يفقد إذ لو فقد لهلك الناس ، وما أظن الأم الناصحة إلا قاصدة الطهر المعنوي عفة وإحصانا .وقد تشي عيون الزوجة ونظراتها بما يدنس هذا الطهر المعنوي، فتقع عين الزوج عليه، فيتسرب الشك والريبة إلى نفسه . وتلفت الأم العاقلة نظر بنتها إلى العناية بالزوج إطعاما ومعاشرة ، وقد نبهتها إلى أن حرارة الجوع ملهبة ، وأن تنغيص النوم مغضبة ، ولا تقصد الأم الجوع والنوم المعروفين فقط، بل تقصد نوعا آخر من الجوع والنوم ، وتحذر بنتها من ملهبة هذا ،و من منغصة ذاك . وتنصح الأم بنتها بعد ذلك بحسن التصرف في مال زوجها، وفي ذلك تحذير لها من التبذير ، وبحسن معاملة أهله وعياله ، وفي ذلك تحذير لها من سوء معاملتهم . ومما يجعل الزوج يتودد إلى زوجته حرصها على حسن التصرف في ماله ، وحسن المعاملة مع أهله وعياله . وتنصح الأم العاقلة بنتها بتجنب إفشاء أسرار زوجها، لأن ذلك قد يعرضها لغدره ما دامت قد غدرته بإفشاء أسراره ، كما تحذرها من عصيان أمره، لأن ذلك يكون سببا في كراهيته لها وحقده عليها . وعلى قدر طاعة الزوجة لزوجها يكون حبه لها ، وعلى قدر عصيانها ونشوزها تكون كراهيته لها. وتوصي الأم الحكيمة بنتها بالتفاهم والتناغم مع زوجها في المشاعر والأحاسيس ، فتنهاها عن الفرح بين يديه وهو حزين أو الحزن بين يديه وهو فرحان . وعلى قدر التناغم والتفاهم في المشاعر والأحاسيس بين الزوجين تكون المودة بينهما وتدوم عشرتهما في سعادة وهناء . وتنصح الأم الحكيمة بنتها بتعظيم قدر زوجها لتنال إكرامه ، والحرص على موافقته وعدم معاكسته ومخالفته لتدوم عشرتهما وتطيب حياتهما . وتختم الأم الحكيمة نصحها لبنتها بأثمن نصيحة حين تدلها على تفضيل ما يرضي زوجها على ما يرضيها ، وتفضيل هواه على هواها ، وهو وسيلتها إلى نيل مبتغاها ، وما تريده منه ، وعلى قدر ما تحرص على إرضائه يكون أحرص على إرضائها ، وعلى قدر ما توافق هواه يوافق هواها . وبعد هذا النصح تدعو الأم الناصحة لبنتها بالخير بقولها : " والله يخيّر لك " .
فأين الأمهات الوصيات على بناتهن المحرضات لهن الجاهلات بمصالحهن والمستخفات بحياتهن الزوجية في هذا الزمان الرهيب من هذه الأم الموصية الناصحة لبنتها والحريصة على مصلحتها ، والمهتمة بحياتها الزوجية في زمن الجاهلية الذي تفصله عن زمامنا قرون ؟
وسوم: العدد 745