ما جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ
اشتد فقر صانع أحذية _ إن لم نخطىء في تحديد هوية مهنته _ حتى إنه لم يبقَ لديه سوى قطعة جلد تكفي لصنع حذاء واحد فحسب ، فقصها مساء على مقاس الحذاء الذي نوى صناعته صباح الغد . ، ورقد في فراشه هادئا متوكلا على الله _ تعالى _ لما في نفسه من طيبة وتقوى ، واستغرق في نومه . وبعد أن صلى صباح الغد ، وتهيأ للانهماك في العمل ؛ تباغت بالحذاء مجهزا تماما فوق منضدة العمل ، فعصف به الذهول ، وما درى ما يقول . ورفع الحذاء ليتأمله مليا ، فألفاه متقن الصنع أنيقا خليا من أيما حياكة رديئة كأن من صنعه تقصد أن يجعل منه تحفة فنية بديعة . وفي الحال دخل عليه مشترٍ سره الحذاء أقصى سرور ، فنقده فيه ثمنا أجزل من المألوف ، وتمكن صانع الأحذية من أن يشتري بالمال جلدا يكفي لصنع حذاءين آخرين ، قص جلدهما ليلا . وهم صباح الغد بالشروع في صنعهما متجدد الحيوية والعزم إلا أنه ما كان في داعٍ للعمل ! ما صحا حتى ألفاهما مجهزين ! ولم ينقصه الشراة الذين دفعوا له ثمنا للحذاءين كفى لصنع أربعة أحذية ألفاها صباح الغد مجهزة . وسارت الحال معه هذا المسار المريح : ما يقصه مساء يجده مصنوعا صباحا . وما لبث أن استرد استقلاله الذاتي بصناعته ، وأضحى غنيا هنيا . وفي مساء ، قبيل عيد الميلاد ، قال صانع الأحذية لزوجته بعد أن قص الجلد لعدد جديد منها ، وقبل أن يأوي إلى فراشه : ما رأيك في أن نسهر الليلة لنعلم من يقدم لنا هذه المعونة ؟!
فاستحبت الفكرة ، وأضاءت شمعة ، ولبد الاثنان في زاوية من الحجرة أسفل ثياب معلقة على جدارها ، وأخذا ينتظران . ولما انتصف الليل دخل شخصان صغيران عاريان ، وجلسا إلى منضدة صانع الأحذية ، ووضعا كل الجلد المقصوص أمامهما ، وطفقا يحيكان بالإبرة ، ويدقان بالمطرقة حاذقين عجلين بأصابعهما الصغيرة حتى إن صانع الأحذية لم يستطع صرف عينيه عنهما استغرابا وتعجبا من حذقهما وعجلتهما . وما توقفا حتى أكملا العمل ، وصارت الأحذية مجهزة فوق المنضدة ، وعندئذ أسرعا مبتعدين . وصباح الغد قالت الزوجة : هذان الصغيران صيرانا غنيين ، ويجب أن نبين لهما اعترافنا بحسن معروفهما . هما يعيشان قربنا ، وليس لهما ما يلبسانه ، ولا ريب في أنهما يتألمان من البرد القارس . سأقول لك ماذا سأفعل لهما . سأصنع لهما قميصين صغيرين ، وسترتين ، وصدريتين ، وسروالين ، وسأحيك لكل واحد جوربا ، واصنع أنت لكل واحد حذاء !
فقال : سيسرني هذا كل سرور .
وبعد أن أكملا ما اتفقا عليه وضعا كل الهدايا ليلا على المنضدة بدل الجلود المقصوصة ، وانحجبا في ذات الزاوية ليريا ما عسى الشخصان الصغيران يصنعان . وسمعا في الليل صوت خطاهما وهما يدخلان الحجرة ، ورغبا أن يشرعا فورا في العمل ، فلم يلفيا جلودا مقصوصة ، وألفيا الملبوسات الصغيرة التي تناسبهما ، وبدت على وجهيهما أولا الدهشة ، ثم الفرح العارم ، ولبسا في سرعة ، وراحا يترنمان : " غدونا غلامين ، يا حسننا ! وما نحن من صانعي الأحذيهْ " ، ورقصا وطفرا فوق المقاعد والمناضد ، ورقصا أخيرا خارج الحجرة ، وتوقفا عن القدوم إليها من ذلك الحين . وسار كل شيء مع صانع الأحذية سيرة حسنة ما عاش ، وازدهرت كل أعماله .
*الأخوان جرِم . *عن النص الإنجليزي .
وسوم: العدد 860