الشاعر خادم الكلمات... أوكتافيو باث
الشاعر خادم الكلمات... أوكتافيو باث
ترجمة: هنري فريد صعب
مقطع من( El Arco YLa Lira )
أوكتافيو باث شاعر وناقد مكسيكي
حاصل على جائزة نوبل عام 1990
المقال الأدبي رقم (1)
تعتمد القصيدة على اللغة الاجتماعية أو المشتركة، ولكن كيف يتمّ العبور وماذا يحصل للكلمات عندما تغادر نطاق التبادلات الاجتماعية لتصبح كلمات القصيدة؟ الفلاسفة، والخطباء، والادباء يختارون كلماتهم. الاولون بحسب معانيها؛ والآخرون طبقاً لفاعليتها الاخلاقية والسيكولوجية أو الادبية. أما الشاعر فلا يختار كلماته. عندما نقول إن شاعراً ما يبحث عن لغته، فلا يعني ذلك أنه يسرع الى المكتبات أو الاماكن العامة بحثاً عن صيغ قديمة أو جديدة.
وإنما هو متردّد بين الأخذ بكلمات تخصّه حقيقة، متأصلة في داخله، والأخذ بتلك التي يدين بها للكتب أو الشارع. عندما يهتدي شاعر الى كلمته، فهو يستذكرها؛ إنها حالّة فيه قبلياً. وهو حالّ فيها. كلمة الشاعر تمتزج مع كيانه بالذات. الشاعر هو كلمته. في أثناء الابداع، يطفو الجزء الأخفى من ذواتنا على سطح الوعي. الابداع، يعني أن نخلق بعض الكلمات التي يتعذّر انفصالها عن كياننا. إنها قائمة بذاتها ولا شيء سواها. والشاعر صنيعة كلمات ضرورية يصعب استبدالها. لذا كان من الصعب أن نصحّح عملاً ناجزاً. كل تصحيح يتطلّب إعادة خلق؛ عودة الى الوراء، نحو داخلنا. وإن عدم إمكان الترجمة الشعرية قد يفسّر انطلاقاً من هذا المنحى. كل كلمة في قصيدة هي فريدة. ليس ثمة من مترادفات. إنها فريدة وثابتة: من غير الممكن أن نمس مفردة من دون المساس بكل القصيدة؛ من غير الممكن أن نغيّر فاصلة من دون أن نهزّ البنية بكاملها. القصيدة هي كل حي، مكوّن من عناصر لا تُعوّض. وعليه، فالترجمة الحقيقية لا يمكن أن تكون سوى إعادة خلق.
الجزم بأن الشاعر لا يستعمل الاّ الكلمات التي سبق أن كانت في داخله، لا يناقض ما قيل عن العلاقات القائمة بين القصيدة واللغة العامة. فكلمات الشاعر هي كلمات جماعية ايضاً. والاّ لما كانت كلمات. كل كلمة تستلزم شريكين: الذي يتكلم والذي يستمع. العالم الفعلي للقصيدة ليس من صنع مفردات المعجم، بل من صنع الجماعة. الشاعر ليس غنياً بالمفردات الميتة وإنما بالحية. فاللغة الشخصية تعني اللغة الجماعية التي استوحاها الشاعر وجمّلها. وقد عرّف أبرز الشعراء الغامضين رسالة القصيدة كالآتي: "أن تمنح كلمات العشيرة المعنى الأصفى". وهذا يصح، حتى في معنى الجملة الأكثر سطحية: في العودة الى المعنى الاشتقاقي للمفردة، وكذلك الى غنى اللغة. إن كثيراً من المفردات التي تبدو لنا اليوم عامة ودارجة، هي ابتكارات وتوليدات مأخوذة من الايطالية واللاتينية على أيدي خوان دي مينا، غارسيلاسو أو غونغورا (شعراء إسبان). إن كلمات الشاعر هي كلمات العشيرة ايضاً أو سوف تكون يوماً. الشاعر يغيّر اللغة، يعيد خلقها، أو يجعلها أنقى، كي تصبح تالياً لغته. ولكن ممّ تتكوّن تنقية الكلمة هذه، في الشعر، وماذا نعني بقولنا إن الشاعر لا يستخدم الكلمات بل يخدمها؟
إن الكلمات، والجمل، والتعجب التي تنتزع منا الألم والمتعة أو أي شعور آخر، تَقْصُر اللغة على مدلولها الشعوري فقط. وهكذا تكفّ المفردات المنطوق بها عن أن تكون حصرياً، أدوات تواصل. وقد لاحظ كروتشه أن ذلك لا يعني بدقة، العبارات الشفهية: لفقدانها العنصر الارادي والذاتي الذي تخنقه التلقائية شبه الآلية التي تُنتجها. إنها جمل مقولبة يغيب عنها كل طابع ذاتي. ولكن ليس بالضروري مشاطرة الفيلسوف الايطالي وجهة نظره، لندرك أنه حتى، في ما يتعلق بالعبارات الحقيقية، ثمة بُعد لا غنى عنه تفتقر اليه: أن تكون وسائل تواصل. كل كلمة تستدعي كليماً. وإن أقل ما يمكن قوله عن هذه العبارات والجمل التي تُفرغها شعوريتنا آلياً، هو أن الكليم عبرها أقل حضوراً ويكاد ينعدم. لقد طرأ على الكلمة تشويه: هو حضور المستمع.
يقول فاليري في مكان ما: "إن القصيدة هي إنماء التعجّب". فبين "الأنماء" و"التعجّب" ينشأ توتّر متناقض؛ هذا التوتر هو القصيدة. واذا غابت إحدى هاتين اللفظتين، فالقصيدة ترتدّ الى التعجب الآلي أو تتحوّل الى مغالاة بليغة، أو وصف، أو نظرية. "الأنماء" هو لغة تبدع ذاتها في وجه تلك الحقيقة الخام والمتعذّر وصفها بدقة، التي يعيّنها التعجب. اللغة: أذن تستمع الى فمٍ يقول ما لم يقله التعجّب. إن صرخة الألم أو الفرح تشير الى الشيء الذي آلمنا أو أذهلنا؛ إنها تشير اليه، ولكن تحجبه قائلة: إنه هناك، ولكن لا مَن أو ماذا هو. الحقيقة التي يدلّ عليها التعجّب تظل غير مسمّاة: إنها هناك، لا غائبة ولا حاضرة، على وشك الظهور أو الاختفاء الى الابد. إنها حدوث وشيك، ولكن ما هو؟ "الأنماء" ليس سؤالاً أو جواباً: إنه دعوة. والقصيدة - فمّ يتكلم وأذن تستمع - ستكون تجلياً للتعجّب الذي يشير من دون أن يسمّي.
أقول تجلياً وليس تفسيراً. فإذا كان "الأنماء" تفسيراً، فلن تكون الحقيقة متجلية، ولكن موضّحة، وستكون اللغة عرضة للتشويه: سنكفّ عن الرؤية والاستماع لمصلحة الادراك فقط. الصرخة وحقيقتها تختفيان كحضورَين وتتحولان الى مدلولات. ويبقى احتمال: أن يشاء الشعور المتوحّد الاكتفاء بذاته ويرفض الصرخة والمدلول معاً. والصرخة إشارة، لكنها لا تعني شيئاً؛ والاشارة، إذ تعني، تبرهن على أن بيننا وبين الحقيقة مدى لا يمكن اجتيازه. واللغة وسيلة للموجود الضعيف الذي نكونه نحن كي نلامس على الاقل الامتلاء اللايُسمّى للموجود. وذلك يثبت، بما أنه ملاذنا الوحيد، أننا لن نكون تماماً ما ندّعي أننا نكونه. فاللغة تحكم علينا بأن لا نكون أبداً ما نسمّي. وإذا ما كفّت الاشارات (أو العلامات) عن الدلالة، وكانت موجودة فقط، فإننا نبلغ منطقة لا يعني فيها الموجود شيئاً، لكنه يوجد. وبتحوّل العالم الى علامات شفافة، فإن اللغة تمتنع عن الدلالة. وبدل أن تعكس العلاماتُ الاشياءَ، فإنها تعكس ذاتها وتحل العلامة محل الحقيقة؛ وتكفّ عن كونها علامة، تدل على. هل الموجود قد امتصّ ثانية الدلالة. الموجود أو قفاه المطابق: اللاوجود؟ سؤال لا معنى له، منذ أن اختفت الدلالات. حيث أن تبخّر اللغة هو ايضاً تبخّر للاشياء، إذا ما نظرنا اليها في خصوصيتها أو كدليل لمجمل الاشياء: كعالم. ليس ثمة ما نستمع اليه، لأنه ليس من فمٍ ليتكلم. وفي تاريخ الحضارة لم يحدث هذا الاختبار غير مرّة واحدة، وبشكل نهائي. حين غادر إيجيتور - مالارميه غرفته وضاع في سلالم قادته الى قبره: "غير أن الأثاث سيحتفظ بفراغاته، وقارورة تحوي مادة العدم، نزع حلم مستحيل وصاف".
نلاحظ نقيض ذلك الى أقصى حد، عندما نستخدم اللغة من أجل التبادل المباشر: الكلمات تكفّ عن امتلاك معنى معيّن وتفقد الكثير من دلالاتها الحيوية، والصوتية، والانفعالية. الكليم لا يختفي؛ بالعكس، يتحقّق بشدة. إنه الكلمة، وقد تحولت الى عملة صافية للتبادل، ترقّ وتمّحي. كل دلالاتها تزول أو تضعف لمصلحة دلالتها التواصلية.
في حال التعجّب، الكلمة صرخة مقذوفة في الفراغ: الكليم لا يتدخّل. وإذ تكون الكلمة أداة للفكر المجرّد، فإن الدلالة تلتهم كل شيء: الشريك والمتعة معاً. إنها تنحطّ كوسيلة تبادل. وفي كل من تلك الحالات، تتضاءل الكلمة وتتخصّص. وسبب هذا التشويه الثابت أن اللغة تصبح أداة، آلة، شيئاً. إذ في كل مرة نستخدم الكلمات، نشوّهها. لكن الشاعر لا يستخدم الكلمات، بل هو الذي يخدمها. وعليه، فإنه يعيدها الى طبيعتها المطلقة، ويجعلها تستعيد كينونتها. بفضل الشعر، تكتسب اللغة ثانيةً وضعها الاصيل. في المقام الاول، تستعيد دلالتها الحيوية والصوتية، والمكروهة عموماً من الفكر، وكذلك دلالاتها الانفعالية، وفي الاخير دلالاتها المعنوية. إن تنقية اللغة، وهذه مهمة الشاعر، تقضي بإعادة طبيعتها الاصلية اليها. ونصل هنا الى إحدى النقاط المركزية في مبحثنا. فالكلمة في ذاتها، متعددة المعاني. فإذا كان صحيحاً، ان الكلمة في الشعر، تستعيد طبيعتها الاصيلة - أي استطاعتها أن تعني شيئين أو أكثر في الوقت نفسه، يبدو أن القصيدة تُنكر جوهر اللغة بالذات: المدلول (أو المعنى). والشعر إذذاك، يصبح مشروعاً باطلاً ومسيخاً معاً: إنها (أي القصيدة) تجرّد الانسان من أعز ثرواته: وهي اللغة، وتهبه عوض ذلك طرفة صوتية مبهمة! فأي معنى اذاً للكلمات والجمل في القصيدة، إن يكن لها معنى؟