دين على مقاس الحاكم...
"وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"
بداية فإن دين الإسلام لا يفترض علاقة تصادمية بين العلماء والأمراء، فالعلاقة الأمثل بينهما هي التعاون لا التنازع أو التنافر.
ذلك أن أحد الطرفين يقوم على دين الناس، والآخر يقوم على دنياهم.. وكما قال الشاعر: ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا. والتعاون مبدأ إسلامي أصيل لاستحصال المصالح ودرء المفاسد عنهم، يقول الله تعالى "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".
وهذان الصنفان أمرهما عظيم، فبصلاحهما تصلح الناس وبفسادهما تفسد الناس، وأسوأ ما يكون الحال إذا فسد الطرفان، فلم يعد أحدهما قادرا على تصحيح مسار الآخر.. عندها يصيب الأمة جمود وانكسار واندحار، يظهر معه الفساد في البر والبحر. والعلاقة بين الطرفين تقوم على أوجه أربعة:
أولها: وهو الوجه الأفضل، وهو التعاون بين الطرفين تحت مظلة دستورية تحدد دور وطبيعة مهام كل طرف منهما، بما يحقق المصالح الجماعية والفردية للأمة، فلا يتحقق "البِرُّ" بين الناس إلا على يد حكم صالح رشيد، ولا تتحقق "التَّقوى" في قلوب العباد إلا على يد عالم رباني حكيم رؤوف حليم.
ثانيها: وهو نفور الحكام من أهل العلم وازدراؤهم، وبالمقابل ثالثها: وهو نفور العلماء من الحكام والترفع عن بذل النصح الصادق معهم، وربما وصل الأمر إلى تعجل الخروج عليهم وتأليب العامة ضدهم... وفي الحالتين يحصل خلل في الجانب الروحي والأخلاقي والقيمي في المجتمع، حتى وإن تحققت حالة من التنمية والعمران، ويعيش المجتمع حالة من الشد والتعصب والاستقطاب والشحن الدائم... وتضيع كل هذه المكاسب والانجازات إذا انزلق المجتمع إلى الفوضى والعنف.
رابعها: وهو أن يستخدم الحاكم (بعض العلماء) نتيجة هوان الدين في قلوبهم، وهوان نفوسهم وارتفاع حظوظ شهواتهم، وهنا يعمل الحاكم على إعلاء شأن أتباعه وتضخيم دورهم وإبراز أسمائهم، والحط من شأن الذين لا يسيرون على هواه، ولا يتلاعبون بالدين عبر تكييف نصوصه على مقاس الحاكم.. وعلى يد وعاظ السلاطين نرى الأسوأ حيث يسود التعاون على "الإثم والعدوان". "الإثم" في الدين والدنيا لفساد أهل العلم، و"العدوان" على حقوق الفرد والمجتمع لفساد الأمراء... وقد تنتهي هذه المرحلة بتسلط العدو الخارجي مستغلا ضعف المجتمع وانحلال نسيجه واضمحلال عناصر قوته.
لا مخرج للمجتمع إلا بالمضي في المسار الأول، وضبط العلاقة بين أهل الدين وأهل الحكم وتوضيح حقوق وحدود كل طرف منهما وعلاقة كل طرف منهما بالأمة وحدود تأثيره فيها وتأثره بها.. فيتم كتابة دستور تتبين فيه العلاقة بين الدين والدولة والأمة بوضوح، وعندذاك يتحقق قوله تعالى "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ".
نعم أيها الفاسدون من الأمراء والعلماء... واعلموا أن الله شديد العقاب، لما يجره فسادكم على الناس من بلاء وعناء..
وسوم: العدد 754