الغصن اليابس
كان في جزيرة جبل سامق تكسو سفوحه غابة لفاء ، وفوق ذروته بيت فخم تقيم فيه عصبة من الجن ، يتنزهون في الغابة ، ويصيدون من يجتازها من الإنس . وفي يوم بعيد من زماننا هذا ، نزل من الجبل تسعة من أولئك الجن ، وجالوا لاستكشاف شط البحر ، فوجدوا سفينة ، فعزموا على الإبحار فيها ، وحالما أبحروا ألفوا عدة صنارات ، فشرعوا يصيدون السمك . ومنذئذ ، دأبوا كل ليلة على صيده . وحدث أن لحظ مالك السفينة عند ركوبه لها كل صباح للصيد أنها متسخة ومملوءة سمكا ، فانشغل باله واغتم قلبه ، وعزم في ليلة أن يختبىء ليعرف من الذي يأخذها ويصيد بها . وخشية السأم من طول الانتظار ، جلب معه قدرا من الجوز ليتلهى بأكله ، وبعد ساعة من اختبائه وراء بعض شجر الشط ، رأى تسعة الجن يقتربون من سفينته ، فعصف به الرعب حين رآهم يؤمونه إثر استيافهم ريح لحم الإنس ، ولما بلغوه عرض عليهم أن يأكلوا من الجوز استمالة لهم واسترضاء ، فقبلوا عرضه راغبين ، وأكلوا من الجوز ملتذين طعمه ، وقالوا إنهم ما سلف لهم أن طعِموا شيئا في لذة جوزه . وعقب الأكل ، ذهبوا كلهم لصيد السمك ، واقتسموا ما صادوه عند رجعتهم . ورغبت الجن في مُضاف من الجوز ، فأخذهم الصياد إلى بيته الذي يدخر فيه قدرا منه ، فأكلوا كثيرا ، وأرادوا شكر الصياد ورد الجميل إليه بالجميل ، فعرضوا عليه مرافقتهم إلى بيتهم في ذروة الجبل إلا أنه أجابهم بأن بيتهم ناءٍ غاية النأي ، وأن ذهابه إليه سيجهده ، وأنه من ثم لن يكون قادرا في الغداة على الصيد للإجهاد الذي نابه في الطريق . هنالك قالوا له : " الطريق إلى بيتنا يختلف عن الطرق التي تفضي إلى بيوت الإنس . لن تجهد حال وصولك إلى بيتنا " . ووصلوا إلى الغابة ، وتوقفوا عند شجرة ، وأشار أحد الجن إشارة ، فانفتح باب ما لبث أن انغلق بعد دُلوفهم ، وقال أحدهم للصياد : " هذا بيتنا . ربما تقابل فيه أمنا ، فلا تقبل أي شيء تعرضه عليك إلا غصنا يابسا لما فيه من قدرة على شفاء العلل كافة ! " .
وفعلا قابل أمهم بعد قليل من دخول البيت ، وكانت عملاقة بلغت من عمرها عتيا إلا أنها كانت تامة الدماثة والرقة . ولما حان انصرافه عرضت عليه كأسا ذهبية لا يغيض ما فيها أبدا ، فرفضها جازما حازما ، فعرضت عليه في التو ديكا له رأس إنسان ، ويقدم من المال قدر ما يراد منه ، فرفض الديك رفضه الكأس ، وقال : " أعطيني الشيء الكائن في هذا الصندوق الكبير ! "
، ففتحت الصندوق ، وأخرجت منه غصنا قدمته إليه قائلة : " غصن يابس . أحسن حفظه إحسانك حفظ شيء نفيس ! "
وشكر الصياد مضيفيه ، وبارحهم إلى المكان الذي منه أتى ، وحالما انتهى إلى كوخه أخفى الغصن في اهتمام تام . وبعد أيام ، رأى نسوة عابرات باكيات ، فسألهن عن علة بكائهن ، فأخبرنه أنهن ينقبن عن ماء ليستحم به ابن شيخ القبيلة استحمامه الأخير قبل موته ، فأخبرهن أنه ربما يكون قادرا على مشافاته ، فأبلغن ما قاله إلى والد الطفل الذي أمر بإحضاره في الحال . فذهب إليهم ، ولكن بعد فوت الوقت ؛ إذ مات الطفل قبيل وصوله ، فبكاه كل الناس إلا أن الصياد داناه ، ووضع الغصن اليابس على صدره ، فقام فورا ، واندهش كثيرا من بكاء الناس حوله . وابتهج الصياد وازدهى ، وعم نبأ الشفاء المعجز أنحاء البلاد ، وقدم ناس كثيرون حسدا ورغبة في حيازة الغصن اليابس ، وحاولوا مرارا استراقه . وفي يوم ، عند عودة الصياد من الصيد ، رأى لهبا ودخانا ينبثقان من ناحية بيته . كان يحترق . ورأى فوق سطحه _ الذي كان سليما من النار _ غصنه اليابس ، فأنقذه من اللهب إلا أن الحساد لم يقلعوا عن سعيهم لاستراقه . وفي يوم ، بعد أن تجاوز الأمر كل حد ، قال لهم : " لم تريدون أن تأخذوا مني هذا الغصن الذي يحفظ صحتكم في أحسن حال ؟! إن لم تكفوا عن الإلحاح لأخذه فسألقي به في مكان لا يقدر أحد على الاهتداء إليه " إلا أنهم لم يهتموا بما قال ، وتابعوا مضايقته ، فألقى به في الغابة ، وهذا هو سبب خلود شجرها وموت الناس .
*موقع " قصص وأساطيرقصيرة " الفرنسي .
وسوم: العدد 844