العاصفة الثلجية
قبل نهاية عام 1811 _وهي فترة مهمة لنا _كان جافريل جافريلوفيتش الطيب يعيش في ملكه في نيناراندوفا ، وكان مشهورا في نواحي المنطقة بسخائه وطيبة قلبه ؛ فكان الجيران لا ينقطعون عن زيارته : بعضهم ليأكل ويشرب ، وبعضهم ليلعب لعبة " بوسطون " مع زوجه براسكوفيا بيتروفنا مقابل خمسة كوبكات ، وبعضهم لينظر إلى ابنتهما ماريا جافريلوفنا ، وهي فتاة شاحبة الوجه رقيقة الجسم في السابعة عشرة ، عدت زوجا ثرية
، وتمناها كثيرون لأنفسهم أو لبنيهم . وقد نشئت ماريا جافريلوفنا على قراءة الروايات الفرنسية ، ومن ثم أحبت .
ووقع اختيارها على ملازم ثان في الجيش رقيق الحال ، كان حينئذ في إجازة في قريته . ولسنا في حاجة للقول إن الشاب قابل حبها بحب يماثله قوة ، وإن والدي محبوبته منعا ابنتهما من التفكير فيه بعد أن لحظا ميلهما المتبادل إلى بعضهما ، وإنهما استقبلاه أسوأ من استقبال الناس لمخمن الضرائب غِبَ صرفه من وظيفته . تبادل
محبانا الرسائل ، وتلاقيا يوميا منفردين في غابة الصنوبر الصغيرة أو قرب الكنيسة العتيقة ، وتبادلا هناك عهود
الحب الخالد ، وندبا حظهما القاسي ، وصاغا متباين الخطط . وكان طبيعيا جدا بعد أن تراسلا وتحادثا على هذه الشاكلة أن يبلغا الخاتمة التالية : ما دمنا لا نستطيع العيش دون بعضنا ، وما دامت إرادة الوالدين القاسيين تعترض سبيل سعادتنا ؛ فلماذا لا نستغني عنهما ؟ ولا حاجة للإشارة إلى أن هذه الفكرة السعيدة ولدت في
ذهن الشاب ، وأنها ناسبت غاية المناسبة الخيال الرومانتيكي لماريا جافريلوفنا . وحل الشتاء فأوقف لقاءاتهما إلا
أن مراسلاتهما زادت فاعلية . وتوسل فلاديمير نيكولاييفتش في كل رسالة من رسائله إلى ماريا أن تهبه نفسها ،
وأن تتزوجه خفية ، وأن يختفيا بعض الوقت ، ثم يلقيا نفسيهما على أقدام والديهم الذين لا مرابة في أنهم سيتأثرون نهايةً بالثبات البطولي الذي أبداه العاشقان ، ويقولون محقين لهما : أيها الابنان ، إلى أحضاننا !
ترددت ماريا مديدا ، ورفضت خطط هرب كثيرة ، وأخيرا قبلت . وتقرر ألا تتعشى في اليوم المحدد للهرب ،
بل تدخل غرفتها بزعم الصداع . وشاركت خادمتها في المؤامرة ، وتقرر أن تدخلا الحديقة من السلم الخلفية
حيث ستجدان خلفها مِزلجة مهيأة تركبانها ، وتمضيان قدما إلى كنيسة ياردينو ، وهي قرية واقعة على قرابة
خمسة فراسخ من نينارادوفا ، وهناك سيكزن فلاديمير في انتظارهما . وعشية اليوم الحاسم ، سهرت ماريا
طوال الليل ، فحزمت بياضات السرير وبعض الملابس الأخرى ، وكتبت رسالة مطولة إلى سيدة شابة عاطفية من صديقاتها ، كذلك كتبت رسالة أخرى إلى والديها ، واستأذنتهما بأرق العبارات عادَةً قوة الحب الغلابة مبررا
للخطوة التي اتخذتها ، وختمت رسالتها بالتوكيد على أنها ستعد اللحظة التي يؤذن لها فيها بالارتماء على أقدام
والديها الحبيبين أسعد لحظات حياتها . وبعد أن ختمت الرسالتين بختم تولا المنقوش عليه قلبان ملتهبان في رسم
جميل ؛ انطرحت في فراشها قبيل الفجر ، وغفت ، لكنها حتى في تلك اللحظة كانت تصحو بلا انقطاع على أحلام مرعبة : ففي البداية بدا لها أن أباها أوقفها لحظة أن استقرت في المزلجة لتذهب وتتزوج ، وأنه جرها إلى
هاوية عميقة مظلمة سقطت فيها على رأسها ، فسقط قلبها عندئذ سقوطا لا سبيل إلى وصفه ، ثم إنها رأت فلاديمير مطروحا فوق العشب مصبوغا دما ، وأنه يتوسل إليها مقطوع النفس ثاقب الصوت لتسرع وتتزوجه .
وطفت أمام ناظريها واحدة وراء الأخرى صور خيالية ليس لها معنى . وأخيرا صحت أزيد شحوبا من المعتاد
وهي تعاني صداعا حقيقيا . ولحظ والداها قلقها ، وشق قلبها جزعهما الحنون عليها واستفساراتهما المتتابعة :
ما بالك يا ماشا ؟ ! مريضة يا ماشا ؟ ! فحاولت طمأنتهما والظهور بمظهر المبتهجة ولكن دون فائدة . حل المساء ، فأحزن قلبها إدراكُها أن هذا هو آخر يوم تقضيه في حضن أسرتها . كانت ميتة أكثر منها حية . ودعت الجميع وكل الأشياء المحيطة بها سرا . وقدم طعام العشاء ،فبدأ قلبها يخفق عنيفا ، وأعلنت مرتجفة الصوت أنها
لا تريد أي طعام ، ثم استأذنت أباها وأمها ، فقبلاها وباركاها مثلما هي العادة ، فمنعت نفسها في صعوبة من البكاء حتى إذا بلغت غرفتها رمت نفسها فوق مقعد وانفجرت تبكي . حثتها خادمتها على الهدوء والشجاعة .
كان كل شيء معدا . بعد نصف ساعة ستفارق ماشا بيت والديها فراقا أبديا ، ستفارق غرفتها وحياتها الهادئة
كفتاة . كان الثلج يتهامى في الفناء كثيفا ،وعصفت الريح ، واهتزت مصاريع النوافذ وترجرجت ، وبدا لها
كل شيء ينذر ببلية . وما عتم السكون أن لف المنزل ، ونام كل من فيه ، فلفت ماشا نفسها بوشاح ، ولبست
عباءة مدفئة ، وحملت صندوقها الصغير في يدها ، وهبطت سلم المنزل الخلفية ، وتبعتها خادمتها تحمل صرتين
، ونزلت الاثنتان في الحديقة . لم تسكن عاصفة الثلج ، وهبت الريح في وجهيهما كأنما تحاول وقف المذنبة الشابة
. بلغتا نهاية الحديقة بشق النفس . كانت مزلجة تنتظرهما في الطريق . ولم يتوقف جوادا تلك المزلجة عن الحركة
بعد أن جمدهما البرد نصف تجميد . وكان حوذي فلاديمير يتمشى أمامهما كبحا لنفاد صبرهما . عاون الحوذي الشابة وخادمتها في الركوب ، وحط الصندوق والصرتين في المزلجة ، وأمسك الزمام فاندفع الجوادان . والآن سنعود إلى عاشقنا الفتى بعد أن تركنا الفتاة في رعاية القدر وبراعة الحوذي تيريشكا . قضى فلاديمير نهاره كله في التنقل ، فزار في الصباح كاهن ياردينو ، ثم مضى يبحث عن شهود بين الملاك المجاورين عقب أن توصل إلى اتفاق مع الكاهن بعد كثير من المشقة . وكان أول من تقدم إليه نافخ بوق متقاعد يقارب الأربعين اسمه دريفن
، قبل الشهادة مسرورا ، وأعلن أن المخاطرة تذكره أيام شبابه وممازحاته في قوة الفرسان ، وزين لفلاديمير البقاء والتغدي عنده ، وطمأنه إلى أنه لن يلقى مشقة في العثور على الشاهدين الآخرين . وفعلا ؛ فحالا بعد الغداء
ظهر شميدت مساح الأرض ذو الشارب والمهاميز ، وابن لضابط شرطة ، هو فتى في السادسة عشرة التحق
مؤخرا بسلاح الفرسان . ولم يكتفِ ثلاثتهم بقبول مقترح فلاديمير ، بل أقسموا أنهم مستعدون للتضحية بحياتهم
من أجله ، فعانقهم جذلا ، وقفل إلى البيت لإعداد كل شيء . كان الليل أسدل رواقه منذ بعض الوقت ، فأرسل فلاديمير موضع ثقته تيريشكا إلى نينا رادوفا بمزلجته وبتعليمات مفصلة ، وأمر بأن تهيأ له شخصيا مزلجة
صغيرة بجواد واحد ، ومضى مفردا دون أي حوذي إلى ياردينو حيث يتوقع وصول ماريا جافريلوفنا بعد
ما يقارب الساعتين . كان يعرف الطريق معرفة حسنة ، ومن المنتظر أن تتم الرحلة في عشرين دقيقة بالإجمال ،
ولكن ما كاد يخرج من مستراد الخيل إلى الحقل المجرود حتى ثارت الريح ، وأقبلت عاصفة ثلجية عاتية حتى عجز عن رؤية أيما شيء . وفي دقيقة اختفى الطريق تماما ، وانحجبت الأشياء المحيطة بفلاديمير في ضباب أصفر متكاثف تهاطل خلاله ندف الثلج الأبيض ، وتخالطت الأرض والسماء . ألفى فلاديمير نفسه في قلب الحقل ، وحاول دون فائدة الاهتداء إلى الطريق ثانية ، فكان أن مضى جواده على غير هدى . وصار كل لحظة يدخل
كَدْس ثلج أو يتعثر في حفرة حتى غدت المزلجة لا تكف عن الانقلاب . حاول فلاديمير ألا يفقد الاتجاه السليم ، ولكن بدا له أنه مضى ما يزيد على نصف ساعة دون أن يبلغ غابة ياردينو بعد . ومضت عشر دقائق أخرى
دون أن يرى أية غابة . ساق مزلجته في حقل تعترضه الخنادق العِماق ، ولم يخف عتو العاصفة الثلجية ، ولم
تصفُ السماء ، وبدأ الجواد يجهد ، وسال العرق منه حبات كبارا رغم أنه كان دوما نصف دفين في الثلج .
أخيرا وضح لفلاديمير أنه كان ماضيا في الاتجاه الخطأ ؛ فتوقف وراح يفكر ويتذكر ويوازن ، واقتنع بأنه كان
من الواجب أن يتجه يمينا ؛ فاتجه يمينا ، وبالكاد استطاع جواده المضي أماما . انقضى الآن أكثر من ساعة وفلاديمير في الطريق . لا يمكن أن تكون ياردينو نائية ، ولكنه تابع مسيره دون أن ينتهي الحقل . لا شيء
سوى أكداس الثلج والخنادق . وكانت المزلجة لا تكف عن الانقلاب والاستواء من جديد . كان الوقت ينقضي ؛
فأخذ قلق فلاديمير يقوى . وأخيرا برز شيء داكن في المدى ؛ فوجه فلاديمير جواده نحوه ، وعندما داناه ألفاه
غابة . قال لنفسه : الحمد لله . لست بعيدا الآن . وساق مزلجته في حافة الغابة آملا في الاهتداء شيئا فشيئا
إلى الطريق المألوف أو الالتفاف حول الغابة ؛ فياردينو تقع خلفها مباشرة . ووجد الطريق في الحال ، فغاص
في ظلمة الغابة التي جردها الشتاء من ورقها . لا يمكن للريح أن تعتو هنا . كان الطريق مهيدا ؛ فاستعاد الجواد
شجاعته ، واطمأن فلاديمير ، لكنه واصل السير بمزلجته دون أن يرى ياردينو ،ودون أن تنتهي الغابة . واكتشف
مرتاعا أنه دخل غابة مجهولة ! فاستبد به القنوط ، وألهب الجواد بالسوط ؛ فاندفع الحيوان البائس خببا ،لكنه راخى سرعته حالا ، وفي قرابة ربع ساعة صار بالكاد قادرا على سحب رجل إثر أخرى رغم كل مجهودات التعيس فلاديمير . وأخذت الأشجار تقل شيئا فشيئا ؛ فبرز فلا ديمير من الغابة دون أن يرى ياردينو . لا ريب
في أن الليل انتصف الآن . انبثقت الدموع من عيني فلاديمير ، وساق مزلجته خبط عشواء . وفي تلك الأثناء كانت العاصفة سكنت ، وتناثرت السحب ، وترامى أمامه سهل مستوٍ يكسوه بساط أبيض متماوج . كان الليل حسن الصحو ؛ فرأى فلاديمير قرية صغيرة تؤلفها أربعة أو خمسة بيوت ، فساق مزلجته صوبها ، ووثب منها
عند أول كوخ ، وأسرع إلى النافذة ، وراح يدقها . وبعد دقائق قِلال رُفع مصراعها الخشبي ،وأطل عجوز بلحيته
الشائبة . سأل : ماذا تريد ؟
_ هل ياردينو بعيدة من هنا؟
_ ياردينو ؟
_ نعم . نعم . أهي بعيدة ؟
_ ليست بعيدة . حوالي عشرة فراسخ .
وعند تلك الإجابة أمسك فلاديمير شعره ، ووقف ساكنا لا يتحرك مثل إنسان حكم عليه بالإعدام . استرسل
العجوز : من أين آتٍ ؟
ولم تكن لدى فلاديمير الشجاعة للمجاوبة . قال : اسمع يا شيخ ! أيمكن أن تدبر لي جيادا تأخذني إلى ياردينو ؟
أجاب الفلاح : من أين لنا مثل هذه الجياد ؟ !
_ هل يمكن أن آخذ مرشدا ؟ سأدفع ما يطلب .
قال العجوز مغلقا المصراع : انتظر ! سأرسل لك ابني . سيرشدك .
انتظر فلاديمير ، ولكن ما كادت تنقضي دقيقة حتى أخذ يدق النافذة ؛ فارتفع المصراع ثانية ،
وعاودت اللحية الظهور . سأل العجوزُ : ماذا تريد ؟ !
_ ماذا بشأن ابنك ؟ !
_ سيخرج حالا . ينتعل حذاءه . بردان ؟ ادخل وتدفأ !
_ شكرا . أرسل ابنك حالا !
وصر الباب ، وخرج فتى يحمل هراوة ، تقدم فلاديمير ، مرة يشير إلى الطريق ، ومرة ينقب عنه
بين أكداس الثلج . سأله فلاديمير : في أي وقت نحن ؟
رد الفلاح الصغير : النهار دانٍ .
فلم يلفظ فلاديمير كلمة أخرى . كانت الديكة تصيح ، وكان النور قد بزغ حين وافيا ياردينو . كانت
الكنيسة مغلقة .نقد فلديمير الدليل أجره ، وقاد المزلجة إلى باحة الكاهن . لم تكن مزلجته الأخرى هناك !
أي أخبار تنتظره ؟ ! ولكن دعنا نرجع إلى ملاك نينارادوفا ذوي الشأن لنرى ماذا يحدث عندهم . لا شيء .
صحا العجوزان وقصدا الشرفة . جافريل جافريلوفيتش يعتمر قبعة النوم ، ويلبس سترة من الصوف الناعم ،
وبراسكوفيا بيتروفنا لابسةٌ مبذلا . أحضر إليهما إناء الشاي ، وأرسل جافريل جافريلوفيتش خادما يسأل عن
حال ماريا جافريلوفنا ، وكيف أمضت الليلة . ورجع الخادم يقول إن الشابة ما نامت نوما حسنا ، وإن كانت أحسن حالا الآن ، وإنها ستهبط إلى الشرفة بعد قليل . وفعلا انفتح الباب ، ودخلت ماريا جافريلوفنا ، وتمنت لأبيها وأمها صباحا طيبا . سأل جافريل جافريلوفيتش : ما حال رأسك يا ماشا ؟
ردت : تحسن يا أبي .
قالت براسكوفيا بيتروفنا : جائز جدا أنك تنشقت الأدخنة من الفحم أمس .
ردت ماشا : جائز جدا يا أمي .
مضى اليوم في سعادة كافية ، إلا أن ماشا مرضت ليلا ، فبعثوا يطلبون طبيبا من المدينة، فوصل مساء ، وألفى
الفتاة العليلة تهذي ، وتلت ذلك حمى عنيفة ، فحلقت المريضة المسكينة مدة أسبوعين على شفا الموت . لم يدرِ
أحد في البيت أي شيء عن هربها . وأُحرِقت الرسائل التي كتبتها مساء البارحة . ولم تهمس خادمتها بأي كلمة
عن الهرب لأي إنسان مخافة غضب سيدها . وكتم الكاهن ونافخ البوق المتقاعد ومساح الأرض ذو الشارب
والفارس الصغير السر . ولعلةٍ كان كتمانهم . ولم يفه الحوذي تيريشكا بأي كلمة عنه حتى في حال ثمله .
وهكذا كتم السر أكثر من خمسة متآمرين ، إلا أن ماريا جافريلوفنا أذاعت سرها في هذيانها ، وإن كانت
كلماتها مفككة بحيث لم تفهم أمها التي لم تفارق سريرها من تلك الكلمات إلا أن بنتها تحب فلاديمير نيكولا ييفيتش
حبا عميقا ، وأن الحب ربما كان علة مرضها ، فشاورت زوجها وبعض الجيران ، وتقرر إجماعا في النهاية أن هذا هو قدر ماريا جافريلوفنا ، وأن المرأة لا يمكن أن تفر من الرجل الذي قُدر لها زوجا ، وأن الفقر ليس جرما ،
وأن الإنسان لا يتزوج مالا وإنما يتزوج إنسانا ، إلخ . والحكم الخلقية عجيبة النفع في مثل هذه الأحوال حيث يمكننا ابتكار القليل تبريرا لما نقدم عليه . وفي نفس الوقت أخذت الشابة تشفى . ومر وقت مديد لم يظهر فلاديمير
أثناءه في بيت جافريل جافريلوفيتش . كان يخاف الاستقبال المألوف . وتقرر أن يرسلوا إليه ، ويعلنوه نبأ سعيدا مفاجئا : رضا والدي ماريا زواجَه من بنتهما ، ولكن كم كانت ذهلة مالكي نينارادوفا كبيرة حين تلقوا منه رسالة نصف مجنونة جوابا على دعوتهم ؛ أعلمهم فيها أنه لن يضع قدمه في بيتهم مرة أخرى ، ورجاهم أن يتناسوا
مخلوقا تعسا غاية مناه الموت . وسمعوا بعد قليل أيام أنه التحق بالجيش ثانية ، وكان ذلك في 1812 . ومر وقت
مديد دون أن يجرؤوا على إعلان ماريا ذلك ، وكانت حينئذ تجنح للشفاء . ولم يحدث أن ذكرت اسم فلاديمير ، ولكن بعد شهور أغمي عليها حين وجدت اسمه في قائمة الذين ميزوا أنفسهم في القتال ، وعلمت أنه جرح جرحا
بليغا في بوردينو ، وخيف عليها أن تنوبها الحمى مرة ثانية ، ولكن حمدا لله ؛ فلم يكن لنوبة الإغماء عقابيل خطيرة . وأصابتها بلية أخرى : مات جافريل جافريلوفيتش وخلفها وريثة لسائر أملاكه ، بيد أن الميراث لم
يواسِها ، وقاسمت براسكوفيا بيتروفنا ابنتها المسكينة أساها في إخلاص حالفة أنها لن تتخلى عنها أبدا . وهجرت الاثنتان نينارادوفا موطن الكثير الجم من حزين الذكريات ، وذهبتا لتعيشا في ضيعة أخرى . وهناك تزاحم الخطاب حول الوريثة الثرية الفتية ، إلا أنها لم تهب أيا منهم أوهى أمل ، ونصحتها أمها أحيانا بأن تختار لها زوجا ، بيد أن ماريا هزت رأسها وجنحت إلى التأمل والتفكر . ما عاد فلاديمير موجودا . مات عشية دخول الفرنسيين موسكو ، وبدا أن ماشا تقدس ذكراه ؛ فهي في الأقل كنزت كل ما يمكن أن يذكرها به : الكتب التي
قرأها يوما ، رسومه ، ملاحظاته ، وقصائد الشعر التي انتقاها لها . وذهل الجيران من ثباتها حين سمعوا بذلك
، وارتقبوا في فضول البطل الذي سينتصر في الختام على الإخلاص الحزين للعذراء أرطماسيا . وكانت الحرب
انتهت خلال ذلك نهاية مجيدة ، وعادت فيالقنا من الخارج ، وخرج الشعب لاستقبالها ، وعزفت الفرق الموسيقية أناشيد الفتح : " عاش هنري الرابع ": ، وفالسات وألحان التيرول من " الجوكند " ، والضباط الذين
مضوا إلى الحرب محض ولدان عادوا منها كبارا ذوي هيئة عسكرية تزين الصلبان صدورهم ، وثرثر الجنود
محبورين فيما بينهم خالطين دوما الألفاظ الألمانية والفرنسية في كلامهم . زمن لا ينسى أبدا . إنه زمن العظمة
والحمية . وما كان أقوى خفقان القلب الروسي عند سماع كلمة " الوطن " ! وما كان أحلى دموع اللقاء . ويا
للإجماع الذي جمعنا فيه بين الكبرياء الوطنية وحب القيصر ! ويا لها من لحظة له ! كانت النسوة الروسيات منعدمات المثيل يومذاك . كانت حماستهن مسكرة حقا حين هتفن مرحبات بالفاتحين : مرحى ! و" وطوحن قبعاتهن عالية في الجو " . وأي ضابط في ذلك الزمن لا يقر بأنه مدين للروسيات بأحسن جوائزه وأنفسها ؟ !
في ذلك الزمن المشرق ، كانت ماريا جافريلوفنا تعيش مع أمها في مقاطعة ... ولم تشهد كيف احتفلت العاصمتان
بعودة الجنود ، بيد أن الحماسة في المناطق والقرى كانت _ كلما أمكن _ أكبر مما هي حتى في العاصمتين . كان
ظهور ضابط في تلك الأماكن فوزا حقيقيا له . وشعر العاشق الذي يلبس سترة لونها سادة بالقلق الشديد بجوار ذلك الضابط . سلف منا القول إن ماريا جافريلوفنا كانت رغم برودها محاطة بالخطاب كالعهد بها من قبل ، ولكنهم اضطروا جميعا للتقهقر خلفا حين ظهر في القصر بورمن العقيد المجروح من سلاح الفرسان ووسام القديس
جورج في عروته ، وبشحوبه المثير مثلما لاحظت الصبايا في الجوار . كان يقارب السادسة والعشرين . وقد
أخذ إذن تغيب ليزور ضيعته التي كانت تلاصق ضيعة ماريا جافريلوفنا . منحته ماريا اهتماما خاصا ، واختفى في محضره تأملها المعتاد . ولا يمكن القول إنها تغازلت معه
، وكان بورمن في الواقع شابا أخاذ السحر يتمتع بتلك الروح التي تسر النسوة كثيرا :
روح اللياقة والمراعاة دون تظاهر ، وإن كانت لا تخلو من قليل ميل إلى السخر اللامبالي . وكان سلوكه نحو
ماريا جافريلوفنا بسيطا وصريحا ، إلا أن روحه وعينيه كانت تتابعها في ما تقول وفي ما تفعل . وقد بدا ذا مزاج
هاديء ومتواضع مع أن إخبارية قالت إنه كان فاسقا مهولا ، لكن ذلك لم يَعِبْه في نظر ماريا جافريلوفنا التي _ على مثال سواها من الصبايا إجمالا _ تعذر مسرورة الحماقات التي تدل على الجرأة وحدة الطبع ، إلا أن صمت
الفارس حرك فضولها أكثر من أي شيء آخر ، أكثر من حنانه ، أكثر من حديثه المستحب ، أكثر من شحوبه
المثير ، أكثر من ذراعه المعلقة في رباط متدلٍ من عنقه . ولم تملك إلا أن تقر بأنه سرها كثيرا . وربما لحظ هو
أيضا بإدراكه وخبرته أنها ميزت بينه وبين الآخرين ، فكيف لم تره حتى الآن يهوي على قدميها أو تسمع اعترافه بالحب ؟ ! ما الذي منعه ؟ ! أكان الجبن الذي لا يفارق الحب الصادق ؟ ! أو الكبرياء ؟ ! أو هي طريقة عاشق محترف في التودد ؟ ! بدا لها ذلك لغزا . وبعد أن طال بها التفكير استنتجت أن الجبن كان السبب الوحيد ، فقررت تشجيعه بزيادة الاهتمام به ، وبإبداء الحنان له إن دعت الظروف ، فهيأت حلا للعقدة ليس متوقعا البتة ،
وانتظرت نافدة الصبر لحظة البوح الرومانتيكي . إن السر مهما كانت طبيعته يثقل دائما قلب الإنسان . وحققت حيلتها النجاح المأمول ؛ فعلى الأقل وقع بورمن في حلم اليقظة ذاك ، واستقرت عيناه السوداوان عليها نارا حامية
بدت معها اللحظة الحاسمة دانية . وتحدث الجيران عن زواجهما كأنه أمر متفق عليه ، وسرت براسكوفيا بيتروفنا الطيبة ؛ لأن بنتها لقيت في النهاية محبا جديرا بها . وفي يوم كانت العجوز جالسة وحيدة في الشرفة تتسلى بمجموعة من ورق اللعب حين دخل بورمن ، وسأل بسرعة عن ماريا جافريلوفنا . ردت العجوز :
في الحديقة . اخرج إليها ، وسأنتظرك هنا .
ذهب بورمن ، ورسمت العجوز علامة الصليب وفكرت : ربما يسوى الموضوع اليوم .
وجد بورمن ماريا جافريلوفنا عند البركة في ظل صفصافة ، بين يديها كتاب ، وتلبس تنورة بيضاء .
بطلة حقيقية لقصة حب . وبعد الأسئلة والملاحظات الأولى القليلة جعلت ماريا الحديث يتوقف لغاية
في نفسها ؛ فزاد ذلك حرجهما المتبادل الذي لم يكن من الممكن الخروج منه إلا باعتراف مفاجيء وحاسم .
وهذا ما حدث ؛ فبعد أن أحس بورمن صعوبة موقفه ؛ أعلن أنه بحث طويلا عن فرصة ليفتح لها قلبه ، وطلب
منها لحظة انتباه له ؛ فأغلقت ماريا جافريلوفنا كتابها ، وغضت طرفها وسْمَةَ الإذعان لطلبه . قال بورمن :
أحبك . أهيم بك حبا .
فاحمر خدا ماريا جافريلوفنا ، وغضت طرفها أكثر . تابع بورمن : تصرفت بطيش حين عودت نفسي على
المتعة العذبة برؤيتك وسماعك يوميا ( وهنا تذكرت ماريا أولى رسائل القديس برو ) . وتابع بورمن يقول :
ولكن فات أوان مقاومة قدري ؛ فمنذ اليوم ستكون ذكراك وصورتك الحبيبة التي لا مثيل لها عذاب حياتي وعزاءها . ويبقى ثمة واجب خطير يلزم أن أؤديه ، وهو أن أكشف لك عن سر مفزع سيقيم بيننا حاجزا لا سبيل لاجتيازه .
فقاطعته ماريا جافريلوفنا مسرعة : كان ذلك الحاجز قائما دائما . لا يمكن أن أكون زوجتك .
رد هادئا : أعرف . أعرف أنك أحببت يوما ، ولكن الموت وثلاث سنين من الحداد ! أيْ ماريا جافريلوفنا
الودود الحبيبة ، لا تحاولي حرماني عزائي الأخير : فكرة أنك كان من الممكن أن ترضي إسعادي لو . . .
_ لا تتكلم ! إكراما لله لا تتكلم !
_ نعم . أعرف . أشعر بأنك كان من الممكن أن تكوني لي ، لكنني _ أتعس مخلوق تحت الشمس _ متزوج .
نظرت إليه ماريا جافريلوفنا ذاهلة ، فأردف : تزوجت . تزوجت منذ أربع سنوات . ولا أعرف من هي زوجي ،
ولا أين هي ، ولا ما إذا كنت سأراها ثانية .
صرخت ماريا جافريلوفنا : ماذا تقول ؟ ! ما أغرب ما تقول ! تابع ! سأحدثك تاليا ، لكن تابع ! أتوسل إليك .
قال بورمن : كنت في أول عام 1812 مسرعا إلى فيلنا حيث كان فيلقي معسكرا ، وعندما بلغت إحدى محطات
السفر في آخر إحدى الأمسيات أمرت بإعداد الجياد بأقصى سرعة ممكنة ، وعندئذ هبت فجأة عاصفة ثلجية مفزعة ، فنصحني ناظر المحطة والسائقون بالانتظار حتى تنتهي العاصفة ، فأخذت بنصحهم ، إلا أن قلقا لا
تعليل له تملكني . بدا كأن شخصا ما يدفعني للمضي قدما ، وفي أثناء ذلك لم تسكن العاصفة . لم أعد أتحمل ،
فأمرت ثانية بإخراج الجياد ، ومن ثم اندفعت في قلب العاصفة . ورأى السائق أن نتبع مسار النهر ، وهو ما شأنه اختصار رحلتنا ثلاثة فراسخ . كان الثلج يغطي ضفاف النهر ، فاجتاز السائق المكان الذي كنا سنصل عنده
إلى الطريق ، فألفينا نفسينا في موضع من الريف مجهول . ولم تقلع العاصفة عن الثوران . رأيت نورا في المدى
، فأمرت السائق بأن يقصده حيث بلغنا قرية . كان في الكنيسة نور ، وكانت مفتوحة ، وتقف خلف سياجها عدة مزالج ، والناس يدخلون إلى رواق الكنيسة ويخرجون منه . صاحت جملة أصوات : من هنا ! من هنا !
فأمرت السائق بالتقدم . قال أحدهم لي : بحق الله! أين كنت تتسكع ؟ ! أغمي على العروس . الكاهن لا يدري
ماذا يفعل . وكنا نستعد للعودة . انزل بأسرع مما تقدر !
فنزلت من المزلجة دون أن انطق كلمة ، ودخلت الكنيسة التي كانت تضيئها شمعتان أو ثلاث إضاءة خافتة .
كانت فتاة صغيرة تجلس على مقعد مستطيل في ركن من الكنيسة معتم ، وكانت فتاة أخرى تمسح وجنتي الأولى .
قالت الأخرى : الحمد لله ! جئت أخيرا . تقريبا قتلت الشابة .
تقدم مني الكاهن العجوز وقال : أتريدني أن أبدأ ؟
أجبت غائبا عن الوعي : ابدأ ! ابدأ يا أبت ! أُنهِضت الفتاة الصغيرة . بدت لي حسنة المنظر . وقفت جانبها أمام المنبر يدفعني طيش لا يفهم ولا يغتفر . أسرع إلينا الكاهن ، وساند ثلاثة رجال مع الخادمة المسئولة عن النوم العروس . لم يعنوا إلا بها . وتزوجنا ! قال لنا الشهود : قبلا بعضكما !
أدارت زوجي وجهها الشاحب لي ، وكنت أهم بتقبيلها حين صرخت : أوه ! ليس هو ! ليس هو !
وسقطت فاقدة الوعي . حملق في الشهود مرتاعين ، فاستدرت ، وغادرت الكنيسة دون أدنى عائق ، وقذفت
نفسي في المزلجة ، وصحت بالسائق : سق !
صاحت ماريا جافريلوفنا : رباه ! ولا تدري ما حدث لزوجك المسكينة ؟
أجاب بورمن : لا أدري . ولا أدري أيضا اسم القرية التي تزوجت فيها ، ولا المحطة التي انطلقت منها . ولم
أهتم كثيرا في ذلك الحين بتلك المزحة الشريرة حتى إنني نمت حال مغادرتي الكنيسة . ولم أصحُ إلا صباح
النهار التالي بعد أن بلغنا المحطة الثالثة . ومات الخادم الذي كان معي أثناء الحملة العسكرية . لذا ليس لدي
أمل في اكتشاف المرأة التي مزحت معها تلك المزحة القاسية والتي تنتقم مني الآن بقسوة .
صرخت ماريا جافريلوفنا آخذة يده : رباه ! رباه ! إذن كنت أنت ! ألا تعرفني ؟ !
فشحب وجه بورمن ، ورمى نفسه على قدميها .
* : للكاتب الروسي : أليكساندر بوشكين .
وسوم: 640