الفرصة الأخيرة

ترجمة: أورخان محمد علي

بقلم الأديب التركي: جنيد سعاوي

منذ صغري وأنا أكره الأماكن الضيقة.. هذه الأماكن تجعلني أحس بالاختناق.. لذا كنت - ولا أزال - أهرب منها.. وأبتعد عنها وأنا أرتجف من الضيق والخوف.. عندما كبرت علمت أنّ هذا مرض من الأمراض النفسية.. ولكنني لم أستطع الشفاء منه ولا الخلاص من براثنه.

ولكن ها أنا ذا أدخل مكاناً من هذه الأماكن الضيقة دون إرادة مني.. أدخله مضطراً وعلى رغمي.

كانوا قد لفّوني ثم وضعوني في تابوت طويل وضيّق... كنت أسمع جيِّداً أصوات من حولي... ومع أنني كنت مغمض العينين فإنني – بطريقة ما– كنت أستطيع رؤيتهم.. كانوا يقولون:

- يا للمسكين!... لقد مات في عز شبابه.... لقد كانت له آمال عريضة، وأعمال لم يتمها ولم ينجزها.

كانت هناك فعلاً أعمال عديدة لي بقيت ناقصة تنتظر مني إنجازها.. فمثلاً لم أستطع بعد فتح محل جديد لابني.. كما لم أنته من دفع الأقساط الأخيرة للسيارة وللتلفزيون الملون.. كما أصبح أملي في إنشاء شركة كبيرة في المستقبل أجمع فيها الأصدقاء خيالاً بعيداً... ومع أنّ الشتاء أصبح على الأبواب... إلا أنني لم أكن قد اشتريت بعد الفحم والحطب لمدفأة البيت... كما لم أصلح أماكن نضوح المياه في سقف البيت.

وبينما كنت أستعرض في ذهني الأعمال التي بقيت ناقصة تنتظر مني إنجازها فوجئت بصوت يرن في أذني... صوت وجلت منه روحي... ونفذ إلى أعماق عقلي وتردد صداه هناك... كان كأنّه صادر عن مكبر للصوت.

- لقد فات ذلك وانقضى!

وبحسرة قلت في نفسي: “ليته لم يَفُتْ ولم ينقض”.

لا أدري كيف وقع لي ذلك الحادث... كيف وقع مع أنني أجيد قيادة السيارة... وبينما كنت أحاول أن أستجمع في ذهني ما حدث أحسست أن أصدقائي يحيطون بي ويحاولون غلق غطاء التابوت الذي أتمدّد فيه دون حراك... ومع أنني حاولت أن أصرخ بكل قوتي وأن أنهض من مكاني لأمنعهم من ذلك إلا أنّني فشلت وعجزت... إذ لم أستطع لا الحركة ولا التفوّه بأي كلمة.

بعد قليل جثم عليّ ظلام كثيف... حوّلت بصري إلى شقوق التابوت التي كان يتسلل عبرها ضوء قليل... وفي فزع لا يوصف قلت لنفسي:

-  يا إلهي!.... ماذا ستكون حالي الآن؟.... ما العمل؟.

كنت عاجزاً عن التفكير من شدة الفزع.

في هذه الأثناء حُملت على الأكتاف... وبدؤوا يسيرون ببطء، كان التابوت يهتز قليلاً... وكان من الواضح من الأصوات التي كانت تصلني من الخارج أنّ المطر ينهمر... كان صوت قطرات الماء يختلط مع صوت صرير خشب التابوت.

لا شكّ أنّهم الآن في طريقهم إلى الجامع لأداء صلاة الجنازة.. عندما خطر ببالي الجامع تذكرتُ أنّه مع كونه قريباً جداً من داري... ورغم ندائه المتكرّر ودعوته للصلاة خمس مرّات كل يوم فإنّني لم أجد متسعاً من الوقت للذهاب إليه... ولكنني كنت عازماً على البدء بالصلاة عند بلوغي سنّ الخمسين. الكل يعرف هذا.. لقد قلت ذلك مراراً لأصدقائي.. نعم كنت سأبدأ بالصلاة... وكنت سأترك كذلك عاداتي السيِّئة التي كان كثيرون يشكون منها.

أجل..... أجل!... لولا هذا الحادث لأصبحت في المستقبل شخصاً جيِّداً... لولا هذا الحادث.

ومرّة أخرى طرق سمعي ذلك الصوت الذي لا أعرف مصدره:

- لقد فات ذلك وانقضى.

بعد قليل حُملت على الأكتاف مرّة أخرى... إذن فقد انتهت صلاة الجنازة... وعندما مررنا أمام مقهى محلتنا سمعت الضحكات المرحة لأصدقائي الذين كنت ألعب معهم الورق كل يوم.. لا شكّ أنّهم لم يسمعوا بعد بخبر وفاتي.

بعد أن بعدت الأصوات وخفتت شعرت من ميل التابوت أنّهم يصعدون التل نحو المقبرة... شعرت أنّ الكفن قد ابتلّ في عدة مواضع من تسلّل قطرات الماء من شقوق التابوت... إذ كان المطر المنهمر في الخارج قد اشتد... أصخت سمعي للأصوات في الخارج... كان بعض أصدقائي يتحدّثون فيما بينهم عن ركود السوق... وكان البعض الآخر يمدح ويثني على فريق المنتخب الوطني في مباراته الأخيرة... بينما همس أحد حاملي التابوت في أذن صاحبه:

- انظر إلى اليوم الذي اختاره صاحبنا ليموت فيه!!.... كانت تصرّفاته معكوسة على الدوام في حياته، لقد ابتللنا من الرأس حتى أخمص القدمين يا أخي.

لا شكّ أنّ هناك خطأ ما... لا شكّ في أن ما أسمعه ليس صحيحاً... وإلا فهل من المعقول أن يتفوّه أصدقائي الذين ضحيت كثيراً من أجلهم بمثل هذا الكلام؟

بعد قليل وصلنا إلى المقبرة... أنزلوا التابوت ووضعوه على الأرض... رفعوا الغطاء... وامتدت الأيادي إلى جسدي الميّت ورفعوه وأخرجوه من التابوت. ثمّ بدؤوا ينزلونه في حفرة تجمعت بعض المياه في قعرها.

ومن مكاني الذي سجيت فيه حاولت أن أرى ما حولي... يا إلهي... أليس هذا هو القبر؟

لماذا لم يجُل في خاطري حتى الآن أنني سأدخل فيه؟ لماذا لم أفكر في ذلك من قبل؟

لا أحد يسمع صرخاتي التي أحاول إطلاقها.. لا أحد.

أهال أصدقائي التراب علي... كانوا كمن يتسابقون في ذلك..

مرّة أخرى بقيت وحدي في الظلام. بقيت في ظلام دامس. وبكل العجز الذي أحسست به.. ومن أعماق قلبي بدأت أدعو بحرارة:

- يا رب! يا رب! أما من فرصة أخرى أمامي؟ أعطني فرصة أخيرة..

سأمتثل لجميع أوامرك. سأكون عبداً لك كما تريد... سأكون كما تريد لكي تجعل قبري روضة من رياض الجنة... يا رب!

صك أذني ذلك الصوت مرّة أخرى وبحدة أكثر:

- لقد فات ذلك وانقضى.

كنت أسمع صوت التراب وهو يرتطم بالألواح التي تغطي تابوتي... كان كل ارتطام يدوي في أذني دوي الرعد... كان كل كياني يرتجف فزعاً وهلعاً.

وفي محاولة أخيرة ويائسة تململت من مكاني... وفتحت عيني... كنت في فراشي المريح في غرفتي... كان ذلك كابوساً مريعاً... وكان صديقي الدكتور يحاول إيقاظي من الكابوس ويصرخ.

- لقد فات ذلك وانقضى.. انظر... أنت بخير.. كان كابوساً.. انتهى وانقضى.

وببطء اعتدلت في فراشي... كان كل جسمي غارقاً في العرق... شعرت كأنّني فقدت أرطالاً من وزني فجأة.. كان المطر ينهمر في الخارج بشدة... والبيت يهتز من صوت الرعد.

وبين النظرات المصوبة إلي من حولي في دهشة وفضول حاولت أن أستجمع قواي... همست في صوت خافت:

حمداً لك يا رب! حمداً لك بعدد ذرات كياني... لقد منحتني فرصة أخرى لكي أكون عبداً صالحاً... حمداً لك وشكراً لك يا رب!