في التفسير الطائفي للثورة و للتاريخ

عشنا عقودا من الزمان يحاصرنا التفسير المادي للتاريخ . وحسبما توجهنا في عالم الفرد وعالم الجماعة ، في عالم الفكر ، وفي عالم السياسة ، وعالم الاجتماع وعالم الاقتصاد ، في رؤية الماضي ورؤية الحاضر والمستقبل ، في تفسير الأحداث ، وقراءة الآداب ؛ تحاصرنا الماركسية العلمية ، أو النظرية المادية التي مدارها على أن الصراع على ( الكلأ ) هو سر صراع البشر ، ومفكك عقد التاريخ ، وسبب التدافع الأزلي بين الأفراد والجماعات .

وعلى التوازي من هذه النظرية كان التفسير الآخر ، المنتزع هو الآخر من عالم الغابة ، في النظرية التي مدارها ، على أن الرغبة الجنسية المشبوبة أو المكبوتة هي سر صناعة التاريخ . وكما يزعم فرويد ، فإن النبوغ والإبداع ، والجنون والفصام ، والتقدم والتأخر ، ونوم الإنسان ويقظته ، ونشاطه وكسله ، وحدوث كل ذلك على مستوى الفرد والجماعة سببه دافع جنسي أصيل يظل يطل في عالم الإنسان يبدأ من تعلق الصبي أوديب بأمه والبنت الكترا بأبيها ..

اليوم وعلى التوازي من هذا وذاك يروج تفسير في صفوف بعض الناس ، بسبب جرعة سلبية قوية من الممارسات الخاطئة ، وبنفس الطريقة التي راجت بها تفسيرات الماركسية والفرويدية بأنه لا يتحرك متحرك في عالمنا الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي وعلى المستوى الفردي والاجتماعي إلا ووراؤه ( غريزة ) طائفية ، الكل يتفق على أنها مقيتة ، ويصر البعض على أنها مرجعية التفسير الأول في عالم الإسلام والمسلمين ..

وكما كنا نقول يوما لأنصار المادية الماركسية ، ولأنصار الفرويدية إن تفسيراتكم فيها بعض الصواب ، ولكن ليس فيها كل الصواب ؛ نقول اليوم لكل الغارقين في مستنقعات الممارسة والتفسير الطائفي ، وبشكل خاص للعراقيين والسوريين: إن الطائفية بالمعنى السلبي حاضرة بقوة في صنع واقعكم ؛ ولكنها لا تفسر كل شيء . وتفسير كل شيء بها وعلى أساسها يقحمنا في متاهة مضللة ، تبعدنا عن مقاصدنا ، وعن أهدافنا ، وعن مغذيات رؤيتنا وثورتنا .

ونضيف إن الطائفية المقيتة هي سلاح ماضي الحدين ، ويذبح في الاتجاهين ، فإذا كان محاربونا يعتمدون عليه سلوكا ، ويحشدون على أساسه عمليا ، فإن هذا السلاح الأجرب ، لا يصلح لنا ، ولا يخدم رؤيتنا ولا مشروعنا ولا حاضرنا ولا مستقبلنا . إن الذي يجب أن يكون واضحا أن الطائفية ليست منطلقنا ، ولا تخدم مصالحنا ، بل تقطع الطريق على أساس مشروعنا في الاحتواء الإيجابي الذي يجذب ولا ينبذ ، يجمع ولا يفرق .

إن الوعي الحقيقي في الموقف الذي يجب أن نصير إليه ليس في استمراء الكذب على الذات الفردية أو الجماعية تحت عناوين الإخاء الوطني ، الذي كان الفخ الذي نصب لنا على مدى نصف قرن ، وإنما في الرؤية المبصرة التي تعي أبعاد المؤامرة فتحبطها ، وتنظر إلى ( المستنقع الطائفي والغارقين فيه ) نظرتنا إلى مثل أوبئة الجذام والإيدز؛ ومع كل الحرص على علاج المصابين بها ، يجب أن نحذر الدعوى في منهج واضح للدفاع عن أنفسنا .

التفسير الطائفي كما التفسير المادي والتفسير الفرويدي لا يسعف أصحابه في تفسير ما حصل ويحصل في كثير من الوقائع التي نعيش ومنها ما جري في مصر ويجري في ليبية ، وما يجري فيشقق الأرحام بين أهلنا في دول الخليج ..

ليس خطيرا أن يخطئ أحدنا مرة أو مرات في القياس . وإنما الخطر كل الخطر أن تكون مرجعية القياس لديه مزيفة ، فيظل يطلق أحكامه ؛ في الدين هذا حلال وهذا حرام ، وفي القيم هذا جميل وهذا قبيح ، وفي السياسة هذا خطأ وهذا صواب.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 749