رحلة الى العالم الآخر، للكاتبة والأديبة البلغارية دينكا إليِّفا
إهداء إلى روح والِديَّ
منذ وقت وهم يعزمون على خوض التجربة
قالت الجدة سيفدالينا: سنرتدي ملابسنا الجديدة ونذهب إلى الفراش.
عبس الجد أتاناس وتمتم: حسنًا ، لو كانت الأمور تحدث هكذا!..
أجابته زوجته العجوز ، معترضة : ولم لا تحدث ؟!....يكفي أن يرغب الانسان في ذلك ويعقد النيّة..
كان كلاهما طاعنين في السِّن وقد إنحنى ظهريهما تحت عبئ السنين. وحتى وقت قريب ، كانت الجدة لا تنفكُّ تحسب سنوات عمرها - لقد ولدت كهبةٍ من الله.وعلى النقيض من ذلك لم يكن الجد أتاناس يكلّف نفسه عناء تَذكُّر هذه السنوات على الإطلاق - وكان يقول لنفسه ولتكن بقدر ما تكون!...
كان العجوزان يعيشان بمفرديهما وعلى ما يبدو فإن هذا المنزل العتيق ، الذي يأويهما يمكن أن يصمد لشتاء آخر أو نحو ذلك ، وكل ما يحتاجه هو إعادة ترتيب بلاطات السقف القرميدية. وقد كانت الغرفة التي كانا يعيشان فيها دافئة و تعلو جدرانها طبقات من الدخان . أمّا فناء المنزل...فكان يعاني من الاهمال ، والله وحده يعلم كم صيفٍ قد مرَّ ولم يتم جزَّ أعشاب الحديقة!...
وتمتمت الجدة متأفّفة: إني أخشى الخروج من المنزل ، تلك الحشائش في الحديقة تصدر أصواتاً صاخبة...
والحقيقة أن زوجها العجوز قد قام بقص وجزِّ هذه الأعشاب والحشائش مرات ومرّات ، غير أن يداه لم تعد تقويان على هذا الجهد وصحته لا تساعده على ذلك .
وقال الجدُّ بغضب: كم من مرّةٍ قد قمتُ بجزِّ أعشاب الحديقة وتشذيبها!؟...
كانت الجدة ترتدي تنورة صوفية بشكل دائم سواء في الشتاء أو في الصيف...لقد قامت ،عندما كانت صبيّة صغيرة بغزلها وحياكتها .وكانت تعتمد على هذه التنورة اليتيمة لتقدير مدى تقدمها في العمر وكذلك مدى نحافة جسمها...ولقد إعتادت كل صباح على قياس محيط خصرها عبر عدِّ الأزرار التي تحتاجها لشد الحزام حول خصرها النحيل .
وقالت متبرّمةً كنت أشد الوثاق ثلاث مرات وأما عندما كنت فتاةً صغيرة ..
قاطعها العجوز ساخراً : عندما كنتِ شابَّة ، كان كل شيء بالفعل مختلفًا !...
لم تصمت الجدة وردّت على زوجها قائلة : نعم كان الأمر مختلفًا وبالنسبة لك أيضًا.
كان الجد أتاناس يجلب أكياسًا مليئة بالكامل بالملابس من المدينة ،ولهذا كان يرتدي كل يوم ملابس مختلفة. وعندما كان يذهب إلى الحانة ، كان البعض يتحرّشون به ويحاولوا مضايقته فيقوم أحدهم متهكماً بتوجيه السؤال إليه : أيها الجد ناسكو(1)، هلَّا أخبرتنا بماركة الشروال الواسع الذي ترتديه؟!..
فيجيبه الجدُّ قائلاً : ويحك إنه ليس شروال إنه بنطال جينز...إنه لحفيدي
- طيّب ، طيّب "إذن هو الجينز... هل هو صناعة أمريكية ؟!...
ويعقّب آخر بسخرية ، طبعاً إنه أمريكي الصنع ، ألا ترى كلمة ريلا(2) المكتوبة على البنطال؟!..
وأوضح الجدُّ أتاناس : لدي المزيد من هذه السراويل ، إنها أكثر حداثة وعصرية وتواكب الموضة وبعضها ذات جيوب عديدة...
وإنخرط الرجالُ في الحانة في نقاش مطوّل حول مَن يرتدي هذه الملابس وحول كيفية إرتدائها.
كان واحد من قرية ''جوروتسفيت'' يرتدي ملابس عسكرية بكامل زينتها وتفاصيلها وعلى ما يبدو فقد كان ابنه عقيدًا في الجيش . كان هذا القروي يرتدي البدلة العسكرية ، ويقوم وبلا أدنى حرج برعي أغنامه ، في حين كانت أكتافه تتزين بنجوم الرتبة العسكرية . بينما حظي قروي آخر ببدلة طيّار حربي فإرتداها وقام بقيادة عربة يجرُّها حمار!...
وقد يتساءل البعض هل أنجب الجد ناسكو وزوجته سيفدالينا أطفالًا ، بالطبع ، ولم لا يستطيعا الانجاب؟!... بل و كان لديهما أحفاد. لكن الشباب لا يريدون أن يزعجهم أحد ويفضلون الاستقلال بحياتهم . ومن جهة أخرى كان كبار السن أيضاً يعتقدون بأنه من الأفضل أن يعيشوا لوحدهم
وفي السنوات السابقة ، عندما كان الجد ناسكو ما زال قوي البُنية كان يستطيع أن يجز الحشائش الضارة في واجهة المنزل ويقصها ويشذبها.
والآن بعد أن إزدادت عليهما ضغوط الحياة ، فلم يعد في وسعهما سوى الجلوس أمام منزلهما ويتبادلان أطراف الحديث . غير أن الحكايات قد نفذت ولم يعد لديهما ما يقولان لبعضهما. ولقد إستعادا تاريخ حياتهما جيئة وذهاباً ، بكل تفاصيلها ولعدة مرات.
تذكرت الجدة سيفدالينا كيف أنها كانت تذهب وهي صغيرة كي ترعى الجاموسة ، وكيف أنها بسبب هذه الجاموسة ، لم تتمكن من إكمال المدرسة سوى للصف الرابع فقط .
وتتذكر العجوز كيف أن قريبتها الأكبر منها كاكا (3) ''ميكا''، التي تمكنت من الدراسة حتى الصف الثاني وهذا ما سهّل خطوبتها لأحد التجار وأضافت; كم كنتُ أحسدها على حظها وأنا أراها جالسة في دكان زوجها... وأمّا كاكا ''كريستينا'' ، التي كان زوجها...
هنا قاطعها الجد ناسكو وقال لزوجته العجوز لم يكن حظِّك مثلهن ، كما أن التاجر لم يكن يعجبك ولم تكوني تستلطفيه !...
وردَّت عليه الجدة سيفدالينا : لا يمكن للأشياء أن تتكرر في نفس المكان والزمان ، وهذه الحياة تحمل لكل شخص منّا أشياء مختلفة.
صمتت الجدّة لبعض الوقت ، ثم عادت ذكريات الماضي إلى مخيلتها فقالت:
- أتذكرُ يوم شاهدتك متلبساً بأم عيني مع نادلة الحانة ، وقد رأيتكما ، كيف كنتما تتقلبان كقطط هائجة في الغرفة الخلفية... يا لها من إمرأة!..لقد كانت سيرتها على لسان كلِّ نسوة القرية وكنَّ يشكُين من تصرفاتها!...
- لوّح الجدُّ بيده وقال دعكِ من هذا وأتركي
قاطعته الجدة : ماذا أترك؟! حسنًا ، لو أن أطفالنا لم يكونوا صغاراً لكنتُ قد فكَّرتُ...
- بماذا كنت تفكرين؟!...
- كنت سأغادرك وأترك المنزل!...
- وإلى أين كنتِ ستذهبين؟...
- تسألني إلى أين !... كنت سأجدُ ...
لنترك هذا جانباً ، فلقد إنتهى الأمر...الزمان يجري كالنهر -
- - نعم إنه نهرٌ لكنه مختلفٌ من شخص إلى آخر!... كنت ألهثُ متنقلة من الصباح حتى الليل في الحقول ، وعندما أعود للمنزل كي أحاول بالكاد أن...
- وأنا, ألم أكن أسعى أيضاً جاهداً ولاهثاً؟
- نعم أنت أيضاً ، لم تكن تألو جهداً ، غير أن دكان الاغذية الغريب (مخزن لبيع كل شيئ) ...
- فهل كنت أبالغ في الشرابِ وأسكر؟!...أنتِ تعرفين أنه كان هناك بعض...
أجابت الجدة: لا لم تكن تسكر، ولكنك كنت تجد المبررات لتخرج !. وتساءلت الجدة: ماذا كان إسم تلك الفتاة ؟!، هل كان ''دوروتيا'' ؟!...تلك الفتاة التي كانت تأتي من المدينة...آه كيف كانت تغنّي وتتدلّع.
رفع الجدُّ ناظريه إلى زوجته العجوز وقال متسائلاً : أو تظنّين أنّني لا أعرف لماذا كان ذلك البستاني يعطيك بطيخاً؟!...
دافعت الجدة سيفدالينا عن نفسها: وا عجباه ، لقد أعطاني بطيخة واحدة فقط ، يالها من معجزة !...
- لا لم تكن بطيخة واحدة...وتابع : لقد كنت أجزُّ الاعشاب والحشائش في حقل الانابيب الخمسة (بتِّي تشورتشيتا) ، حينَ مرَرتِ من هناك...
- نعم ، كنت ذاهبة لأعيد الحمار إلى حظيرة الحيوانات!...
- آ ها !...وماذا بخصوص ثوبكِ الذي كان عالقاً بشوكِ السور؟!...
صحيح ،علق بالشوك... -
- ثم إقتربَ منك ذلك الرجل...
نعم إقتربْ... -
- وماذا قال لك؟!...
لم يقلْ لي شيئاً... -
لا ، بل قالَ لكِ ، قد قالْ!... -
غضبت الجدةُ سيفدالينا وسألتْ زوجها وهي تهز الجورب الذي كانت تحيكه:
- هل سمعت ما الذي قاله لي ذلك الرجل؟!...
مضت عدة أيام على ذلك الحديث وتلك المجادلة ، غير أن الجدّة ، كانت تتجول وهي غاضبة وعبوسة وكان يؤلمها أن تُتَّهم بأشياء لم تحدث!...ولهذا وبعد هذه المحادثة استمرت وبقسوة أكبر ، في فضح تصرفات زوجها وكان لديها الكثير من المستمسكات والأدلة ضده. لقد كان يخونها مع نادلة الحانة ...حسناً فلقد هدأ ناسكو وأصبح رزيناً...ولكن بعد فترة من الوقت كانت له ، قصة ومغامرة جديدة!...
ذات مرَّة سرقوا منه القمح ، حين كان ذاهباً به إلى المطحنة!!...لقد كان القمح معبئاً في أربع شوالات كببرة وسرقوها كلّها دفعة واحدة... وعلى حد زعمه فلقد ترك العربة بحمولتها وذهب ليجمع الفطر من الغابة!... وعندها قامت امرأة من ''جورنوريتشين''(4) بإستدراجه إلى الداخل...
هكذا كن نسوة ''جورنوريتشين'' - إنهنَّ يتربصنَ بالرجال ويتصيّدن فقط الرجال الغرباء الأجانب !...لقد كنَّ يذهبنَ إلى النهر ليغسلن الملابس ويغتسلن في النهر!...كنَّ يتجردن تماماً من ملابسهن ويصبحن عاريات تماماً!...كانت تلك النسوة عديمات الحياء ولا يخجلن من أحد أبداَ
حاول الجدُّ أن يدافع عن نفسه ، فقال: لقد قامت النسوة حينها بمطاردتي! .
! ولكن لمَ لمْ تطارد النسوة رجلاً آخر ؟!...... - قلت لي كنّ تطاردنك
لقد كان لدى المسنَّين(الجدُّ والجدَّة) الكثير مما يقولانه لبعضهما البعض.وكثيراً ما كانا يبقيان مستيقظين طوال الليل ويظلان يثرثران ويتكلّمان ، غير أن الجد ناسكو يعاني من نقص السمع ، ولذا كثيراً ما كانت الجدة تضطر إلى تكرار ما تقوله مرات عديدة.. وكانا يتحدثان في كل الأمور، فمثلاً تطرّقا إلى العهر وقلة الحياء والاعمال المخزية عند الناس ، وتحدثا عن مشاكلهم ومصائبهم ومصائب غيرهم من البشر.
وعندما سقط البَرَد الكبير! كانت حبّة البَرد بحجم البيضة!...عندها كان الناس يبكون وكأنهم قد فقدوا عزيزاً عليهم ، ...نعم لقد ذهب كل شيئ مزروع أدراجَ الرياح ، وذات صيف إشتعلت الاعشاب الجافة في قرية (غوغوفيتي) وكادت القرية كلها أن تحترق ، لو لم يتم إخماد النيران وذلك بمساعدة عربتي إطفاء جاءتا من المدينة ...
وتحدّث الجدّان عن المزرعة وعن الحقول ، حيث لم يرغب أحد في ذلك الوقت في إعطائها للجمعيات التعاونية في البداية ، ثم اعتاد الناس على الحياة المشتركة. وليت الأمور إستمرت على هذا النحو - فلقد قام بعض الأشخاص بتحميل سيارتهم و...
وقد تحدث المسنَّان عن أطفالهم وأحفادهم - لقد مرَّ كل شيء من خلال أفواههم. ولم ينسيا ان يتحدثا عن هذه الكنَّة... كانت تفعل كذا وكذا وأما الكنة الاخرى فقد عملت هذا أو ذاك..الخ..
وتذكّرت الجدة سيفدالينا أيام الصبا ، كم كانت وهي فتاة صغيرة جميلة ، وذكية ...
وقالت: لقد أراد أحد شبان القرية أن يتزوجني..
فأجاب الجدُّ بعصبية : ولماذا لم يأخذك؟
فقالت : رفض أبي أن يعطيني إليه ، لأنه كان فقيرا وبلا أملاك!..
و في بعض الأحيان كان كلاهما يتحدثان في شؤون السياسة. فلقد كان الجد أتاناس يتلقى بعض الصحف من مكتب البريد.
قرأ الجدُّ حروف الجريدة وقال: ها قد تحرّك الروس
- مَن الذين تحركوا؟!..
-- الروس!..
- آ ها..
ثم تابع قائلاً
- الأمريكيون بخير ، وها هم يشعلون النَّار هنا وهناك، أنظري إلى ما يقوله: مندوبهم ...
قاطعته الجدّة وقالت
- دعك مما يقوله هذا الأمريكي ، إذهب لرؤية الحمار فلربما يكون عالقاً بالحبل الملتف حول جسمه !..كما أن الخنزير بحاجة لمن يضع له الطعام...سيأتي يوم وسيقوم الخنزير بهدم هذه الخرابة (الكوخ المتهالك) ، التي تأويه...
وكثيراً ما كان العجوزان يتبادلان الشكوى بعضهم لبعض حول أمراضهم!..
فتقول الجدة:
- لقد آلمتني ساقاي كثيرا تلك الليلة.
فيجيبها زوجها :وأنا أيضاً قد آلمتني ساقاي
لم يكن الجد أتاناس ولا الجدة سيفدالينا يتوقعان أن ينظر أحد إليهما بعين العطف أو ان يعتني بهما...ولقد كان أبناؤهما يعيشون بعيداً عنهما ، وكان لكل منهم همومه ومشاكله الخاصة...
وبالمناسبة كان بعض الأشخاص قد غادروا القرية وذهبوا للعيش مع أبنائهم في المدينة ، فمثلاً كانت نيكولينا بوبوفا قد ذهبت للمدينة ، حين دعتها أختها لزيارتها!...
وتقول نيكولينا أنها قد أصيبت بذعر شديد حين صعدت إلى الطابق الحادي عشر بالمصعد ، ولقد كانت خائفة طوال الوقت وكانت تظن أن هذا الصندوق ، الذي كان يتحرك للأعلى ، ربّما لن يفتح أبوابه ولهذا لم تكرر هذه المخاطرة
وإشتكت نيكولينا للجدة سيفدالينا، بأنها طوال فترة مكوثها في المدينة لم تخرج أبداً من بيت شقيقتها!...
كانت تذهب إلى الشرفة ، غير أنها كانت تصاب بالدوخة والغثيان كلما نظرت إلى الأسفل من هذا العلو ولذا كان كل ما تحلم به هو أن تعود لبيتها وتعتني بالزنابق في الحديقة!...
وعقّب الجد أتناس على ما قالته زوجته : من الافضل لنا أن نعيش لوحدنا في منزلنا!..
وها قد أتى الشتاء الآن ، وللحق فقد كان شتاء قاسياً! وتساقط الثلج بغزارة ، على سبيل المثال ، فلقد تغطى السطح و السقيفة ، وحظيرة الحيوانات بطبقة كثيفة من الثلوج...وإلى أين كان الجد أتاناس والجدة سيفدالينا سيذهبان ؟ ولأجل ماذا سيخرجان في هذا البرد .. إن رغيفاً واحداً من الخبز كان يكفيهما لمدة ثلاثة أيام ، بل يخلطان الطعام ويقدمانه للماشية التي يربونها في بيتهم -الخنازير والأغنام والماعز ، وحده الحمار ماركو(5) كان يقف صابراً بجانب المذود (المعلف)...
لقد سئم العجوزان المسنّان من هذه الحياة !..
وكانت الجدة سيفدالينا كثيرا ما تكرر : سنرتدي ملابسنا الجديدة وسنذهب إلى الفراش...
إن الموت قادم إلينا لا محالة، ستأتي وحده.
وتساءل الرجل العجوز : وماذا لو لم يأت ؟!..
- - آه ، ماذا ، كيف لن يأتِ؟!..حسنًا ، سنتوقف عندها عن التنفس قليلاً و...
يقول الجد : ومَن سيجدنا؟
فتجيبه الجدة : مَن سيجدنا!...لا تخف... سيجدنا شخصٌ ما..
وقالت : لقد إنتهى كل شيئ وقد حانت تلك اللحظة ، التي ننتظرها
فتحت الجدة سيفدالينا صندوق الملابس وقالت: كل شيئ جاهز وها أنا قد وضعت هنا في هذا الصندوق نحتاجه نحن الاثنين!..
نظر الجد أتاناس لفترة طويلة إلى ملابسه الجديدة!..
ولقد كان سرواله عريضًا قليلاً وأما قميصه فكانت ياقته تبدو فضفاضة وواسعة بالنسبة لرقبته الهزيلة .
طمأنته الجدة قائلة : لا بأس ، من الافضل أن تكون الملابس واسعة بدلاً من تضايقك وتخنقك ... وليكن ''العالم الآخر'' لك فسيحاً .
ويمازحها الجدُّ ويسأل وهل هناك ''عالم آخر''؟!..
أجابت الجدَّة : نعم ، نعم فلقد كان الكاهن يقول لنا...
قاطعها الجدُّ وهو يكرَّر كلماتها بسخرية ; الكاهن يقول؟!..إسمعيني : أنا شخصيا ، لا أثق به كثيرًا ...
نهرت الجدَّة زوجها ، ووبَّخته ، دعنا نترك الكاهن وشأنه ...
وأضافت : إن كنَّا سنحضّر ملابسنا للسفر فلنحضّرها .
كان السرير مرتباً ومغطى بشرشف ، وأما وجوه الوسائد فكانت منقوشة ومزينة بزهور وردية وزرقاء اللون.
أخذت الجدَّة سيفدالينا حذاءها العتيق وراحت تطرق كعبيه محدثةً صوتاً ، وقالت : صحيح أن الحذاء ليس بجديد ، عمره يتجاوز الثلاثين عاماً! ، غير أنه ما زال لامعاً...
كان ثوب الجدّة أخضر اللون وكانت له طيات.. طيات ثقيلة ، وكان مزيناً بشريط مخملي أسود من الأسفل ، أما المريول فكان يبدو كالحديقة لكثرة الازهار فيه.
وقد غطت الجدَّة شعرها بشال رقيق ناعم وتتزين نهاياته بخرزات زرقاء...
وقد بدت الجدة محتارة وتساءلت ; هل تضع قلادة على عنقها أم لا؟!..
إنهمك الجد أتاناس بالبحث عن حزام سرواله وفشل أن يعثر عليه وأخيراً وجده في أسفل صندوق الملابس!.. حلق الجد أتاناس ذقنه ، وقد رش وجهه الحليق بعض الكولونيا. أيضا ، تماماً مثلما كان يفعل عند ذهابه للتصويت..
وهنا مازح زوجته مرّة أخرى وتساءل; هل سيكون الآخرون هناك؟!..
فأجابته مَن هؤلاء الآخرون؟..
قال الجد; مَن سيكونون ، طبعاً هؤلاء الذين سبقونا..
فقالت ; آه نعم ،لقد فهمتك ، لعلّك تقصد نادلة الحانة!..
وأجابها زوجها ; ما بها.. فعلاً كانت إمرأة جميلة وجيدة.
فصرخت الجدة ; فليصيبكَ الطاعون ويقضي عليك هنا وفي هذه اللحظة !..
وهنا وبشكل مفاجئ وبشكل جدي، سأل الرجل العجوز; ماذا سيقول أبناؤنا؟!..
فكرت الجدة للحظة بما قال زوجها وإستمرت بتفحص خيط القلادة ، التي لم يكن فيها سوى قطعة ذهبية وحيدة وهي تضعها حول عنقها. وردّت بسرعة على تسائل أتاناس: لن يقولوا شيئاً...
الوقت يمرّ، وها قد حان دورنا الآن!..
نصحها الرجل العجوز بشأن القطعة النقدية الذهبية: أعيديها إلى الصندوق ، ربما سيأخذها أحدهم ، حين يعثرون علينا.
من الافضل أن تبقى هذه القطعة الذهبية لأحفادنا ،علّهم يستفيدوا منها..
ترددت الجدة للحظة ثمّ شدّت طرف خيط القلادة وأحكمتها حول رقبتها.
وأما الرجل العجوز فقد قال: لقد طلبت منهم أن يدفنونا بجانب أهلنا ، ثم نظر من النافذة وأضاف: آمل أن يهدأ الطقس ويصبح أكثر دفئاً ،لأنه إذا استمر الجو بارداً فلن يستطيعوا الحفر في الأرض المتجمدة، لن يمكنهم حفر أي شيء.
ردتّ الجدة : سوف يحضرون آلة الحفر (الحفارة) لهذا الغرض..
وعلّق الجدُّ وقال : وحتى لو أتوا بألة الحفر فإنها أيضاً ستعجز عن حفر الارض المتجمدة!..
استمر العجوزان في الاستعداد والتحضير لرحلتهم... سحبت الجدة من صندوق الملابس سترة مخملية بلا أكمام وكانت جميلة ومطرزة.
وتتذكر الجدة : آخر مرّة ،ارتديتها كانت في عيد القديس ''سباس'' ، أثناء إحتفالنا بعيد القرية..
اقترح الجد :"علينا أن نتخلّى أنا وأنت عن طقم الأسنان...لسنا بحاجة لها ، وما الفائدة منها؟"
قالت الجدة : لا أدري بالفعل ما أقول ، لكني أعتقد أنهم قد تركوا طقم أسنان الجدة دولابتشيكا في فمها!..
ها قد خيّم الظلام..
وفجأة تذكر الجد أتاناس الخنزير وتساءل ماذا سيفعل بعدهم؟!..
قالت الجدة ضع له وكذلك للاغنام طعامهم للمرة الأخيرة..
تطلّع الرجل العجوز من حوله وقال: نحن هنا ، الآن، ومَن يرانا سيحسب بأننا في حفل زفاف ! ثم هبط على درجات السلم إلى أسفل.
كان بالكاد يستطيع أن يشق طريقه عبر الثلج المتراكم ، تجاوز البئر ، ثم انعطف نحو حظيرة الحيوانات.
وعلى ما يبدو أنه مكث في الحظيرة لفترة طويلة وتأخّر فيها!...
كانت الجدة ، تسترق السمع ، وتتلفّت حولها ، وكانت تارة تنظر إلى النافذة وتارة إلى السرير المرتّب.
وهمست قائلةً: ها هي الشموع موجودة ، عليَّ ألا أنسى المصباح..
وأخيرا عاد الجد أتاناس ، ولقد أبيضت بشرته من البرد القارس ، وبدا سعيدا وراضيا!..
ومع دخوله بدأ يتكلم :
أتعلمين بأن تلك العنزة السوداء ، ذات الجبين الأبيض قد ولدت جدياً صغيراً ، لقد رأيتها وهي تلعقه.
قالت المرأة العجوز: حسنًا ، ولكن ألن يتجمد هذا الرضيع في هذا البرد الشديد؟!" ، كان عليك أن تحضره إلى هنا .
قال الرجل العجوز بلهجة آمرة : ضعي بعض الحطب في الموقد ، حتى تتدفأ الغرفة ، وتابع قائلاً : سأذهب لآتي بالصغير إلى هنا!.
كان الليل قد تقدم وإزدادت العتمة. كل شيء يمكن رؤيته من خلال النافذة هو إمتداد البياض ، ما عدا بقعة واحدة فقط أمام المنزل كانت مظلمة ، حيث كان الثلج ذائباً ، وكانت أزهار الثلج الشجاعة ( نبتة الكوكيتشكا)- (6) ترفع رؤوسها مزهوة إلى الأعلى..
كانت هذه الأزهار تشكل خطاً كاملاً من الأزهار (مسكبة كاملة )!...
دينكا إلييفا
---------------------------------------
هوامش
(1) ناسكو : هو تصغير للاسم الاصلي أتاناس وهي عادة متبعة في بلغاريا وكل أوروبا وتطلق للتحبب.
(2) ريلا : هو إسم أحد الجبال المشهورة في بلغاريا
(3) كاكا : تستخدم كلمة كاكا باللغة البلغارية للدلالة على الشقيقة الأكبر ، وتعادل كلمة ''أبلة'' باللغة العربية في اللهجة المصرية.
(4) ''جورنوريتشين'': هو إسم قرية من قرى بلغاريا
(5) ماركو: يطلق البلغار على الحمار عادة إسم ماركو ، مثلما يطلق الفلسطينيون مثلاً إسم أبو صابر!.
(6) الكوكيتشكا : وهي زهرة بيضاء جميلة وهي أولى النباتات التي تزهر في الثلج وهي مقاومة للبرد وترمز للصحة.
وسوم: العدد 901