آخر كلمات القَرَّاء الضرير
آخر كلمات القَرَّاء الضرير
بقلم أ.د/ جابر قميحة
في منطقة (تل الخرابنة) بجنوب مصر عُثِر سنة 1928م في قبوٍ على مجموعة من الأوراق البردية، وعددها 52 مكتوبة بلغةٍ مركَّبة من الهيروغليوفية والآرامية القديمة، منسوبة إلى (حاموتاب) القَرَّاء الضرير، وأقدِّم ترجمةً شعرية للورقة رقم 52.
(1)
يا أفق الوطن المسكين
ماذا في غدك المكنون؟
دعني أهتك عنك
ضباب كتابك حتى أشهد
يا لله!
إني لا أشهد غير سوادٍ ملعون
وشبابٍ مهزوم النخوة
مهتوك العزم
وحطامٍ كالعصف الذاوي
من شجر التين المحروق
وغصونِ الزيتون البالي
وبقايا راكدةٍ من ماءٍ وعيون
وقوافلَ من فلكٍ مشحون
تحمل للشعب المحروم
شحنة "بانجو" وهيروين
(2)
إني أسمع عصف الريح الصَّرصرْ
تعوي في الوطن المفجوع
وتزأر
يَهْدم ويدمر
يجتاحُ اليابسَ والأخضر
(3)
ما كانت هذي بالرؤيا
بل أشهدُ ذلك رأيَ العين
وأرى أيضًا بقرات سبعًا
عجفاوات سودًا
ينزفن دماءً وصديدًا
يأكلن سمينات من
أبقارٍ.. ألفٍ.. بل مليونْ
وأرى كل سنابل أرض النهر
تجف.. وتيْبَسُ ثم تَهاوَى
لتكون طعامًا للدود المنكود
(4)
وأرى الطوفانَ العارِم قادمْ
بسيول عاتيةٍ سوداء
ليست من ماء
بل من قَيءٍ.. وصديدٍ
ودماءْ..
فإذا ما حُمَّ اليومُ الأسودُ
فاحذر أن تسأل- يا
ولدي الطيب- عن نوح
وسفينة نوحْ
أو عن جبلٍ يحميك
ويعْصمكَ من اللُّجَجِ
السوداءِ.. الحمراءْ
أو عن قطعة ضوءٍ
تستهديها في الظلماء
أو عن نوحٍ وسفينته
فسفينة نوحٍ..
صادرها "الأمنُ الليلي"
وزوارُ الفَجرْ
في صمت.. فكوها..
باعوها لَوْحًا لوحا
مسمارًا.. مسمارا
للملِك "اليأجوج"
باعوها بالدولار.. وبالدينار
وبالويسكي المستورد والكفيار
وأجوس خلال الجوديّ..
فيا بؤس الجوديِّ الأخضر
مَرسى نوحٍ.. وسفينته
وحمائمه.. وصحابته
جعلوه "منطقة حرة"
"منطقة الجودي الحرة
للتهليب.. وللتهريبْ"
(5)
فلتلزم تابوت الصمت
ولتحذر أن تهتف
في غدك المفجوع العاني
"يا يوسف فلتأت إلينا..
يا يوسف لا تبعد عنا"
يوسف صدِّيقٌ يا ولدي
ولذلك يأبى أن يتولى
أمرَ خزائنِ وطنٍ منهوبٍ
مطحونْ..
ليكون عليها خيرَ أمينْ
يوسف هاجر للصحراءْ
آثر أن يرجع للجبِّ المعزول
هناكْ
فخزائن هذا الوطنِ المطحونِ
تولاها حرَّاس الوطن
من العسكر
شطارِ المنسر
(6)
وأرى في سِفْر الوطنِ المكنونِ
الطفلَ الأخضرَ
نَبْتَ الوطنِ العاني
إما مفقودًا.. أو مغتصبا
أو موْءودا
إذ يأتي يومٌ يا ولدي..
يتشبث فيه بثدي الأم
يعتصر بفكيه الحلَمة
يستجديها نقطةَ لبنٍ
هاربةً في أعماق الصدر
لكي تنقذه
من جوع ساعرْ
لكنَّ الحلمةَ لا تسعفه
إلا بنقاط من دمْ
يتلوها قيْءٌ وعدمْ
فالعسكر- في نهم كافر-
امتصوا حتى لبن الأمِّ
فلما شبعوا
خنقوها في ليلٍ دامٍ
أما الطفل..
فقد وأدوه بقاعِ النهرْ
(7)
وأرى ألسنة الصفوة
من أحرار الناس ستُقطعْ
وعيون الأطهار ستُقلعْ
لتكون قلائد وعقودا
وأساور تُهدَى
"لِسالومى"
راقصةِ الملكِ اليأجوجْ
(8)
والكلمةْ..
يا ويلَ الكلمة
ستُراق دماها ليل نهارْ
كي تَروي بستان "سالومى"
ولِتَروِيَ أرض "اليأجوج"
المنهوبة من "أرض النهرْ"
(9)
وستشهد كل فجاج الأرض
تضيقُ.. تضيقُ بما رحُبت
حتى يتخذ الأحياءُ
قبورَ الأمواتِ مساكنْ
بل يغدو الموت- بلا ألمٍ-
حلمَ الأحلامْ..
يطلبه الناس صباح مساء
"بحق البؤس
وحق الذل
تعالَ.. تعال"
فلا يأتي
حتى الأيام- وصدقني-
ستحاول أن تنتحر فلا تقدرْ
تنتحر لتخلص من عارٍ
موهومٍ.. كاذبْ
ألصقه فيها الأفاقون
الأفاكون
إذ قالوا:
"عار الأيام
ظلم الأيام
غدر الأيام"
مع أن الأيام من العار بريئةْ
والحقَّ أقول:
العار الداعر فيمن سبوا الأيام
فيمن شحنوا الزمن الناصعَ
بمخازيهم.. هربًا منها
فيمن قالوا:
ليس العدل أساس الملك
فيمن قالوا:
"إن الملكَ بديلُ العدل.. وفوق العدل"
فيمن تخذوا الجبن فضيلة
فيمن جعلوا الطهر جريمة
أما الصدق فشر رذيلة
فيمن قصفوا عنق الكلمة
وبغدر قد غالوا الشمس
وانتزعوا روح المستقبل
وانتهكوا الحاضر والأمسْ
(10)
وأرى "سالومَى" والمنسرْ
في رقصة عُهْر مجنون
تسكرهم أنخابٌ شتَّى
من خمر ضارٍ.. ودماءْ
في مأتم شعب مطحونْ
في أرض النهر المحزونْ
(11)
يا ولدي الطيب معذرةً
فالرؤية قد تاهتْ مني
والسحب الدامية السوداءْ
تمطر جمرًا وسكاكينْ
تطوى كل حطام باقٍ
من ماء وعيونْ
وجذور التين أو الزيتون
وأحسُّ بنبضي الذاوي
في قلبي المطعونْ
يأسره الصمت الأبديُّ
فأعجزُ عن أن استقرئ
باقية باكية
من سِفْر الوطن المكنونْ