«محو فلسطين من أجل تأسيس إسرائيل» لكريستين بيرينولي: من الأرض المقدسة إلى الأرض الموعودة (1)
تعتبر هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية تأريخا للمشروع الصهيوني، الرامي إلى استئصال فلسطين وتمثيلاتها الرمزية والثقافية من الذاكرة والجغرافيا. وتسعى الكاتبة كريستين بيرينولي أستاذة محاضرة في جامعة ليديمونت السويسرية، إلى رصد المحطات التاريخية لهذه السيرورة الاستئصالية، منذ تأسيس الكيان الصهيوني على الجغرافيا التاريخية والطبيعية لفلسطين عام 1948، وانتهاء باتفاقية أوسلو.
وقد استندت الكاتبة في هذا السياق إلى وفرة من الوثائق العلمية والتاريخية والبيانات الإحصائية، لدعم إطروحتها. وبصرف النظر عن القيمة العلمية التي لا تنكر لهذه الدراسة، ورسالتها النبيلة المتمثلة في تنوير الرأي العام الأوربي بشكل خاص بخطورة الوهم الصهيوني المتمثل في أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، فإنها تقدم الدليل الدامغ على المكون الإمبريالي والعنصري للكيان الصهيوني ودرسا بليغا لدعاة التطبيع والاستسلام.
الصراع من الرمز إلى الواقع
يمكن تعريف الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين بكونها ترابية، لأن كل طرف يدّعي ملكية الأرض نفسها، غير أن هذا الصراع يمثل مواجهة أيديولوجية مثيرة، تقوم بتعبئة وتجييش، ليس فقط روايتين وطنيتين متعارضتين بشكل جذري، وإنما ممارسات متعددة ومتنوعة، تتناول التاريخ والجغرافيا، وعلم الحفريات والبيئة، وعلم الخرائط، جرى توظيفها بغاية بناء الذاكرة والهوية الجماعيتين للشعبين الفلسطيني واليهودي. وتشكل الفكرة التي مؤداها أن التاريخ يكتبه المنتصرون مكانا مشتركا، مع مهمة تحوير الحقيقة، بغية تأسيس المشروع الصهيوني ومحو وطمس كل أثر في المكان والزمان للحضور الفلسطيني.
الرواية التاريخية وقيم الدولة العبرية
لقد أبرز علم الأنثربولوجيا، أن الفضاء ليس مجرد وعاء جامد للحياة الاجتماعية، وإنما يخضع للتشكيل والتعديل والتنميط من لدن المجتمعات، في كيفية يعكس وفقها قيمها ويجسد هويتها وذاكرتها التاريخية. ووفق هذه الرؤية يضحى هذا العلم وسيلة ممتازة لنقل الموضوعات الرمزية بشكل مباشر وفوري، في حدود كون هذه الاخيرة مطروحة، بوصفها طبيعية، ومن ثم كونها حقائق لا يطولها النفي أو الإنكار. هكذا يكف الفضاء عن كونه بيئة خاما، ويصبح حسب تعريف مارغريت س رودمان محصلة سيرورة من البناء المسيس والنسبي ثقافيا، والخاص تاريخيا، والمتسم بمحليته وتعدده. وإذا كانت هذه الصيرورة خاصية تسم كل المجتمعات، فإنها تكتسب حضورا دالا وخاصا في الحالة الفلسطينية، بحكم سرعة وكثافة وتيرة التغيير التي عرفتها، علاوة على تضافر عناصر لها تتعلق بالدولة والمجال الشخصي، أدت إلى محو وطمس فضاء المعنى الخاص بفلسطين، لصالح الفضاء الخاص بالصهيونية. ويمكن للمشهد الإسرائيلي أن يقرأ والحالة هذه بوصفه تعبيرا عن أيديولوجيات تجد ترجمتها في ممارسات تهدف إلى إعادة تهيئة أرض فلسطين التاريخية من أجل تجسيد الروايات التاريخية وقيم الدولة العبرية. وقد واكب النصر العسكري الذي حققته إسرائيل في حرب 1948 انتصار تمثيل للأرض والوطن، أثبت حضوره في المشهد، إلى درجة قامت بتغييره جذريا في غضون سنوات قليلة، بغاية التطابق مع اقتضاءات الرؤية الصهيونية وتدعيمها ومساندتها. ووحدها بعض الآثار المادية القليلة داخل اسرائيل الراهنة، والذاكرة الفلسطينية التي في مقدورها معارضة الانتصار الصارخ للرواية الصهيونية وحضورها القوي داخل تراب فلسطين.
أسهم أدوارد روبنسون بشكل خاص في إعادة تشكيل وبناء ما سماه بالفضاء التاريخي الأصيل لفلسطين. وقد حدد هذا الباحث الأمريكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عشرات من المواقع الإنجيلية المسيحية التي قام بإحصائها بالاستناد إلى حجج وأدلة تجريبية خلافا للمناهج الدينية في تحديد الآثار والمواقع.
وعلى الرغم من بداية مسلسل اتفاق أوسلو، الذي كان من المفروض أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية على جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، فإن مسلسل محو المشهد الفلسطيني سواء داخل إسرائيل، أو الأراضي المحتلة بواسطة الاستحواذ الممنهج على الأراضي، أو التدمير أو الجرف المنهجي للبنايات والحقول، بذريعة إجراءات أمنية، أو بغاية بناء مستوطنات، هكذا إذن يتيح الأخذ بعين الاعتبار لهذا الصدام الرمزي وتجسيده داخل الفضاء، أن نلقي نظرة مغايرة على الصراع المعاصر، وفشل مفاوضات إحلال السلام.
أسطورة الأرض المقدسة
استنادا إلى و. ج. ت. ميتشيل فإن مفهوم الأرض المقدسة أكبر وهم جماعي عن المجال، أبدعه المتخيل الإنساني. وقد تمكن الصهاينة انطلاقا من هذا الوهم من أن يصنعوا واقعا يتمثل فى دولة إسرائيل، بوصفها تجسيدا ترابيا للأرض الموعودة. وجهت قوة التمثيلات المسيحية الاهتمام صوب فلسطين وسكانها، وإذا كان تعريف هذا الفضاء الجغرافي بوصفه أرضا مقدسة تعبيرا عن تاريخ طويل، فإن المسألة تتعلق تحديدا، حسب كيث ويتلهام بالتعريف الغربي المسيحي وإسرائيل. وليس لتاريخ سكان هذه الأرض والآثار المادية التي خلفوها من أهمية، إلا في حدود اندراجها في الخطاب الإنجيلي، وهو ما أدى في نهاية القرن التاسع عشر إلى إنكار ونفي وجود الفلسطينيين.
أسهم أدوارد روبنسون بشكل خاص في إعادة تشكيل وبناء ما سماه بالفضاء التاريخي الأصيل لفلسطين. وقد حدد هذا الباحث الأمريكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عشرات من المواقع الإنجيلية المسيحية التي قام بإحصائها بالاستناد إلى حجج وأدلة تجريبية خلافا للمناهج الدينية في تحديد الآثار والمواقع. وقد خلصنا بالاحتكام إلى هذه المواقع إلى إعادة رسم جغرافيا الأرض المقدسة، من خلال دراسة متأسسة على التاريخ الإيجابي.
صار في الإمكان منذ هذه الدراسة أن نقابل بين خريطة فلسطين القديمة وخريطتها الراهنة، بغاية الكشف عن كنوزها وثرواتها الخفية. وفي السياق نفسه جرى وضع أسس ودعائم مشروع أكاديمي وديني وسياسي في آن، ويتمثل في علم الآثار والحفريات الإنجيلي. وقد أسفرت هذه الممارسة الأكاديمية التي اختارت فلسطين شعارا لها، عن ظهور مؤسسة فوند ومقرها لندن، التي أنجبت العديد من الباحثين المنتمين إلى جنسيات متعددة.
وفق هذه الرؤية، تضحي أمكنة فلسطين تمثيلات حية، وخارج الزمن للأمكنة الموصوفة في الإنجيل. ويتم النظر إلى سكان فلسطين وسيرتهم الحياتية اليومية وتقديمها وتصويرها داخل المتخيل العلمي والفني والشعبي، بوصفها صورا تمثيلية إنجيلية.
وكانت محصلة مقاربة من هذا القبيل من جهة تحديد قرى وبلدات ومواقع لم يكن قد عثر عليها إلى حدود تلك اللحظة، ودراسة نمط وأسلوب وعادات عيش الفلسطينيين من جهة أخرى، بغرض فهم وإدراك وظيفة الأدوات والأشياء الأثرية التي جرى الكشف عنها أثناء الحفر والتنقيب. وبهذا الصنيع تبدو الثقافة البدوية الفلسطينية محنطة، ولا تثير اهتمام الباحثين إلا بوصفها حفريات لثقافة مرصوفة ومذكورة في الإنجيل. كان لهذا التصور تأثير بالغ على قيمة الأعمال التاريخية والأركيولوجية، التي عانت من وطأة التأثير الإنجيلي والاستشراقي، لكن التداعيات والاستلزامات السياسية والاجتماعية لهذا التمثيل الغربي، سيتم توجيهها لاحقا ضد الفلسطينيين بحكم كشفها عن تقاطع محوري داخل الفضاء المادي للكيان الإسرائيلي بين الماضي والحاضر، والبدائي والحديث، والعربي واليهودي.
أفسح هذا التمثيل الغربي المجال أمام القبول بفكرة تجسيد وتحقيق المشروع الصهيوني، لأن المرور من الأرض المقدسة إلى الأرض الموعودة، ثم إسرائيل، لم يكن يستوجب غير القيام بخطوة بسيطة، ذلك أن الخطاب الإنجيلي يشكل محور تقاطع بين الاعتبارات التاريخية والأركيولوجية للأوروبيين، وما كانت تتوقعه وتأمله الحركة الصهيونية. وهكذا على الصعيدين العلمي والسياسي، كان مستوى الاستعداد للقبول بفكرة أرض دون شعب مقابل شعب دون أرض، موصولة بشكل مباشر بالأبحاث والدراسات التي تعيد بناء ماض إنجيلي مسيحي وتتجاهل كليا، وعلى امتداد عصور وحقب مختلفة وجود السكان الأصليين، والأدوار التي اضطلعوا بها، خصوصا الفلسطينيين المعاصرين.
من خلال إنتاج صور بصرية نمطية، فإن الفضاء يتحول إلى استعارة قوية تدعم إرادة تأسيس الدولة العبرية في حدود تعبيرها عن العلاقة الجديدة بين الإنسان والطبيعة، كما دافعت عنها الصهيونية. ووفق هذا المنحى تكون الصهيونية أميل إلى الحث على الولادة من جديد، أكثر منها على العودة.
ولادة جديدة
ومع حلول القرن العشرين، وبداية الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين وتنامي نشاط الحركة الصهيونية شهد تمثيل فلسطين تطورا ذا منحيين. ظل المتخيل الإنجيلي المسيحي حاضرا بقـــــوة من جــــهة، في ما يهم المسيحيين الغربيين واليهود على درجة سواء. وكانت الأمكنة والمشاهد الشرقية، أو على الأصح الاستشراقية الأفضل بالنسبة للرسامين اليهود في السنوات العشرين من القرن الفارط. كان هؤلاء الفنانون يعبرون داخل لوحاتهم عن مشاهد عتيقة تطابق بشكل أوفر الماضي المسيحي الإنجيلي أكثر منها الواقع. وتكمن قوة هذه الصور في تحديدها لوطن متخيل داخل مكان جغرافي محسوس.
من جهة أخرى تجسد اللوحات الفنية الصهيونية النادرة أراضا مزروعة بشكل مفرط في العقلانية، ومفتقرة كليا لأي طابع شرقي، وتجسد المثال الذي يرجى استشرافه، والمتمثل في «اكتشاف وغزو الصحراء». وتتيح الصور الفوتوغرافية سجلا ثقافيا مزدوجا، يقابل على الصعيد الرؤية البصرية بين العرب واليهود، إلى درجة يبدو فيها أنهما لا ينتميان إلى الفضاء، أو الزمن نفسيهما. يبدو الفلسطينيون في هذه الصور مسنين وسلبيين ويرتدون ثيابا تقليدية، ويجري تقديمهم في فضاءات تتسم بالقسوة والوحشية، ويمارسون أعمالا تحيل إلى مشاهد إنجيلية: راعي غنم أو عجوز يركب حمارا. يبدو الفلسطينيون بتعبير آخر كما لو أنهم خارج الزمن، في الوقت الذي يعلن الصهاينة عن حضورهم في الراهن الحاضر، خصوصا في المستقبل. وهم، أقصد الصهاينة، شباب ذوو حيوية ويشي مظهرهم بالحداثة، وإن كانت صلتهم بالمتخيل المسيحي الإنجيلي غير مقطوعة. وعوض أن يكونوا لوحة حية، وإن كانت معزولة عن سياقها التاريخي، فإنهم التجسيد الحي للأسلاف الأوائل الذين تمكنوا بفضل الجهد الجسدي في الزراعة الموصوفة بكونها تطويعية، من أن يقيموا الوصل من جديد بأرض الأسلاف اليهود. وكان العنوان الذي جرى اختياره لبعض السجلات الفوتوغرافية «نعيد بناء فلسطين» أو الإشارات الشارحة المثبتة على ظهر هذه الصور تشدد على حرث الأرض، أو تطوير وتنمية البلاد بوصفهما وسيلتين لبناء مجتمع يهودي جديد، مقابل المجتمعات الحاضنة ليهود الشتات.
من خلال إنتاج صور بصرية نمطية، فإن الفضاء يتحول إلى استعارة قوية تدعم إرادة تأسيس الدولة العبرية في حدود تعبيرها عن العلاقة الجديدة بين الإنسان والطبيعة، كما دافعت عنها الصهيونية. ووفق هذا المنحى تكون الصهيونية أميل إلى الحث على الولادة من جديد، أكثر منها على العودة. وتكتسي الأمكنة التي وقع اختيار المهاجرين الجدد عليها دلالة خاصة. اختار 80٪ منهم الإقامة والعيش داخل المدن، فيما ظهرت الجمعيات الزراعية إلى الوجود على السهول الساحلية، ابتداء من سنة 1882 التي تحظى بوضع الضاحية المحيطة داخل التاريخ اليهودي. وكانت عملية شراء الأراضي تتبع استراتيجية بناء وتأسيس كيان سياسي، وليس عودة تعتمد المحاكاة وتقليد الماضي. وهو ما تجليه اللامبالاة النسبية للصهاينة تجاه الأمكنة والمواقع التي تحيل إلى الذاكرة اليهودية.
تتأسس عملية الولادة الجديدة من بين أشياء أخرى على وصل دال بين الأرض والمجال والطبيعة، وانبعاث الوطن علاوة على مفهوم السلف المؤسس الذي يجري تمثله بوصفه مجموعة من الاستعدادات والقواعد حيال المجال. تعتبر الطبيعة التي يجري الاشتغال عليها كي تتطابق مع الأيديولوجيا الصهيونية معيارا مفتاحا لبناء الهوية.
تكف فلسطين والحالة هذه عن كونها كلية ذات تحقق مادي ومعاصر، بما انها لا ترى وتتمثل، إلا من خلال سطوة وهيمنة المحكيات والروايات الدينية المسيحية واليهودية، وفق منظور زمني ذي مظهر مزدوج. تمثل في آن واحد فضاء الأصول وفقا للمستقبل. ويستوي في هذا السياق أن تكون تعبيرا عن يوتوبيا دينية لنهاية العالم، أو رؤية صهيونية أكثر قربا ومعاصرة.
وسوم: العدد 909