درس في الولاء والبراء
[ مختصراً من تفسير سورة الممتحنة – في ظلال القرآن – سيد قطب ]
(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم، ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)..
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق، وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان، وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك. فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه. إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرت بمثل ما يمر به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتّخذَتْه، فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور وارفة الظلال.. الشجرة التي غرسها أول المسلمين: إبراهيم.
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون. وفيهم أسوة حسنة: (إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)..
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان. وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل. وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين.
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه، وهو مشرك، ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين. فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك)..
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك. قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه).. كما جاء في سورة التوبة.
(وما أملك لك من الله من شيء. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)..
وهذا التسليم المطلق لله، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين، حلقةً من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات.
(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)..
فلا تسلطهم علينا، فيكون في ذلك فتنةٌ لهم، إذ يقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سُلّطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان، لحكمة يعلمها الله. والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور.
وبقية الدعاء:
(واغفر لنا)..
يقولها إبراهيم خليل الرحمن، إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزِه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده.
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء:
(ربنا إنك أنت العزيز الحكيم)..
العزيز: القادر على الفعل، الحكيم: فيما يمضي من تدبير.
(لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد)..
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوةً تُتّبع، وسابقة تَهدي.
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج وأن يحيد عن طريق القافلة وأن ينسلخ من هذا النسب العريق. فما بالله من حاجة إليه سبحانه (فإن الله هو الغني الحميد)..
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك، ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!.
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة. ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين.. ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان.
فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البِرّ لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل:
(عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور رحيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم. ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)..
إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام ينبغي أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. وهو، في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع.
(عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)..
وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه. والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فُتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد إخوةً مؤتلفي القلوب.
(والله قدير).. يفعل ما يريد بلا معقب.
(والله غفور رحيم).. يغفر ما سلف من الشرك والذنوب..
وإلى أن يتحقق وعد الله رخّص الله لهم في إحسان معاملة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم. ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم. ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم.
وسوم: العدد 869