الفصل الأخير من رواية "وداعاً يا جولسري!" للروائي القرغيزي تشينغيز آيتماتوف
طلع الفجر ، فلاحت الجبال فوق الأرض ، وأشرق السهب ورحُب . توهجت الجمرات الخابية كابية في جانب الأخدود . وقف قريبا منها رجل هرم أشيب يلقي على كتفيه سترته المصنوعة من جلد الغنم . ما عاد في حاجة إلى تغطية جولسري . انتقل إلى العالم الآخر . إلى العصبة السماوية . نظر تانابي إلى الجواد المطروح ، وتعجب مما أصابه . راقد على جنبه . رأسه مثني إلى الوراء في تشنج ، وفوقه تجاويف عميقة ، وآثار لجام . قوائمه ممدودة متصلبة بحذواتها المهترئة في الحوافر المهشمة . لن تطأ تلك الحوافر الأرض مرة أخرى ، وتترك آثارها في الطريق . أزف وقت الانصراف . مال تانابي على الجواد لآخر مرة ، وسحب الغطاءين الباردين فوق عينيه ، وأخذ اللجام ومضى دون أن يلتفت خلفه . سار في السهب والتلال .سار غارقا في خاطراته .فكر : لقد هرم . كانت أيامه تنفد . لا يريد أن يموت طائرا وحيدا تائها عن سربه السريع . يريد أن يموت في السرب حتى يحوم حوله الذين تربوا معه في نفس العش ، وسار معهم في نفس الطريق ؛ يحومون مطلقين صرخات الوداع الأبدي . قرر : سأكتب إلى سمانسور .سأقول له : أتذكر الجواد جولسري ؟ لابد أنك تذكره . ركبتُه إلى المنطقة حاملا بطاقة أبيك الحزبية . أنت نفسك أرسلتني بها . حسن . كنت البارحة عائدا من أليكساندروفكا ، فانهار جوادي الرائع في الطريق . جلست طوال الليل عنده ، وفكرت في حياتي أجمعها . ربما أسقط في الطريق مثلما سقط جولسري . يجب أن تساعدني يا ولدي سمانسور في العودة إلى الحزب . لم يبقَ في عمري الكثير .أريد أن أكون ما كنت .أفهم الآن المغزى الذي من أجله أراد والدك أن أحمل بطاقته الحزبية إلى لجنة المنطقة . أنت ابنه . وتعرفني . تعرف العجوز تانابي باكاسوف .
سار تانابي في السهب واللجام ملقى على كتفه . سالت الدموع على خده وبلت لحيته ، فلم يمسحها . كانت دموع الأسى على جولسري . نظر خلال دموعه إلى الصبح الوليد ، وإلى إوزة وحيدة رمادية تطير سريعة فوق سفوح التلال . كانت تسرع للحاق بسربها .
همس :طيري ! طيري ! الحقي بسربك قبل أن يكل جناحاك !
ثم تنهد ، وقال : وداعا يا جولسري !
سار والأغنية القديمة ترن في أذنيه : "
جرت الناقة أياما كثيرة .
تبحث وتنادي صغيرها : أين أنت يا صغيري يا أسود العينين ؟!
أجب ! الحليب يسيل من ضرعي .ضرعي المليء .
يسيل على ساقي .
أين أنت ؟!أجب ! الحليب يسيل من ضرعي .
ضرعي المليء .
الحليب الأبيض " .
وسوم: العدد 898