مصر والسودان منهجية الاختلاف واستراتيجية الإلتقاء

د. سامي محمد الأخرس

يضرب  التاريخ جذوره عميقًا في تاريخ العلاقات المصرية - السودانية التي كانت في مراحل طويلة تشكل وحدة جغرافية متكاملة، ووحدة أعم وأشمل وأعمق (ديموغرافيًا)، كما غزة هي البعد الأمني القومي لمصر، فإن السودان بوابة أمنية قومية وامتداد أمني أعمق وأشمل أيضًا لمصر، لذلك فإن البلدين لديهما من التاريخ والمستقبل، والترابط ما يجمعهما أكثر ممّا يفرقهما، ولكن هي مسيرة الدول، ومسيرة الشعوب، وحالات الشدّ الجذب سواء من ناحية الاختلافات السياسية، أو النزاعات الطارئة التي تظهر بين الفينة والأخرى، ولكن كل هذه النزاعات والتجاذبات تهزم أمام الروابط الديموغرافية والاجتماعية، والتاريخية المتأصلة في عمق التاريخ، وهذا ما تدركه وتعيه الأنظمة السياسية في البلدين مهما تناقضت الأيديولوجيا، واختلفت الرؤى السياسية، فالاختلافات حول العديد من المسائل والنهج السائد حاليًا بين النظامين المصري والسوداني في المرحلة الأخيرة، هو نقيض ايديولوجي - سياسي ذو توجهات سياسية أيديولوجية نظرًا لاختلافات البنية الأيديولوجية بين النظامين، وما مرت به المنطقة العربية عامة، والساحة المصرية خاصة من متغيرات سياسية، أي أنه نتاج اختلافات أيديولوجية في بنية كل نظام، لكن لا يمكن أن يتصاعد منسوب هذا التوتر وهذا التباين لمستوى الصدام، والنزاع والمواجهة العسكرية، وإن كانت هناك بعض القوى الإقليمية تحاو استغلال هذا الاختلاف لتأجيج الصراع وتفعيل أوجه التناقضات فيما بينهما، إلَّا أن ما جئنا عليه سابقًا في السياق المحكوم لديموغرافيا العلاقات والتاريخ أن يدفع تهور أي نظام لصدام عسكري مباشر أو غير مباشر، مهما أثرت العديد من القوى الإقليمية، لأن التاريخ والروابط التاريخية العميقة، لا يمكن لها أن تخضع لموازين الاستفزاز أو التهور، فكلا النظامين يدرك أن الصدام هو ضرب من ضروب الانتحار، وضرب للأمن القومي وامتداد أمن كل بلد، وهذا الإستدراك لا يمكن أن يحقق اختراق من أي قوة ومؤثراتها، نتيجة استدراك كل نظام من النظامين المصري والسوداني، وخاصة السوداني الذي يدرك خطورة استعداء مصر أو الوصول معها لحالة صدام، فمصر قوة اقليمية لها تأثيرها وثقلها في الساحتين العربية والإقليمية وكذلك الدولية، وكذلك يدرك خطورة مصر على الأمن القومي السوداني عامة والرأي العام السوداني وقواه الحية.

فالإستراتيجية ثابتة في تفكير وبنية التفكير السياسية للبلدين مهما اختلفت الأيديولوجيا، وأن هذا الضجيج المتوتر لن يخرج عن نطاق الظاهرة الصوتية، أو المناكفة الاستفزازية بين نظامين في حالة تناقض أيديولوجي أكثر منه تناقض سياسي، لن يتحول بأسوأ حالاته وضجيجه إلى صوت المدافع وأزيز الطائرات.

ربما في قراءة الحالة المصرية - السودانية يغلب الصيغة التاريخية في محاكمة الجانب التحليلي والتنبؤ بالمستقبل، وتطورات هذا الخلاف القائم حاليًا، وهذه القراءة لا يمكن التنبؤ بها أو استنباط تطوراتها بعيدًا أو رسم سيناريوهات تحتكم للخروج عن سياق التاريخ، ودلالات واستدراكات التفكير العميق في آثار ونتائج أي تهور وصدام مباشر، ولكن ربما يمارس أي نظام ضغطًا أو استفزازًا كحالة مباغتة على الآخر سياسيًا أو اقتصاديا، في قضايا معينة مثل قضية سد النهضة الأثيوبي، وهي قضية أمن قومي بالنسبة لمصر وهذا ما تدركه السودان جيدًا، وأي تحالفات في هذا الموضوع خارج مصر يعتبر اعتداء مباشر على الأمن المجتمعي والاقتصادي لمصر، وهنا لن تحاول السودان المس بهذا الأساس عمليًا كونها ستكون شريك معتدي مباشر مع أثيوبيا، كذلك اتهامات السودان لمصر في قضية دعم المعارضة السودانية ضد النظام الحالي وهي ما تعتبره السودان تدخلًا مباشرًا في شؤونها الداخلية وضرب استقرارها الداخلي ومحاولة لتغيير بنيتها النظامية السياسية، وهذا ما تدركه مصر التي يرجح البعض امكانية فعل ذلك في اطار حربها وحملتها ضد الأخوان المسلمين، وكون النظام السوداني جزء من هذه الجماعة أو قريب منها، ولكن كل ذلك لا دلائل له بما أن الحدود السودانية أمنة ولم يتم رصد محاولات تهريب أو دعم للجماعات الإرهابية في مصر من السودان، إذن فكلها تأتي من باب تبادل الإتهامات والمناكفات حتى راهن اللحظة دون أي قرائن ثابتة واستراتيجية، ليس من باب إلَّا من باب استدراك النظامين لخطورة أي انهيار في بناء الاستقرار في أي من البلدين.

إن التشابك والتداخل في العلاقات السودانية - المصرية يؤكد أن حالات الاستنفار أو استدعاء السفير السوداني للتشاور في الخرطوم ما هي إلَّا ضمن بؤر التوتر الناجزة في ردات الفعل التي ستنتهي قريبًا وفي المستقبل القريب لصالح تفاهمات فاعلة بين البلدين تحافظ على استقرار العلاقات في حدها الأدنى إن لم يتم تطويرها وتحديد مدخلاتها ومخرجاتها، ومحاذير كل نظام للآخر، في ظل مراجعة شاملة وعميقة لكل أجهزة ومؤسسات الدولتين. فالوشائج والروابط الأجتماعية والأمنية والتاريخية بين البلدين أقوى وأعمق من انزلاق أي طرف للتهور والعصف بكلا البلدين إلى حالة الإنهيار. فالمستقبل القريب سيحمل أسفار حالة استقرار بين السودان ومصر.

وسوم: العدد 755